7
وكتابه الذي ظهر في العام السابق نفسه عن فينومينولوجيا ونظرية مشاعر التعاطف، وعن الحب والكراهية، جانب البحث الذي نشره في العام السابق عن الضغينة وحكم القيمة الأخلاقي؛ ثم العديد من كتاباته في ذلك الوقت نفسه عن مشكلات الخير، والقيمة، والمبادئ الأخلاقية، وماهية الإنسان، وغيرها من الأعمال التالية التي قربت فلسفة الظاهريات من الرأي العام، وجعلت منها حركة عقلية وروحية ذات تأثير كبير على الوجدان الجمعي في بلده وخارج بلده.
سبق القول بأن شيلر صبغ الظاهريات صبغة خاصة به؛ إذ جعل الرؤية الشاملة للعالم خلفية لها، واهتم بتجربة الإنسان بوصفها علاقة فلسفية تربط الإنسان بالعالم، وتتجه قبل كل شيء إلى رؤية ماهيات جميع الموجودات رؤية حية. ويتضح هذا كله في نظريته للإنسان باعتباره كائن الحب، وفي اهتمامه بالشخص والشخصانية، وفي ترتيبه للقيم المادية القبلية القائمة على أساس المشاعر والعواطف، ومناقشته للعوامل المثالية والواقعية لحركة التاريخ ... إلخ.
ونبدأ بتعريفه أو تحديده للإنسان ككائن محب.
والواقع أنه ليس مجرد تعريف أو تحديد، وإنما هو أشبه بقوس كبير أو دائرة واسعة تضم في داخلها سائر أجزاء فلسفته، وتربط بينها برباط حميم. ولا تقتصر أهميته على «أنثروبولوجيا» الفلسفية المتأخرة، وإنما يمتد كذلك للأخلاق والميتافيزيقا، ويتحول لديه إلى رؤية أو موقف يطور منه ترتيبه للقيم القبلية، التي يهتدي بها الإنسان في المعرفة والإرادة والفعل، كما يهتدي بنجم قطبي باهر الضوء ومتألق في السماء. وينطلق هذا الترتيب من علاقات الإنسان بالعالم التي هي صميمها علاقات حب ومشاركة تنبع من شخصيته، وتجد فيها وحدتها. هذه اللمسة الشخصية أو الشخصانية التي تميزه عن غيره من الظاهراتيين، هي ثمرة نظرته الخاصة لمنهج «الرد» الفينومينولوجي الذي خلصه من خطواته المعقدة، فأصبح لديه موقفا فلسفيا من العالم، وتمخض عن اكتساب مجموعة من الحقائق المتميزة عن النظرة الطبيعية أو النظرية العلمية للعالم. أضف إلى هذه النتائج أو بالأحرى الأعمدة التي ترتكز عليها فلسفته عمودين آخرين، يتمثلان في نظريته عن أشكال المعرفة، وعن العوامل السببية التي مكنته من التغلغل في مشكلات المجتمع وفلسفة التاريخ. ونبدأ متابعتنا للأفكار السابقة بالمبدأ الذي قامت عليه فلسفة شيلر وحياته الشخصية، وسيطرت عليهما، وهو المبدأ القائل ببساطة إن الإنسان كائن محب قبل أن يكون كائنا عارفا أو مريدا؛
8
فالحب هو «القبلي» الذي يتقدم على المعرفة والإرادة، وهو فعل أولي أو أصلي يمكن الإنسان من الخروج من حدود نفسه، والعلو عليها، والمشاركة في العالم. وإذا كانت المعرفة نوعا معينا من المشاركة، فإن القبلي الذي يؤسس هذه المعرفة ويجعلها ممكنة، هو فعل المشاركة الذي نسميه الحب، والذي يقوم عليه التفلسف نفسه بكل أشكاله وأفعاله. يقوله شيلر في هذا الصدد: «إن ماهية الموقف العقلي الذي يقوم عليه كل تفلسف هو فعل المشاركة الذي يحدده الحب، وهي المشاركة التي تأتي من نواة شخص إنساني متناه فيما يكون ماهية جميع الأشياء الممكنة.»
9
ويكرر شيلر هذه الفكرة في صياغات عديدة مشابهة وفي كل مراحل تفلسفه، لا سيما في محاولاته لتحديد مفهوم المعرفة بوصفه علاقة بوجود تفترض أن له أشكالا كلية وأشكالا جزئية، وهي علاقة تقوم على مشاركة موجود في «طبيعة» أو «مائية» موجود آخر، بحيث لا تغير منها شيئا ، وبحيث يكون المعروف جزءا من العارف دون أن يغير منه كذلك أي شيء. هذه العلاقة بالموجود ليست مكانية ولا زمانية ولا سببية، وما نسميه العقل هو ذلك المجهول أو مجموعة الأفعال القصدية التي تتم داخل الموجود العارف، وتجعل المشاركة التي وصفنا بها فعل المعرفة ممكنة؛ لأنها في الأصل متجذرة فيما أطلقت عليه اسم الحب. وإذا لم يتوفر في الموجود الذي «يعرف» ذلك الميل أو التوجه للخروج عن ذاته والعلو فوقها بغية المشاركة في موجود آخر، فلن تكون المعرفة ممكنة على الإطلاق. إنني لا أجد اسما آخر أطلقه على هذا الميل أو التوجه أو عطاء الذات؛ أي ما يمكن وصفه بأنه تفجير حدود الوجود الخاص والطبيعة أو المائية الخاصة عن طريق الحب.
10
صفحه نامشخص