وإذا كان قد أسس منهجا فلسفيا وصفه بأنه هو المنهج الحقيقي والعلمي الوحيد، فقد أسقط جميع شروط المنهج الدقيق التي افترضها غيره من السابقين أو اللاحقين. والسبب في هذا بسيط، فموقفه المختلف كل الاختلاف من التناقض هو الأساس الذي أقام عليه منهجه؛ ذلك أن التناقض عنده لا يأخذ ذلك المعنى المزدوج الذي نجده عند الفلاسفة الباحثين عن المنهج الدقيق؛ فقد رأينا كيف يمثل من ناحية نقطة الانطلاق الفعلية لتطور بحثهم عن المنهج، كما يحدد طبيعة الفكرة التي ستكونه، واتجاه هذا التطور نفسه. ورأينا من ناحية أخرى أنهم نظروا إليه (أي إلى التناقض) نظرتهم إلى طريق مسدود للمعرفة، أو وهم ينسج العقل خيوطه، وخطأ فظيع يقع فيه بإرادته أو بحكم ميوله وفطرته. ولكن هيجل يدير ظهره لكل هذه المفاهيم والتحديات الرافضة للتناقض؛ فالتناقض عنده هو المبدأ المحرك للعالم، وهو من أكثر المبادئ تعبيرا عن حقيقة الأشياء وماهيتها، وهو مصدر كل حركة وكل حياة؛ فالشيء لا يتحرك إلا لأنه يحوي في صميمه تناقضا وقوة دافعة ونشاطا.
22
والنقائض لحظات ضرورية للتفكير ونسقه الحي المتطور، أي نسق المنطق نفسه؛ فهي شروط تقوم عليها المعرفة، وليست عقبات في طريقها، ولا تتعارض مع مفهومها كما كان الحال عند أولئك الفلاسفة؛ إذ لا يمكن - في رأيه - تحديد ماهية المعرفة مع استبعاد التناقض. بهذا يكون قد قطع الخيط أو كسر السلسلة التي وصلت ديكارت بكانط، ثم التفت حول هسرل، وربطتهم جميعا فكرة محددة عن «علمية» الفلسفة ومنهجها الصارم المحكم، مهتدين في ذلك - كما سبق القول - بالعلوم الدقيقة من جهة، ومن جهة أخرى بالمنطق الصوري الذي رفض التناقض في الوجود والفكر، وعده علامة التهافت والفساد. وبهذا أيضا تكون الفلسفة قد فقدت على أيديهم أهم ما يميزها في نظر هيجل، وهو أن تكون معرفة بالكلي الشامل، أو علم الكل الذي لم يكن المنهج الجدلي إلا عرضا لتطوره في إيقاعاته الثلاثية أو مثلثاته الكثيرة.
ولقد أدى حرص أولئك الفلاسفة على المنهج الدقيق والمعرفة الخالية من التناقض إلى فتح جرح عميق، أو إحداث صدع غائر، في التفكير نفسه، لم يتوقف عن الظهور والتجدد باستمرار؛ فقد شقه إلى نصفين متضادين إلى أقصى حدود التضاد: فكر سلبي ووهمي أو مظهري خاطئ يرفع نفسه بنفسه، وفكر صحيح أو إيجابي. والجهود المضنية التي بذلها كانط لرأب هذا الصدع ومد جسر بين الشقين معروفة؛ وقد أدت في النهاية إلى التمييز بين العقل الخالص والعقل العملي؛ بحيث برهن في الأول على نوع من المعرفة (العلمية الضرورية العامة الصدق) لا سبيل للبرهنة عليه في العقل الثاني (وهي المعرفة الأخلاقية والدينية)، وبحيث أمكنه أن يقول في النهاية فيما يشبه اليأس أو التسليم: «وهكذا اضطررت إلى رفع (استبعاد أو إلغاء) المعرفة لكي أفسح مجالا للإيمان (أو الاعتقاد)».
23
وبذلك قضى على الوحدة الباطنية للتفكير، وتم الفصل - عند كانط بوجه خاص - بين معرفة متناقضة وغير منهجية (فيما سماه الميتافيزيقا الدجماطيقية؛ أي التي تقطع بالحكم في أمور الحقائق المطلقة بغير دليل أو سند كاف)، وأخرى علمية أو منهجية دقيقة .
واجه هيجل هذا الصدع الغائر، وحاولت فلسفته كلها إعادة الوحدة الباطنة للفكر والوجود. ونقده الشديد للمناهج السابقة دليل على وعيه الحاد بتصدع العقل أو الروح الحديث، وعلى إيمانه بأن منهجه الجدلي هو الذي سيعيد للميتافيزيقا معناها المنهجي، ويرد إليها كرامة العلم. وسوف نستشهد على نقده للمناهج السابقة ببعض النصوص التي تقربنا من جوهر فلسفته أو تدور حول محورها.
ونبدأ بنقده للمنطق الصوري الذي آمن كانط بثباته
24
دون تغيير يذكر منذ عهد أرسطو، وسؤاله إن كانت صورة المنطق الذي اعتمد عليه كانط في جهوده لإقامة المنهج الفلسفي الدقيق هي الصورة النهائية التي تمثل المعرفة الفلسفية الدقيقة، أم إن المنطق نفسه معرفة متطورة بذاتها.
صفحه نامشخص