ولست أرى كيف أنتفع بهذه العدة كلها، بملحقاتها وملحقات ملحقاتها، سلاحا أخوض به معمعان هذا العصر؟ إن أبناء هذا العصر في سباق مميت نحو القوة بكل ضروبها، من سلاح وصناعة وعلم ومال وصحة وغيرها، فهل تفيدنا هذه المئونة الفكرية زادا على الطريق؟ نعم، قد تنفع زادا على الطريق إلى الجنة في اليوم الآخر، وهذا هدف - لا شك - منشود، لكن سؤالنا في هذا الكتاب منصرف دائما - دون التغاضي عن السعادة الأخروية وسبلها - إلى هذه الحياة الدنيا، وفي هذا العصر الذي نعيش تحت سمائه؟ إنني أترك للقارئ أن يجيب.
بل قد تجد من صفوة الأئمة الأقدمين من ينكر علي مثل هذا النظر أن يكون سبيلا إلى سعادة اليوم الآخر، ويرى فيه محاولة للانسلاخ من شرائع الدين، فهذا هو الإمام الغزالي، يؤلف كتابا بأكمله، يسميه «فضائح الباطنية»، ليكشف به ما قد تنطوي عليه هذه الوجهة من النظر، فيقول:
إن الباطنية سميت بهذا الاسم لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار، بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشرة، وعندهم أن من ارتقى إلى علم الباطن، انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه، وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع، فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر فهموا الباطن فهما يمكنهم من الانسلاخ عن قواعد الدين؛ لأنه إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة، فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه.
فالسبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة - هكذا يقول الغزالي في الفصل الثاني من الباب الثاني - هو الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين. ثم يقول: تشاور جماعة من المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين، وينفس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع، وتكذيب الرسل، وجحد الحشر والنشر والمعاد إلى الله في آخر الأمر.
فبعد أن استولى المسلمون على ملك أسلافنا - هكذا يتصور الغزالي مخاطبة تلك الطوائف لنفسها - وانهمكوا في التنعم في الولايات، مستحقرين عقولنا ... ولا مطمع في مقاومتهم بقتال، ولا سبيل إلى استنزالهم عما أصروا عليه إلا بمكر واحتيال ... فسبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم، وهم الروافض، ونتحصن بالانتساب إليهم، ونتباكى لأهل البيت عما حل بآل محمد ... ونتوصل بذلك إلى تطويل اللسان في أئمة المسلمين، حتى إذا قبحنا أحوالهم في أعينهم، انسد عليهم باب الرجوع إلى الشرع وسهل علينا استدراجهم إلى الانخلاع عن الدين، فإن بقي عندهم معتصم من ظواهر القرآن ومتواتر الأخبار، أوهمناهم أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن، وأن أمارة الأحمق الانخداع بظواهرها، وعلامة الفطنة اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليها عقائدنا، ونزعم أنها المراد بظواهر القرآن.
ويمضي الغزالي في بقية أبواب الكتاب وفصوله يبين مذهب الباطنية جملة وتفصيلا؛ ليظهر فيه مواضع المؤاخذة والتناقض، ويكفي أنه مذهب يستند إلى قول الإمام المعصوم، منكرا على العقول أن تكون مدرجة للحق.
فإذا كان هنالك من يرى في هذا المذهب طريقا مسدودة بالنسبة إلى علاقة الإنسان بالله وباليوم الآخر، فماذا عساه أن يكون بالنسبة إلى أمور الحياة الدنيا، وفي هذا القرن العشرين؟ •••
ويبدو لكاتب هذه الصفحات أن أهم جماعة يمكن لعصرنا أن يرثها في وجهة نظرها - بغض النظر عن الموضوعات التي كانت مطروحة لبحثها؛ لأن لكل عصر موضوعاته التي تعنيه قبل سواها - أعني أن يرثها في طريقتها ومناهجها عند النظر إلى الأمور، هي جماعة المعتزلة التي جعلت «العقل» مبدأها الأساسي كلما أشكل أمر. ومع ذلك فلم يكن ينظر إلى هذه الجماعة نظرة الرضا، بل عدت عند كثيرين جماعة ضالة انحرفت عن طريق الإيمان الصحيح، فالذين اعتقدوا أن الحقيقة إنما وسيلتها الإيمان الصحيح، فالذين اعتقدوا أن الحقيقة إنما وسيلتها الإلهام ثم التعليم، أي أن الإمام الملهم تنكشف له الحقيقة انكشافا، ومن ثم ينقلها إلى عامة الناس بالتعليم؛ لم يكونوا ليستريحوا لجماعة المعتزلة بسبب اعتماد هذه الجماعة على العقل؛ لأن إمعان النظر في موقفهم يبين أنهم بمثابة من أنكر النبوة ذاتها؛ إذ يتلخص موقفهم هذا - كما عبر عن ذلك مفكر متطرف كالراوندي - في هذا القياس الإحراجي: إما أن تتفق رسالة النبي مع العقل وإما أنها لا تتفق، فإذا كانت الأولى فلا فائدة منها لأن في العقل ما يكفي، وإن كانت الثانية فهي أولى بالرفض من القبول.
ويضعهم عبد القادر البغدادي (في كتابه «الفرق بين الفرق») مع فرق الضلال، ويقول: إن المعتزلة افترقت فيما بينها عشرين فرقة، كل فرقة منها تكفر سائرها، يضيف إليها اثنتين يصفهما بأنهما كانتا من غلاة الكفر، وهو يرى أن الفرق العشرين المعتدلة - على ضلالها - تختلف فيما بينها حول تفصيلات كثيرة، لكنها جميعا تتفق على أمور:
منها: نفيها كلها عن الله عز وجل صفاته الأزلية، وقولها بأنه ليس لله عز وجل علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا سمع، ولا بصر، ولا صفة أزلية. وزادوا على هذا بقولهم: إن الله تعالى لم يكن له في الأزل اسم ولا صفة.
صفحه نامشخص