بعد هذا التمهيد يمكنني أن أستعرض مع القارئ باختصار شديد بعض الظروف النفسية والاجتماعية التي أحاطت بنشأة هذه المقالات، وبعض التجارب الحياتية والفكرية التي دفعتني إلى تدوينها في لحظتها قبل أن تغرق كالأسماك الصغيرة في بحور النسيان والغياب والسأم التي تكتسحنا موجاتها كل يوم وبلا رحمة، ولعل هذه البحوث والمقالات - إذا جاز هذا التعبير - أن تكون جزءا لا يتجزأ من سيرة حياتي العقلية والروحية التي تمزقت طويلا بين البحث والإبداع، وتكسرت أمواجها على صخور الغدر والتجاهل اللذين طالما واجهتهما وحاولت أيضا أن أتجاهلهما؛ حتى أستطيع على الأقل أن أواصل التنفس.
وأبدأ بالمقال الأول في هذا الكتاب، فأقول إنني كتبته في العام 1993م متأثرا بالصور المؤلمة التي كانت تبثها وسائل الإعلام عن الحرب أو بالأحرى المجزرة التي أقامها «أبطال» الصرب لمسلمي البوسنة، ووقف العالم فترة طويلة من مذابحهما موقف المتفرج. كنت أيامها أعمل في جامعة الكويت، وأفكر كثيرا في جدوى الفلسفة ودورها الممكن والضروري في الاهتمام بحياة الناس اليومية وبالقضايا التي تشغل وعي وضمير الإنسان العادي البسيط (أو الرجل الصغير)، وإمكانات تواصل الفلسفة معه لتوسيع آفاق هذا الوعي، ومعرفة المعايير التي يبني عليها أحكامه وقيمه، ومساعدته على تكوين رؤية للعالم والحياة تساهم في دفع حركة تاريخه ومجتمعه المحلي نحو التطور والاستنارة، وترسيخ قيم الحرية والعدل والخير والتسامح، والتواصل مع الغير أفرادا وشعوبا وثقافات لزرع شجرة الأمل في مستقبل بشري أفضل وأجمل. ودفعتني مذابح البوسنة أيضا إلى التفكير الطويل في إمكان وضرورة قيام محكمة للضمير على المستوى المحلي والدولي، على غرار محكمة راسل وسارتر وغيرهما من كبار حكماء العالم وعلمائه وكتابه، لا لإدانة حرب فيتنام وحدها، بل كل أشكال الظلم والقهر والقمع وإذلال الإنسان وتشويهه وإهدار كرامته وحقوقه الطبيعية في الحرية والسعادة والتفكير والتعبير الحر.
مرت الأيام ولم أستطع أن أبدأ المشروع الأول، ولا حتى استطعت أن أعرف من أين أبدؤه، ثم داهمتنا أشكال أخرى من العنف وإرهاب الجماعات المتطرفة والدول، وتابعنا العدوان الوحشي على لبنان، والعدوان اليومي المستمر على أشقائنا في فلسطين، والغزو الهمجي للعراق الذي حول أم التراث والشعر والعلم العربي الإسلامي إلى عماء دموي، أو مقبرة جماعية لا ندري متى سيخرج منها هذا البلد العزيز. لقد آن الأوان للدعوة الملحة لتشكيل محكمة الضمير من كبار حكماء البشرية وعلمائها وكتابها بكل وسيلة ممكنة، كما آن أوان مساهمة المتفلسفين الصادقين من شتى البلاد في جعلها حقيقة حية لإنقاذ مصير البشرية من حمق الإرهابيين والمستبدين وكل مجانين العصر. هل ستصادف الكلمات السابقة أي صدى لدى شباب المشتغلين بالفلسفة وبالمعرفة بوجه عام؟ وهل يمكن أن يظهر من بين الأمواج العكرة والاضطراب والإحباط واللامبالاة من يهتم بالكتابة عن «فلسفة» رجل الشارع أو الرجل العادي البسيط؟ ربما لا تتحقق هذه الآمال - إن قدر لها أن تتحقق وترى النور! - إلا بعد أن أصبح أنا وأمثالي ترابا وذكرى لا يتذكرها أحد، لكن المهم قبل كل شيء وبعد كل شيء هو بقاء شجرة الأمل باسقة وشعلة نجمته متوهجة، مهما ادلهمت الظلمات من حولنا.
