كذي الضنى عاد إلى نكسه
لكن غافله السياف، فإذا رأسه يهوي على النطع ... وقضي على الشاعر، لم ينفعه كتمان رأيه، ولم يشفع له أن أعلن توبته. وإنا لنسأل: ماذا لو كان على عقيدة تخالف عقيدة خليفة المسلمين؟ ألم يكن يكفي هذا الخليفة أن يقول لمن خالفه: «لكم دينكم ولي دين»؟
وانظر إلى قصة الحلاج المتصوف بعد بشار الشاعر؛ قال هذا المتصوف ما قاله عن مذهبه في الحلول، وناظره علي بن عيسى الوزير، وضاق به، فقال له آخر الأمر: تعلمك لطهورك وفرضك أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها ... ما أحوجك إلى أدب!
لو اقتصر الوزير على المناظرة رأيا برأي ومذهبا بمذهب لما وجدنا في الأمر إلا ما يدعونا إلى الزهو بماضينا الفكري، أما هذه الخاتمة المنذرة التي ختم بها الوزير حديثه، وهي أن الحلاج في حاجة إلى وزير يؤدبه، فتلك هي الطامة؛ لأن السلطة عندئذ تختلط بالرأي. ولقد حدث بالفعل أن أمر السلطان بضرب الحلاج ألف سوط، وبقطع يديه، ثم بإحراقه بالنار.
كان ذلك - إذن - مصير شاعر اختلفت عقيدته، وكتم اختلافه في صدره ابتغاء التقية فما أفلح معه كتمانه، ومصير متصوف ذهب في تصوفه مذهبا لم يقبله أولو الأمر، فكان جزاؤه ما كان من ضرب بالسياط، وتقطيع لليدين، وإحراق بالنار. فانظر بعد ذلك إلى قصة أديب ناثر وحكيم لا نزال إلى يومنا هذا نقرأ له أدبه الساحر وحكمته النافذة، هو ابن المقفع.
كان بالبصرة عندما كان سفيان بن معاوية نائبا عن الخليفة فيها، وكان بين الرجلين - سفيان وابن المقفع - مناوشات ومغايظات، لم يخل بعضها من ظرف وفكاهة، كأن يكون سفيان كبير الأنف، فيتعمد ابن المقفع إذا ما دخل عليه أن يقول السلام عليكما، كأنما أنف الرجل لضخامته رجل آخر يصاحبه. وكأن يقول سفيان ذات يوم لابن المقفع - ردا على قول ابن المقفع عن نفسه إنه ما ندم قط على سكوت: صدقت، فالخرس لك خير من كلامك.
وهكذا أخذ الرجلان يتبادلان قوارص الكلمات، لكن مع هذا الفارق الكبير، وهو أن أحد الرجلين كان ذا سلطان، وأما الآخر فبضاعته أدب وفكر؛ فلبث صاحب النفوذ والجاه يدس لصاحبه عند الخليفة المنصور في بغداد، حتى ظفر منه بالإذن أن يقتل الأديب الحكيم، فهل يقتله كما يقتل المجرمون؟ لا، فللأدباء الحكماء ضروب أخرى من التعذيب؛ فقد أحمى سفيان لفريسته تنورا، وجعل يقطع من جسم ابن المقفع شريحة بعد شريحة - وهو حي - ويلقي بالشريحة في التنور، ليرى المسكين أطرافه كيف تقطع ثم تحرق، قبل أن تحرق بقيته دفعة واحدة آخر الأمر.
على أن الخبر الخاص بما يسمونه محنة القرآن: أقديم هو أم حادث؟ كاف وحده لتصوير العلاقة بين صاحب القوة السياسية والأعزل منها، حين يقع بينهما اختلاف في الرأي، مهما تكن منزلة هذا الأعزل بين أهل العلم؛ فليأذن لي القارئ في إطالة الوقوف هنا لأقدم له صورة وافية بتفصيلاتها؛ ليفهم ما أعنيه حين أقول إن الجالس على دست الحكم، كان في الوقت نفسه هو صاحب الرأي الذي لا رأي سواه، فإما اتفقت معه فنجوت، وإما اختلفت فالويل لك ويلا لا تدري متى يبدأ ولا كيف ينتهي.
كان هنالك رأيان عن القرآن، من حيث الحداثة والقدم، يذهب أحدهما إلى أن القرآن لكونه كلام الله فلا يعقل ألا يكون أزليا مع أزلية الله، وإلا فهل جاء زمن كان الله فيه بغير كلامه - أي بغير علمه - إلى أن شاء فأنزله على رسوله؟ ويذهب الرأي الثاني إلى أن القرآن حادث، بمعنى أنه لم يوجد إلا وقت نزوله، وأما قبل ذلك فلم يكن.
وكان هنالك من الفقهاء والمتكلمين من يأخذون بالرأي الأول - ومنهم الإمام أحمد بن حنبل - وتصادف أن يكون الخليفة المأمون ممن يأخذون بالرأي الثاني، فهل يترك كل رجل وشأنه فيما يرى؟ لا، بل يأخذ الخليفة لنفسه حق التنكيل بمن لا يرى رأيه على النحو الذي سنصوره للقارئ، على أني إذ أقدم للقارئ هذه الصورة، فلست أعني أنني أناصر طرفا دون الآخر من طرفي النزاع، هذا واضح؛ إذ أقل ما يقال هنا هو أن المشكلة بأسرها لم تعد مشكلة لنا اليوم مما يستدعي التعصب لرأي دون رأي، وإنما أقدم هذه الصورة للقارئ ليرى فيها شيئين، ذكرت له أولهما، وهو أن صاحب الحكم في عرف أسلافنا كان هو نفسه صاحب الرأي، ويحق له أن يسحق كل رأي سواه. وأما الثاني فربما كان أبشع من ذلك وأفظع، وهو أننا - نحن أبناء هذا العصر - نقرأ أمثال هذه الأخبار في مراجعها، فنكاد نمر عليها كما لو كانت هي الحالة الطبيعية للأمور، فمن المألوف عند الكثرة الغالبة منا أن يقرأ القارئ منهم أخبار السلف، فيجد فيها أن الخليفة الفلاني أو الوزير الفلاني قد استدعى هذا الفقيه أو ذلك المحدث أو الشاعر، أو من شئت من رجال الفكر والأدب، واختلف معه فأمر بقتله أو بسجنه أو بضربه، أو اتفق معه فأمر بأن يخلع عليه كذا وأن يمنح كيت. أقول إنه من الطبيعي المألوف عند الكثرة الغالبة منا أن تقرأ أمثال هذه الأخبار، فلا تأخذ الدهشة أحدا، بل إن القارئ منا بعد أن تصادفه عشرات الأمثلة من هذا القبيل المتعسف، تراه يخرج من ذلك كله وهو ما يزال على إيمانه بوجوب إحيائنا للتراث، بغير تفرقة بين جيد ورديء.
صفحه نامشخص