تجربه زنانه
التجربة الأنثوية: مختارات من الأدب النسائي العالمي
ژانرها
كانت تامارا قد تركت قريتها في روسيا، وفقرها هناك، لتنتقل إلى باريس، عروسا ليهودي أرمني يدعى عزرا سولر، كان معجبا بها. كانت آنذاك في السادسة عشرة من عمرها، لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولا تتكلم غير لهجة دارجة يصعب على الروس أنفسهم فهمها. كانت رائعة الجمال في ذلك الحين، وكان التاجر مسرورا بجهلها وهمجيتها. وكان قد اشتراها عمليا عندما تزوجها، وظن أنه قيدها إليه بالزواج، لكنها بعد خمس سنوات في باريس، صارت قادرة على القراءة والكتابة والحديث بالفرنسية في طلاقة. ومنذ تلك اللحظة صارت تستطيع الترويح عن نفسها من دونه، فتخرج بمفردها، وتختار ملابسها بنفسها.
كان سولر فخورا بها، كأنما هي من خلقه. لم يقدمها أبدا إلى أصدقائه دون أن يتباهى بما أجراه عليها من تحسينات، كأنها حيوان أليف. وسرعان ما ضايقها هذا المسلك، وكانت قد تبينت أنه في الخمسين من عمره، نحيف وأصلع، وأن ذكاءه من النوع المدمر. كان سلوكه في المجتمعات لطيفا، لكنه كان يحتقر الجميع. وكان يحب إسداء الخدمات، لكنه كان يفعل ذلك بدافع من ساديته، فقد كان يسر عندما يحتاج إليه من يزدريهم، ويجد في خنوعهم مبررا لازدرائهم. كان يردد أن هذه الخاصية سمة لجنسه، لكن هذه السخرية ذاتها كانت تثير حنقها. واكتشفت أيضا أنه ثري، وأتاح لها كرمه أن تستفيد من ثرائه. فحصلت لنفسها على شقة كبيرة، وفرشتها بأثاث فاخر، ذي ذوق رصين، واشترت سيارة، وحصانا.
راقبها سولر بفضول واستمتاع، تاركا إياها تفعل ما تشاء. توقع أن تكشف عن ذوق همجي، وترتمي فوق الجواهر والشرائط والملابس المعقدة. لكنها بدلا من ذلك كانت تنزع إلى البدلات المحاكة، أو البنطلونات الفضفاضة في المنزل، رافضة أن تكشف عن كتفيها الجميلتين في أردية السهرة، كما عكست شقتها نفس الرصانة والعزيمة. وابتسم سولر لنفسه عندما شاهدها تخطو في غرفتها ببنطلون الفروسية، وترمي بقفازاتها السميكة، أو بسوط الركوب، فوق مائدة واطئة، وقد أمتعته هذه البوادر الرجولية. كان يحب غرفتها، ويدعوها ضاحكا بالحظيرة، أو بالجاراج، لكنه شعر بأن رغبتها في الاستقلال موجهة بلا وعي ضده، فوجد لذة خبيثة في تحطيم أي وهم بالحرية يدور بخلدها، بمجرد وجوده. فتعود أن يتناول طعامه، ويروح عن نفسه، في حلبة أحدث المعجبات بها، ولاحظ كيف تعامل كافة صديقاتها بتعال نابع من شعور لا واع بالانتقام. فحدث نفسه، إن نزعات تامارا ونزواتها، مدعاة للطمأنينة. واكتفى بأن يذكرها بوجوده، بين الحين والآخر، بكلمة لاذعة يشحب لها وجهها من الغضب. وحدث نفسه أنه يتسلى بترويضها بهذه الصورة، فلم يدرك أنه يحبها.
وقد استقبل إميلي بنفس الطريقة التي اتبعها مع صديقات زوجته الأخريات، ولو أنه دهش قليلا من صغر سنها - فلم تكن قد بلغت العشرين بعد - والحرية الغربية التي أتاحها لها أبوها. كانت قد جاءت من جزيرة جيرسي إلى باريس لتتعلم الفرنسية وستبقى بها عامين. أعجبه وجهها الجميل المعبر، لكنه اعتبرها بغير ذات أهمية. لهذا لم يكن لذهوله حد عندما تركته تامارا لتعيش مع إميلي. ومع ذلك استمر يقدم لتامارا دخلا صغيرا، متظاهرا بأنه يفعل ذلك بدافع النبل الخالص، بينما كان ذلك في الواقع بأمل استعادتها ذات يوم.