وتأتي مقالة «الأزمة أم الإبداع» التي أشعر اليوم - بعد كتابتها بأكثر من خمس عشرة سنة - أنها كانت صدى «نظريا» أو انعكاسا تجريديا غير مباشر للأزمة الناجمة عن أم المحن (الغزو العراقي الغاشم الأحمق لدولة الكويت الصغيرة المستنيرة) في تاريخنا العربي والإسلامي الحديث والقديم على كثرة محنه وفتنه. كنت أيامها أعيش مع أسرتي في القاهرة خلال الإجازة الصيفية. قضت المحنة بأن أمضي عاما كاملا في انتظار تحرير الكويت والعودة إلى عملي بجامعتها، وكان من الطبيعي أن تجدد أم المحن تفكيري وانشغالي الدائم بمشكلة التسلط والطغيان، وأن تؤكد سوء ظني به وإلحاحي المستمر في معظم كتاباتي الفلسفية والأدبية السابقة، بل في أكثر قصصي ومسرحياتي، على التخلص من جميع أشكاله وصوره المحبطة في شتى ميادين حياتنا، وكنت قبل ذلك بشهور قليلة قد فرغت من كتاب ضخم عن أدب الحكمة البابلية، وأتاح لي أن أتعمق «جذور الاستبداد» والطغيان في العراق القديم، وأن أطيل التفكير في قضية الحرية الغائبة عن حياتنا العربية لا عن العراق وحده، وأنشغل بطبيعة الحال بطاغيته وبطله الملحمي «جلجاميش»، واغتنمت فرصة الإجازة الإجبارية، فعكفت على تجسيد المخطط القديم عن هذا البطل في مسرحية ملحمية سميتها «محاكمة جلجاميش» (ونشرتها دار الهلال في كتابها الشهري سنة 1992م)، ثم فاجأني صديقي العزيز العالم الكبير والناقد الأدبي الفذ الدكتور عز الدين إسماعيل - رحمة الله عليه - بأن طلب مني مقالا عن الإبداع في الفلسفة لينشر في أحد أعداد مجلة «فصول» المرموقة التي كان يرأس تحريرها. لم يكن همي في الحقيقة هو الوقوف عند نقد الفلاسفة لمذاهب بعضهم البعض ومناهجهم لإبداع مذاهبهم وأذواقهم ومناهجهم الجديدة؛ فتاريخ الفلسفة منذ أن نقد أنكسمسمندروس أستاذه طاليس هو تاريخ النقد المتصل ونقد النقد. أضف إلى ذلك أنني كنت مشغولا بتهيئة نفسي لإعداد بحث عن المقولة التي شاعت في السنوات الأخيرة، خصوصا عند هيدجر ورورتي - كما سبق القول - وإن كانت جذورها واضحة عند ماركس ونيتشه، وهي مقولة نهاية الفلسفة والميتافيزيقا التقليدية، وضرورة تجاوزها بلغتها ومصطلحاتها ومشكلاتها الأبدية لإبداع «فكر وجود» جديد، أو تكييفها للممارسة العملية والثقافية في الواقع العملي. صحيح أنني لم أتم هذا البحث أبدا، ولم تبق لدي رغبة ولا قدرة على إتمامه، لكن الأمر في نظري كان وما يزال هو إبداع الذات العربية لذاتها ووجودها وقدرها وحاضرها ومستقبلها من خلال كفاحها التقدمي المستنير وعلى ضوء تراثها العظيم، إبداعا جديدا تؤكد به حريتها ورسالتها وجدارتها بالإسهام في الجهد المشترك لإنقاذ البشرية التي تقف على شفا الاندثار.
