إذا كنا نسلم بالعناصر الرئيسية التي وضعها أهل الخبرة للمسرح بعد طويل من التجارب، والتي بنوها على المفتتح، وابتداء العقدة، ونقطة التحول، وانحدار نحو الختام، والخاتمة، فإنه من المسلم به أن خاتمة المأساة تنتهي بصراع البطل ضد قوات معادية، وينتهي الصراع بهزيمة البطل، على حين ينتهي في الملهاة بانتصاره. وعلى ضوء هذه المبادئ نقول: إن «مسرحية تاجر البندقية» هي ملهاة ينتصر فيها أنطونيو علي كل الصعوبات التي اعترضت سبيله. فعلى حين تتأزم الأمور أمام أنطونيو ويعجز عن الوفاء بدين شيلوك في موعده، وتأتيه أخبار الخسارة لعروضه وأمواله وسفنه في الساعة التي يفرح فيها باسانيو بزواجه من بورسيا - على حين يحدث ذلك إذا بالمحاكمة تبدأ، وإذا بالفتاة الثرية العاقلة بورسيا تحول القانون في براعة وحذق إلى صدر شيلوك، فتختلط المأساة الفرعية العارضة بالملهاة الأصيلة، وينتهي ذلك كله بالنهاية السعيدة على نغمات الموسيقى، وفي سفور القمر المطل المضيء على قصر بورسيا بمدينة بلمونت.
ولقد نحى شكسبير وحدة الزمان والمكان جانبا في هذه المسرحية، وجرى على وحدة أكمل وأتم - هي وحدة الحياة. وبذلك سار على طريقة ابتداعية خالف بها المذهب الاتباعي القديم «الكلاسيكي».
وتستغرق هذه المسرحية في مقياس الزمان ربع عام تدور فيه الأحداث مدارها، ولكنها تبدو لنا حين نسمعها أو نقرؤها أنها تدور في ساعات قصار ... على حين تنتقل المشاهد من مدينة البندقية إلى مدينة بلمونت طردا وعكسا. وهنا يحق لنا أن نقول مع القائلين: إن الوقت عند شكسبير مستقل كل الاستقلال، أو غني كل الغنى عن الساعات والتقاويم ...
أشخاص المسرحية
ليس مبالغة في القول أن نقول إن مسرحية «تاجر البندقية» غنية غنى وافرا في شخصياتها. وهو غنى ليس في الكم وحده، ولكنه يضيف إلى الكيف ما يجعل هذه الرائعة واحدة من أجمل روائع شكسبير. ولقد قسم الشاعر الإنساني أشخاص روايته إلى مجموعات متشابهة أو غير متشابهة ولكنها محكمة الاختيار إلى حد يجعل كل واحدة منها قائمة واضحة المعالم، ثابتة في المكان الذي اختاره لها المؤلف، بحيث لا يختلف وضع مع وضع، ولا يتنافر شيء مع شيء ... فهناك مجموعة يتوسط عقدها تاجر البندقية - أنطونيو - وهناك مجموعة يتوسطها شيلوك، ومجموعة تتوسطها الفتاة الثرية العاقلة الحصيفة بورسيا. على أنه ليس من الإنصاف ونحن في معرض تحليل شخصيات المسرحية أن نغفل الإشارة إلى جسيكا بنت شيلوك وهي التي شغفها الفتى المسيحي لورنزو حبا، فهربت معه بما حملته من أموال أبيها البخيل وجواهره. وهما شخصان ذوا دورين عارضين في الرواية، إلا أنهما يكبران شيئا في خلال المسرحية حتى يبدوا من أهم عناصرها. ولنبدأ بشخصية:
أنطونيو
هو شخصية هامة جذابة في المسرحية، وفي طيبة طبعه وسلامة نفسه ما يجعل منه بطلا طيبا إذا وزن بمقابله شيلوك. ويبدو على ملامح وجهه الطيب ما يبين عن أنه مثقل النفس بهموم ثقال، فهو حزين في أول مشهد من المسرحية حزنا لم يستطع أن يكشف عن أسبابه لصديقيه سالارينو وسالانيو، فقد ظنا أن به لوعة من وجد أو خوفا من توقع خسارة في تجارته. إلا أن سمات الكآبة البادية غالبا على وجهه لم تستطع أن تغير شيئا من كرم نفسه ورفيع صفاته. فهو جواد بأعز ما يملك، لا يضن بمذخور التلاد على أصدقائه، فهو صبور في المحن، عاف عن الزلات، حر حين يحب، وصريح حين يكره، وهو يحب المال لا لذات المال، ولكن ليعين به صديقا أو يسعف به مكروبا. ألم تدفعه المروءة إلى أن يضمن صديقه باسانيو عند اليهودي شيلوك الذي أقرضه المال على شرط أن يأخذ رطل لحم من جسمه إذا فات موعد وفاء الدين ولم يستطع المدين وفاء؟ وقد ظل أنطونيو طول المسرحية طيبا من جميع نواحيه، إلا أنه كان شديد الوطأة في حملاته اللسانية على شيلوك اليهودي حين كان ينعته بأشنع الأوصاف وأقذر النعوت، وحين أعلن أمام دوق البندقية أنه تهيأ صابرا لما ترميه به نفس شيلوك الخبيثة من الرزايا. ولقد استسلم أنطونيو للمصير الذي يريده به اليهودي من قطع رطل من اللحم من جسمه، وتمنى - في غير سخط ولا جزع - لو حضر صديقه باسانيو ليرى بعينيه كيف جاد بحياته في سبيل الوفاء بدينه. وهنا يتغير موقف المخاصمة والمحاكمة بين شيلوك وأنطونيو حينما تتولى بورسيا الدفاع عن أنطونيو، فتجعل من حرفية القانون سلاحا ضد شيلوك بدلا من أن يكون سلاحا في يديه. وتنجلي هذه الغمرات كلها ضد أنطونيو عن انتصاره وانتصار صديقه باسانيو، كما تنجلي عن سلامة سفنه التي أشيع أنها كانت قد صارت إلى هلاك في عرض البحار.
باسانيو
هو صديق أنطونيو الذي اقترض له المال بضمانته من شيلوك، وكان باسانيو بحاجة إلى المال ليتقدم به إلى خطبة الفتاة الوارثة الجميلة بورسيا، فكل محنة لقيها أنطونيو كانت من أجل باسانيو. وكان كل شيء في المسرحية ينبئ بأن باسانيو هو المقدور أن يكون زوجا لبورسيا الجميلة على الرغم من ازدحام الخطاب من الأمراء على بابها، فجاء اقتراع الصناديق من نصيبه مؤيدا لاختيار بورسيا لو كان لها وحدها الخيار. فهو فتى سري النفس نظيف السلوك. وهو فوق ذلك رقيق الحس. ما كاد يعلم - وهو في مباهج العرس بزواجه من بورسيا - بأزمة أنطونيو وإلحاح اليهودي عليه بتنفيذ الشرط في اقتطاع رطل اللحم من جسمه، حتى ترك زوجه الجميلة في ليلة عرسها وخف إلى مكان المحاكمة لعله يفتديه أو يسعفه بالمال الكثير الذي أمدته به بورسيا لو أمعن اليهودي شيلوك وغالى في المطالبة بمال بدلا من رطل اللحم ...
بورسيا
صفحه نامشخص