وها هنا كانت المعرفة هي أن تقرأ وتكتب، ثم تبليغ المعرفة إلى أقصى درجاتها، حين تبلغ المادة المكتوبة المقروءة أبلغ صورها وأفصحها وأجملها، أعني حين تكون «أدبا» أو ما يتصل بالأدب بصلات القربى. ولئن كان ذلك كذلك بالنسبة إلى الإنسان عامة، فهو كذلك بصفة أخص، وعلى نحو يلفت النظر بالنسبة إلى العرب الأولين.
اللغة هي عزهم، وهي مجدهم، وهي ثقافتهم، وهي فنهم، وهي علامة إعجازهم، وخصوصا إذا ما ارتفعت إلى مستوى الشعر. انظر كم بذلوا من جهود في حفظها وصيانتها، ولما نشبت معركة التفاخر بالأصول والأنساب فيما يسمى بالحركة الشعوبية، طفق المفاخرون بعروبتهم يجمعون ويرصدون، فماذا جمعوا وماذا رصدوا ليقدموا علامة السؤدد والأصل الكريم؟ جمعوا الألفاظ ورصدوها، وجمعوا الشعر الذي قاله الأسلاف ... صور أبو العلاء الجنة وصور الجحيم، فلم يكن في جنته أو في جحيمه إلا شعراء أو من صناعتهم «الكلمة»، وصور ابن شهيد في «التوابع والزوابع» وادي الجن، فلم يعمره إلا بالشعراء والكتاب، حتى البغال والحمير والطير التي صادفها ابن شهيد في وادي الجن ذاك، كانت كلها صانعة للشعر أو منشغلة بنقد الأدب. ولقد حكموه بين قصيدة قالتها بغلة وأخرى قالها حمار ليوازن بينهما، وحكم للبغلة بالتفوق، فاحتجت إوزة أديبة هناك على ضلال الحكم وفساده.
كم أمرا كان يكفيه ليقضي أن يقول صاحب الحاجة قولا فيقع القول موقع الإعجاب من سامعه؟ جمال الكلمة في ذاته مفتاح للأبواب المغلقة، يفتح الطريق إلى مناصب الدولة، ويفتح الخزائن بالرزق الغزير. كان يكفي لصد الرجل عن قضاء غايته ألا يكون موهوبا بالنطق الجميل، كما يكفي لإقبال الدنيا بكل زخرفها على رجل أن يوهب القدرة على صياغة الكلام ... «إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن، فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر عن الحاجة لا يستوجبها فيعرب، فأجيبه إليها، التذاذا لما أسمع من كلامه» - هكذا قال عمر بن عبد العزيز، وهكذا كان موقف العربي على إطلاقه.
وليس لهذا الحديث نهاية نقف عندها، فما أظن أحدا منا لا يلم بكثير أو قليل بما كان للغة - من حيث هي لغة وكفى - من أهمية وخطر، في الثقافة العربية كلها، لكن الذي يفوتنا إدراكه هو أن هذه الثقافة العربية - في كثير جدا من الحالات - لم يكن يعنيها أن تكون للصيغة الكلامية دلالة في دنيا الطبيعة وعالم الكائنات. إن الصيغ اللغوية إنما تفعل فعلها كله ما دامت حسنة التركيب جميلة الجرس، ولا على صاحبها ولا على قارئها بعد ذلك أن يهتدي بها في تجارة أو صناعة أو سفر أو قتال أو في أي شأن من شئون العيش. هي كالقماش المخرم (الدانتيل) يكفينا فيه جمال زخرفه وجودة خرومه وحسن وشيه وتطريزه، ونضعه على المناضد لننظر إليه، بل قد نخزنه في خزانة النفائس لنعلم أنه هناك وكفى، ولا نطلب منه أن يؤدي في حياتنا شيئا؛ إننا لا نلبسه، بل وقد لا نتزين به. وهكذا قل في صيغ الكلام التي تؤلف شطرا ضخما من الثقافة العربية، تقرأ المقامة من المقامات، بل تقرأ صفحات طوالا عند رجل عاقل كأبي العلاء - في رسالة الغفران مثلا - فلا تجد إلا الرغبة في إقامة البرهان على أنه يعرف اللغة من حيث هي لغة قائمة بذاتها، لا من حيث هي أداة للمعرفة وناقلة للأخبار والمعلومات عن أشياء الدنيا وكائناتها. اللغة في تراثنا أقرب إلى الأشكال الهندسية، تكفي نفسها بنفسها، منها إلى مسائل الجبر والحساب، يوصل فيها إلى حلول، ماذا تبغي من زخرف هندسي ركبت فيه مثلثات ودوائر إلا أن تنظر إليه وتنعم النظر؟ لكنك لا تكتفي بمجرد النظر إلى رموز الجبر وأرقام الحساب، بل تسارع إلى السؤال حيالها: ماذا يراد بها؟ ووقفتك من الزخارف الهندسية هي وقفة المثقف العربي من بناءات الكلام.