وحتى لا أقع في التعميم الإنشائي كتبت هذا البحث عن أزمات التناقض المنطقي والتاريخي، التي رأى بعض الفلاسفة أن يخرجوا منها بإبداع رؤى ومناهج أخرى جديدة. هل وقع في ظني آنذاك أن تخرج أمتي العربية - التي شقت المحنة جسدها، وصرعت حلمها بالوحدة والتضامن - من تلك الأزمة، وتبدع ذاتها وحاضرها إبداعا جديدا؟ وكيف تصورت هذا وما زلت أتصور إمكانه مع تفاقم المحنة، وتحول العراق بعد الغزو الأمريكي إلى جحيم دموي، واستمرار العدوان الصهيوني اليومي على شعب فلسطين، وتصميم القوة الكبرى وحلفائها على التربص بنا ونهب ثرواتنا وإذلالنا؟ إنني لم أتخل أبدا حتى في شيخوختي الراهنة عن التمسك براية الأمل، ويقيني أن «أم المحن» قد أكدت في الوعي العربي العام حتمية الحرية والديمقراطية إذا أردنا أن يكون لنا إبداع أو حتى أثر للوجود في أي مجال. ولقد أخذت بعض دولنا بالتجربة الديمقراطية، حتى ولو بقيت في بعضها على المستوى الشكلي والقانوني وحده، واقتنع الجميع - الذين تكتل بعضهم بالفعل لتحقيق مصالح مشتركة - بحتمية الوحدة العربية على أسس واقعية ومصلحية جديدة، وبقي على المشتغلين بالفلسفة وبالهموم الثقافية بوجه عام أن يواصلوا إضاءة الطريق نحو إبداع وجود عربي يرتكز على بديهية الحرية، وتحرك تاريخه وحاضره القيم الحية والضمائر اليقظة الطاهرة. والواقع أن تتابع موجات الاجتهادات الفلسفية المبدعة، منذ جيل أساتذتنا إلى الجيل الحاضر من إخوتنا وأبنائنا الذين يصعب حصر أسمائهم، يجعلني أزداد تشبثا براية الأمل على الرغم من كل المحن، ومن خطر الوقوع كل لحظة - أنا ورايتي! - في مستنقع التشرذم والفساد والغدر والتآمر والتبلد، الذي تزكم روائحه الكريهة أنف كل عربي مؤمن بأن التوحد هو قارب الإنقاذ الوحيد من مشانق المصاب التي تزحف ليل نهار على رقابنا.
أما عن «النظرية النقدية»، فقد كتبت هذه المقالة أثناء الإجازة الاضطرارية التي سبق أن أشرت إليها، وكانت مجلة «الوحدة» التي يصدرها المجلس القومي للثقافة العربية هي التي طلبتها مني لتنشر في عدد نوفمبر 1992م، الذي كرسته للفلسفة والفكر المعاصر. وقد رحبت بهذا التكليف - على الرغم من كراهيتي لأي تكليف من أي نوع كان - لأنني كنت وما زلت مقتنعا بأن الحياة والفكر لا يستقيمان بغير نقد حر مستقل، وأن ممارسة النقد في كل ميادين الحياة الاجتماعية والروحية هو الدليل الناصع على الاعتراف بحرية الناس وحقهم المقدس في التعبير والتفكير بعيدا عن كل المخاوف والضغوط. والحقيقة أن قصتي مع النقد قصة طويلة وطريفة؛ فقد بدأت أومن بضرورته القصوى بعد أن فرغت من قراءة «نقد العقل الخالص» كلمة كلمة وسطرا سطرا أثناء دراستي في جامعة فرايبورج تحت إشراف أستاذي فولفجانج شروقه، الذي درس على يدي هسرل وهيدجر عندما كانا من أبرز الأساتذة فيها، تشرفت بعد رجوعي إلى الوطن بترجمة كتابه الأساسي «فلسفة العلو» (حوالي سنة 1972م). لم يكن أستاذي من النقديين بأي شكل من أشكالهم وتياراتهم العديدة؛ إذ اتجه نحو تصوف دنيوي أو عالمي لم يزل يتابع كتابة حكمه وشذراته العميقة فيه. كان أستاذي الأول إذن في النقد هو كانط صاحب الفلسفة النقدية المعروفة، لكني - مع إعجابي به إلى حد الانبهار والإكبار - لم ألبث أن مارست عليه النقد المعروف، وهو أن نقده للعقل معرفي بحت، ويفتقر إلى الأبعاد التاريخية والاجتماعية المتغيرة التي تغير معها بنية العقل وأدواته، ثم حانت فرصة أخرى للتعرف على أحد التيارات النقدية المعاصرة التي لم تخل