وتتحول هذه النتيجة إلى ما يشبه القانون أو المبدأ العام عندما يأتي المشهد الختامي على نحو ما رأينا، ليعبر عنه في صورة حية بعيدة عن التجرد؛ صورة تكاد أن تكون إحدى معجزات الخلق الأدبي والفني؛ ذلك لأنها توحي بذلك المبدأ أو تدعو إليه في وقت واحد، حين تقول بإيجاز وبساطة وعفوية: إن كنتم تبحثون مثلي عن الخلود فها هو ذا أمامكم سور أوروك، ومعبد عشتار الطاهر، و«شارات» الأرض الطيبة، هي الخلود الوحيد المتاح لأمثالنا من الفانين. وأنا وأمثالي وملحمة صراعي مجرد «أمثولة» لهذا الخلود الوحيد.
تحدثنا مرارا عن طغيان جلجاميش، وعن احتمال تطهره التدريجي منه، وقد آن لنا أن نستدرك ما فاتنا، ونتوقف قليلا عند مفهوم «الطغيان»؛ لمحاولة تحديده وتمييزه عن غيره من المفاهيم، التي يتشابك معها وينتمي إليها كعضو من أعضاء تلك العائلة «غير المقدسة»، التي تضم معه الاستبداد والأوتوقراطية والحكم الفردي المطلق والهمجية والفوضوية والدكتاتورية والشمولية (في استخداماتهما ودلالاتهما الحديثة)، بجانب ما تثيره جميع هذه التصورات والمفاهيم من إيحاءات قوية بالقهر والقمع والتحكم، وما توحي به على العموم من تخلف - مقترن عند الأوروبيين منذ القدم بمفهوم الشرق نفسه! - في مستويات التحرر والتعقل والتقدم، إن لم يقترن بانعدامها أصلا في ظل الهيمنة المطلقة ل «السيد» الواحد على ملايين العبيد، كما عبر هيجل (1770-1831). والواقع أن مفهومي الطغيان والاستبداد يكادان أن يكونا متداخلين ومتعاصرين، ولا سيما حين نتأملهما من المنظور الشرقي الذي يعنينا قبل غيره في هذا السياق؛ فكل منهما يلقي على الآخر ظلاله السلبية السوداء، ويدل على السيطرة الشاملة من قبل نظام أو فرد مطلق السلطة، سواء انصرفت هذه السلطة إلى إساءة استخدامها لتحقيق مصلحة ذلك الفرد كما هو الحال مع الطاغية، أو إلى استخدامها للصالح العام، وبمقتضى القانون والدستور في أغلب الأحيان في حالة المستبد (وإن لم يمنع الأمر في بعض الظروف من تحول هذا الأخير إلى طاغية بالمعنى «الشرقي» أو «الآسيوي» السيئ). ولقد مر مصطلحا الاستبداد والطغيان بتاريخ طويل يشهد على تداخلهم إلى حد الاندماج والترادف، أو تغايرهما إلى حد التفرقة الحاسمة بينهما على أيدي فلاسفة الفكر السياسي الغربي، منذ عهد أرسطو ونظريته المشهورة التي قدمها في كتابه «السياسة» بوجه خاص عن الاستبداد، إلى عدد كبير من كبار المفكرين السياسيين، الذين ميزوا مفهوم الاستبداد تمييزا واضحا عن غيره من المفاهيم المرتبطة معه، ومن أهمها الطغيان. وقد كان مونتسكيو (1689-1755م) في طليعة هؤلاء المفكرين؛ إذ أعطى الاستبداد مكانة خاصة، وجعل النظام الاستبدادي أحد نظم الحكم الثلاثة التي اعترف بها، وساعد على أن يحل مفهوم الاستبداد في فرنسا القرن الثامن عشر بصفة نهائية محل مفهوم الطغيان؛ للدلالة على نظام السيادة والسيطرة المطلقة في مقابل إساءة استخدام السلطة من جانب حاكم فرد كما سبق القول، إلى أن عبر الفيلسوف الاجتماعي توكفيل (1805-1859م) في سنة 1835م عن رأيه في أن مسار السياسة والمجتمع الحديث بعد الثورة الفرنسية وعصر الإمبراطورية والطابع الذي اتخذاه، قد جعل كلا المصطلحين (الطغيان والاستبداد) غير صالح ولا كفء للاستعمال، حتى جاء العصر الحاضر فأصبحا مصطلحين عتيقين، وتركزت المناقشات عن نظم الحكم المطلقة، وأشكالها المختلفة حول مفهومي الدكتاتورية والشمولية.