وهنا يكون موضع التحول العظيم لينتقل العربي من حال إلى حال، ألم نسأل في ختام الفقرة السابقة قائلين: إذا سلمنا بأن عصرنا هذا هو عصر التحول، فمن حقنا أن نسأل سؤالا لا محيص عنه، وهو: تحول من ماذا؟ وها نحن أولاء نضع الجواب: من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء.
وليس الأمر مقصورا علينا، بل إنه ليعم الدنيا بأسرها في تحولها الراهن، إنه تحول يسير في خط واحد، ولا مجال فيه للاختيار والتردد؛ إذ هو - دائما وفي جميع الحالات - انتقال من ثقافة الكلمة إلى ثقافة العلم المؤدي إلى عمل، بل إن هذا «العمل» لم يعد يترك على إطلاقه، وإنما هو عمل محدد الخصائص، إذا أريد للأمة أن تكون «معاصرة»، وذلك أن يكون عملا في دنيا «الصناعة» بمعناها الآلي الحديث، لا بصورتها اليدوية القديمة. الصناعة، والصناعة وحدها، هي طابع التحول الحديث، الصناعة القائمة على علوم وعلى تقنيات، لا القائمة على خبرة العامل الذي مهر في مهنته.
كان مجتمع ما قبل العلم والصناعة أحد اثنين: فهو إما مجتمع بدائي ما يزال يعيش مع الساحر والكاهن - وقلما نجده الآن - وإما هو مجتمع ذو أبعاد عميقة في ثقافته وفي حضارته، لكنهما ثقافة وحضارة لا تقومان على العلوم والتقنيات الآلية، وها هنا تقع الأمة العربية مع سواها من البلدان «النامية» برغم ما لها من مجد ثقافي عريق.
قتل قابيل أخاه هابيل، فقيل في ذلك إنه رمز على أن الزارع قتل الراعي، وأن مرحلة من مراحل الحضارة البشرية - هي مرحلة الزراعة - قد أعقبت مرحلة أكثر بدائية منها هي مرحلة الرعي. ونريد اليوم من ينهض ليقتل قابيل الزراعة، حتى يخلي المكان لمرحلة ثالثة هي مرحلة الصناعة الآلية. الصناعة لا تحتاج من الإنسان إلى عضلات ذراعه أو ساقه، وكل ما تحتاج إليه أزرار تضغط عليها أضعف الأنامل، فتدور العجلات وتؤدي الآلة سائر الشوط كله.
ولو تحقق التحول على هذا الوجه، انتقل الإنسان من فكر إلى فكر، من حياة إلى حياة، من أخلاق ومعايير إلى أخلاق ومعايير. إنه ينتقل من ثقافة «الكلمة» إلى ثقافة «التشكيل» الذي يغير بها وجه الأرض، ويحاول بعدها أن يبدل وجه السماء وأجرامها، على الأقل بأن يزيح عنها السحر ويرفع النقاب. •••
لم يعد في أمر التقدم سر - كما يقول «سي، بي، سنو» - لأن طبيعته قد انكشفت، والوسيلة إليه لم تعد تحيط بها الشكوك؛ فقد كان يمكن للكاتب المفكر منذ نصف قرن أن يسأل: ما سر تقدم هذه الأمة أو تلك؟ أهي أخلاق أبنائها؟ أهو علمها؟ أهي الحرية في نظامها السياسي؟ إلى آخر هذه الأسئلة. أما الآن فلا حاجة إلى سؤال لأن الجواب معروف.
صفحه نامشخص