من العدوانية والتهجم الشديد على التيارات الفلسفية المعاصرة لها، كما لم تخل - في تقديري - من الرومانسية ومحاولات التشويه المغرض لكل من الماركسية في الشرق والليبرالية الديمقراطية في المجتمعات الصناعية الغربية دون تقديم بديل مضاد ومقنع. كان ذلك عندما عكفت في أواخر سنة 1978م، وفي ليل صنعاء الطيبة الأصيلة المنعم بالصمت والسكينة والهدوء، على قراءة بعض أعمال رواد النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. وكنت منذ الأيام الأولى لوجودي باليمن قد بدأت الإعداد لكتابين؛ عن أفلاطون (وهو الذي ظهر بعد ذلك تحت عنوان: المنقذ، قراءة لقلب أفلاطون)، وعن جدوى الفلسفة أو عدم جدواها بالنسبة لعالمنا العربي المتخلف والممتحن بالهزائم والمصائب والأخطار التي تهدده من داخله ومن خارجه. وظهر الكتاب في سنة 1981م تحت عنوان «لم الفلسفة؟» كان من المحتم علي أن أقدم دفاعا نقديا عن ضرورة الفلسفة في ذلك الوقت وحتى الآن أكثر من أي وقت مضى. وتيسر لي أن أطلع على بعض كتابات أدورنو، مثل كتابه عن المصطلح الفلسفي ومقاله عن ضرورة الفلسفة، إلى جانب كتاب زميله ومؤسس مدرسة فراكفورت النقدية ماكس هوركهيمر عن الوظيفة الاجتماعية للفلسفة، والكتاب الشهير الذي اشتركا في تأليفه، وهو «جدل التنوير». لم تف هذه القراءات بالحاجة إلى معرفة هذه المدرسة معرفة كافية، وجاء تكليف مجلة «الوحدة» بعد ذلك، فنبهني إلى ضرورة التعمق في أفكار هذه المدرسة على قدر الطاقة، وبلغ إلى علم أستاذي الحبيب فريتس شتيبات - رحمة الله عليه ورضوانه - من إحدى رسائلي إليه أنني مشغول بالنقد وبهذه المدرسة، فأرسل إلي على الفور كتاب فيجرهاوس الضخم عن مدرسة فرانكفورت النقدية - تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية. وغرقت في الكتاب، وفي تدوين ملاحظاتي النقدية على هذه المدرسة، في مقال طويل نشر في المجلة السابقة الذكر، ورجعت إليه بعد ذلك فنشرته في سلسلة حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت (الحولية الثالثة عشرة، الرسالة الثانية والثمانون، 1413ه/1993م)، وذلك بعد إضافة تعريفات وافية بأهم أعلام هذه المدرسة (أدورنو - وهوركهيمر - وماركوز - وهابرماس، إلى جانب أهم الرواد الذين أثروا عليهما، وهما جورج لوكاتش والفيلسوف الطوباوي إرنست بلوخ).
سأكون مقصرا في حق نفسي وثقافتي لو اقتصرت على ذكر المصادر والمنابع الغربية السابقة؛ فقد طالما تأثرت ببعض الأعلام العرب المعاصرين من أساتذتي الذين أدين لهم بكل العرفان والتقدير؛ لفضلهم العظيم في تكوين عقلي ورؤيتي النقدية. وإذا كانوا أكثر من أن تحصيهم الذاكرة، فأكتفي بتسجيل هذه الأسماء الكريمة: زكي نجيب محمود رحمة الله عليه، الذي هزتني وزلزلتني - منذ استمعت إلى محاضراته التي كان يلقيها علينا في أواخر الأربعينيات - ثوريته النقدية ونقده الثوري لمعظم المفاهيم والمعايير والقيم، التي صور لنا التلقين والتقليد أنها راسخة وثابتة وأبدية؛ وأستاذي وصديقي العظيم فؤاد زكريا - شفاه الله وعافاه - الذي طالما بهرتني بصيرته النقدية الحادة الثاقبة في كل ما كتبه على وجه التقريب. وأخيرا يسعدني تزايد الاهتمام بهذه المدرسة في السنوات الأخيرة في كل من لبنان ومصر، وإقبال بعض أبنائنا على تسجيل رسائلهم العلمية عن بعض أعلامها البارزين، وبعض القضايا التي تركتها معلقة ودون حسم، ومن أهمها قضية «النظرية النقدية» نفسها التي لم يوفق أصحابها إلى بلورتها في صورة مقنعة.