مهما يكن الأمر من تصور الطغيان والاستبداد بوجه خاص في المقارنة بين نظم الحكم وتحليلها ، والتأريخ الاجتماعي لأشكاله وممارساته، وفي التعبير الضمني أو الصريح عن آراء القائمين بذلك التحليل والتأريخ وتحيزاتهم السياسية، فقد كانت صورتهما في الغالب الأعم صورة سلبية، وتحولت على مر الحقب والظروف إلى شعار يدل على التنظيمات والإجراءات المضادة للحرية السياسية، كما يدينها ويدمغها بالخروج على الطبيعة والعقل والقانون والحق. وكلما وصلت هذه الإدانة إلى أقصاها، لجأ المفكرون والمحللون إلى التذكير بنموذج الحكم الشرقي - أي الاستبداد الآسيوي بالدرجة الأولى - الذي وصل في رأيهم إلى أبعد مدى يمكن تصوره في العدوان على الطبيعة والعقل وخرق القانون والدستور. ومرجع ذلك إلى تسليم الحاكم «الشرقي» المستبد بعبودية البشر من رعاياه، وانعدام الوعي لديه بأن الإنسان كائن حر بالأصالة.
لا عجب بعد ذلك ألا نجد تحديدا كافيا لمفهومي الطغيان والاستبداد في علاقتهما الضدية بالحرية، وأن تعتبر أشكال الحكم التي تتعارض مع الحرية أشكالا بسيطة بالقياس إلى الأشكال المعقدة التي تجسد الحرية، وأن يسلم كل من أرسطو في دراسته للطغيان (التيرانيس)، ومونتسكيو في تناوله للاستبداد، بأن مثل هذه الأشكال لا تحتاج إلى مزيد من القول. وقد أدى هذا بمعظم فلاسفة الفكر السياسي الغربيين - كما ذكرنا - إلى ربط نظرتهم للاستبداد بأشكال الحكم وممارساته الآسيوية، كما حملتهم على الاعتقاد الضمني بأن الأوروبيين - من حيث هم أوروبيون! - أحرار بالطبيعة، وذلك في مقابل العبودية الطبيعية للشرقيين. وأدى بهم أيضا إلى التورط في مغالطات منطقية وإنسانية منافية لمفهوم الحرية نفسه؛ إذ طالما اتخذ الاستبداد الشرقي ذريعة للغزو والتوسع، ومبررا للعدوان والسيطرة الاستعمارية، بل إن إلصاق صفة الاستبداد بأي «عدو» - ولو كان أوروبيا! - بقي مبررا كافيا لتحريض الجماعة السياسية أو الدينية على شن العدوان عليه، وسحقه إذا لزم الأمر؛ ومن ثم دمغ الإغريق أعداءهم الفرس بالاستبداد، وألصق الكتاب المسيحيون نفس الصفة السلبية بالأتراك العثمانيين المسلمين. ومن سخرية الدهر أن أدعياء الحرية ضد الاستبداد، أو مؤرخيهم على الأقل، لم ينتبهوا إلى أن مثل هذه الحجج قد أصبحت - من أرسطو حتى هيجل وماركس وإنجلز! - هي الوسيلة التي يتذرعون بها لاعتداء «ورثة الحرية» على غيرهم من الشعوب التي لم تحظ في تقديرهم بهذه النعمة، واللجوء إلى استعبادهم بحجة تحريرها، كما كانت - في تقديري على الأقل - هي السبب الأساسي وراء نزعات التعصب الديني والعنصري، والتمركز الحضاري والثقافي على اختلاف صورهما عند الغربيين أو الشرقيين.
ويقسم بعض المحللين مراحل التطور والتنوع في مفهوم الاستبداد بوجه خاص في الفكر السياسي الغربي، إلى سبع مراحل متميزة. وربما يحسن بنا أن نشير لهذه المراحل باختصار، قبل الحديث بشيء من التفصيل عن النظرية الإغريقية التي تهمنا في هذا المقام:
20 (أ)
مرحلة النظرية الإغريقية التي تجعل العبودية الفطرية هي أساس الحكم المطلق للملك أو الحاكم الشرقي، كما تنظر رعيته إلى هذا الحكم المطلق باعتباره حقا مشروعا، وتوافق عليه برضاها. (ب)
نظرة العصور الوسطى المتأخرة إلى الاستبداد بوصفه نوعا من أنواع الحكم الملكي، الذي يفترق عن الأنواع الأخرى من الحكم الملكي وحكم الطاغية، أو بالأحرى بإساءته للحكم.
21 (ج)
الصورة الجديدة لهذه النظرية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهي التي بدأت مع جان بودان (1530-1596م)، وحددت الاستبداد بشكل الحكم الذي ينشأ نتيجة لحق المنتصر في حرب عادلة في السيطرة على المهزوم، بما في ذلك حقه في استعباده ومصادرة ممتلكاته، أو نتيجة لموافقة المهزوم على استعباده مقابل الإبقاء على حياته وحقن دمه (وقد وجد أصلها في القانون الروماني، وأثرت تأثيرا كبيرا على مفاهيم جروتيوس وبوفندورف وهويز لوك وروسو عن الاستبداد). (د)
صفحه نامشخص