أقامتا في مسكن صغير مشمس، أقرب إلى الدير، حيث عكفت الفتاة الشابة على دراستها. وكان المبلغ الذي أعطاه سولر لتامارا محسوبا بدقة: إذ يكفي بالكاد ليحول بينها وبين العمل؛ فقد كان يعرف جيدا مدى حماقتها وطيشها وأنها لن تفكر في العمل إلا إذا دفعتها الحاجة الماسة إلى ذلك. وجه آخر لحسبته الدقيقة، أن يجبرها على الاقتراض منه كل شهر. وفي كل مرة تأتي إلى مكتبه من أجل النقود، كان يحصيها ببطء، وهو يرقب وجهها، بحثا عن تورد عابر، أو طرفة عين، تكشف عن شعور بالمرارة أو الأسف. لكن تعبير تامارا وهي تتأمل الأثاث المطعم، واللوحات، ومنافض السجائر الفضية، لم يكشف إلا عن قناعة جذلة، كأنما تقول: «لا يمكن الحصول على كل شيء.»
لا أعرف سوى القليل عن علاقتها بإميلي: أنها استمرت سنتين ونصف السنة، وكانت مشبوبة، عاصفة وجامحة، لكن سعيدة في إجمالها. وقد قرأت الرسائل التي كتبتها إميلي لتامارا عندما افترقتا ذات صيف، فاحمر وجهي خجلا. وأخيرا تركتها إميلي إلى «شاب ممتاز»، مهندس بلجيكي، كان ذاهبا إلى الكونغو. وأعرف أقل من ذلك عن الفترة التي أعقبت هذا الأسى العظيم في حياة تامارا، والتي سبقت لقائي بها. فمن إشارات عابرة منها، استنتجت أن تلك الفترة تميزت بالغرف المفروشة، والمطاعم الرخيصة، وبطاقات الدرجة الثالثة بالقطارات. وكان علي أن أحدس الجوانب الخفية في تلك الفترة، من التعاسة اللامبالية، والدائنين اللحوحين، والبوابين عكري الأمزجة، والملابس التي يتعين رهنها أو بيعها، والغرامات الوجيزة الضرورية.
ما الذي أتى بها إلى هنا؟ كيف التقت بماكس فيلار، الفنان الذي هيأ لها، بدافع الشفقة، هذا المسكن في شارع رامبار دي بيجوين؟ أسئلة ظلت بلا إجابة. وعندما التقيت بها، كان قد مضى عليها في هذه الشقة سنتان، أنفق أبي عليها خلالهما، على نطاق ضيق. وبين زياراته، كانت تشغل وقتها بالكتب التي كانت تلتهمها التهاما، والشاي، والسجائر التي تفرط في تدخينها - وهي بلا شك السبب فيما كان يعتريها من كآبة - وفي بعض الأحيان تجرع زجاجة ويسكي كاملة.
في زيارتي الثانية لها، قامت بأكثر من تقبيلي، وما لقنتني إياه ظل مبعث قلقي لأمد طويل فيما بعد.
ذات مرة، حدثتني إحدى المدرسات بصورة ضبابية عن العادات السيئة التي تدمر الصحة وتتسبب في أمراض مرعبة. ولم أعر هذا الحديث اهتماما كبيرا وقتها (وأظنها الآن ترجع شرودي الدائم ولامبالاتي إلى تلك العادات). وما إن أدركت المقصود بتلك العادات، حتى أصبحت نهبا لمشاعر قلق ضاعف منها الغموض الذي أحاط بها. حتى المتعة التي أمدتني بها تلك الملاطفات، بدت لي من علامات المرض، ولم أجرؤ على الحديث عنها مع تامارا (خوفا من سخريتها)، فأشبعت نفسي قلقا دون أن أعرف ماذا أفعل.
أما الوساوس الأخلاقية، فلم يكن لدي منها شيء. في أول يوم، كنت أرتعد وأنا جالسة مع أبي إلى المائدة، خوفا من أن يرتفع عنه الحجاب فجأة، ويتبين من وجهي ما جرى. وفي المدرسة كنت أخشى أن يشير إلي أحد بإصبع العار لأن وجهي خانني. لكني سرعان ما أدرك أن أحدا لم ير شيئا. وعلى العكس، بدأ الآخرون يهنئونني على أني لم أعد أغرق في الأحلام، وأني أصغي بانتباه أكثر لما يقال لي. هكذا انتصر الفسق! وتحسنت درجاتي في الصف الدراسي، وهو ما أثار حرجي. فبعد أن كنت متخلفة دائما بشكل يثير الرثاء، ارتفعت إلى درجة تنبئ بأني، لأول مرة، لن أضطر لتكرار امتحان نهاية العام.
صفحه نامشخص