ونأتي إلى المقال التالي عن ماكس شيلر، الذي أعده نموذج الفيلسوف الذي اقترب على الدوام من هموم الناس وقضاياهم ومشكلاتهم اليومية الملحة، كما لم يغب عنه شيء من تطورات العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية في عصره . كان في نيتي أن يكون هذا المدخل مجرد مقدمة عامة لكتاب كبير عن فيلسوف «القيم المادية» القائمة على عواطف وانفعالات الشخص الإنساني، وأن يكون تمهيدا للأنثروبولوجيا الفلسفية التي احتشد لها سنوات طويلة، وكان في عزمه أن يصدرها في مجلد ضخم، لكن الظروف والمشاغل والهموم التي عصفت بحياته المضطربة لم تسعفه لتحقيق مشروعه الكبير، فتمخض في أواخر حياته عن كتاب صغير هو «وضع الإنسان في الكون»، استطاع بشق النفس أن يرسم فيه المعالم الرئيسية لتلك الأنثروبولوجيا التي يعد أحد مؤسسيها الكبار، وصدر قبل رحيله المفاجئ (عن دار فراتكه في برن وميونيخ) بأسابيع قليلة عندما داهمته أزمة قلبية غادرة، وكنت كذلك قد نويت على ترجمة هذا الكتاب الصغير، لكن قراءتي المتأنية له أثبتت عجزي عن فهم المعلومات والمصطلحات العلمية الواردة فيه فهما صحيحا، بجانب عجزي عن متابعة التطورات اللاحقة في العلوم الطبيعية والإنسانية، التي لا شك في أنها غيرت كثيرا من الحقائق والمعطيات التي ذكرها، واستند إليها في تمييزه لوضع الإنسان العاقل والقادر على الحب عن أوضاع جميع الكائنات الأخرى في سلم الوجود الطبيعي والحيوي والعقلي. أضف إلى هذا ندرة المراجع التي وجدتها تحت يدي، لا سيما في مؤلفاته التي تعذر علي التوصل إليها، بجانب ما أصابني مع التقدم في السن من ضعف الصحة والبصر؛ لذلك اكتفيت بهذا المدخل الشامل الذي لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون تضمينا أمينا لكتاب واف عن حياة الفيلسوف وفكره الفلسفي للأستاذ فيلهلم مادير، وهو الكتاب الوثائقي الذي صدر سنة 1980م في سلسلة «روفولت» الشهيرة، التي تضم وثائق مصورة عن حياة وأعمال عدد كبير من مشاهير الفلاسفة والأدباء والفنانين في كل العصور والثقافات. للأمانة أقول أيضا إن الإشارات إلى أعمال شيلر نفسه مأخوذة عن الكتاب المذكور، وإنني لم أتصرف فيه إلا في القليل النادر. وأملي أن يكون فيه بعض الفائدة لشباب المشتغلين بالفلسفة الذين أتمنى أن يهتموا، في دراسات أعمق وأوسع، بفيلسوف القيم الكبير في وقت ما أحوجنا فيه إلى القيم الحقيقية، التي كادت أن تنسى وتداس بالأقدام بعد أن غلبت على حياتنا وفكرنا وسلوكنا «اللاقيم» السلبية والنفعية التي شوهت شخصية المصري، وسلبته الوعي بحاضره ومستقبله ورسالته الإنسانية والأخلاقية والقيمية، على يد عدد هائل من الشطار والانتهازيين واللصوص الكبار والصغار، الذين لم يرعوا للوطن ولا للحرية والعدل الاجتماعي حرمة ولا ذمة، ولا تذكروا للحظة واحدة أن بلدهم هي مهد الضمير، وموطن «معات» حارسة الحقيقة، والناموس الأخلاقي والكوني الخالد.
وهذا الحوار الذي أثبته هنا مع الأب والمعلم الحكيم، الذي أتمنى أن يستمد منه الشباب المثل الأعلى والقدوة السامية، هو في الحقيقة تجربة حية بالمعنى الذي وصفته في بداية هذا التمهيد، وهي تجربة لا أكف عن استعادتها بالمعنى الذي ألح عليه فيلسوف الحياة دلتاي، ولا أمل اللجوء إلى دفئها وحنان صاحبها وحكمته ورعايته (التي أسبغها على عدد كبير من أبنائه العقليين والروحيين الذين تشرفت بأن أكون واحدا منهم).
أقول إنني كثيرا ما أستعيد هذه التجربة الحية النادرة بين تجارب حياتي القليلة، التي قدر لي فيها أن أحب أو أفرح أو أسعد لحظات برعاية راع أو بنظرة محب وفي، وذلك كلما ضربتني شمس صحراء الغربة والوحدة والإحباط والمرارة. إن في تجربة هذا الحوار الشيق والعميق عزاء أي عزاء، وهو يغنيني ويغني القارئ عن المزيد.
صفحه نامشخص