أما فيما يتعلق بالأسباب الداخلية، فأقصد بها فجوة الاختلافات والفروق الفنية والموضوعية الدقيقة التي تفصل بين الاتجاهات والتيارات الفلسفية المختلفة، سواء بين القارة الأوروبية والأمريكية من ناحية، أو بينهما وبين الاتجاهات والتيارات المتأثرة بها أو المنقولة عنها ، أو التي تحاول مع افتراض حسن الظن الشديد أن تتميز وتستقل عنها في عالمنا الثالث من ناحية أخرى.
والسبيل إلى التقريب بين هذه الاتجاهات والتيارات وتحقيق نوع من التقارب في الأهداف والغايات والمثل المشتركة ليس مستحيلا كما يبدو لأول وهلة، لا سيما إذا تذكرنا أن هذا التقارب والتفاعل قد تم على سبيل المثال في الفلسفة الأمريكية، التي تأثرت في العقود الأخيرة، وفيما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، بفلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة التأويل (الهيرومينويطيقا)، خصوصا في الدراسات المتصلة بفلسفة الفن والجمال وبالنقد الأدبي. كما أن التقارب والتفاعل قد تحقق أيضا في الفلسفة الأوروبية المعاصرة، التي أدمج بعض أعلامها عناصر هامة من العقلانية العلمية والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة التي ازدهرت جميعها في العالم الأنجلو-أمريكي، وذلك مثل «هابرماس» الماركسي الجديد في فلسفته النقدية. وسبل التقارب والتفاعل الذي تم وينبغي التوسع فيه هي من الوضوح بحيث يمكن الاستغناء عن ذكرها: تعميق الحوار بين الأطراف المختلفة في المؤتمرات واللقاءات المحلية والعالمية، التقريب بين الاتجاهات والمدارس المتعددة؛ بتمثيلها وإفساح المجال لسماع أصواتها في أقسام الفلسفة ومعاهدها في الجانبين. ولا شك أن التوسع في الحوار ليشمل الأقسام التي تدرس الفلسفة الغربية خارج نطاق العالم الغربي كله، سيساعد على تنمية بذور الاتجاهات المستقلة داخل العالم الثالث نفسه، بشرط أن يعتمد في كل الأحوال على المعايير والأسس التي تضمن تحقيق الحوار الحر القائم على الاحترام والتفاهم المتبادل، والمعرفة الكافية من الأطراف كافة بالخصوصيات الثقافية المتميزة والعموميات والقيم المشتركة في وقت واحد. وإذا كان المفكرون والعلماء وأساتذة الفلسفة من أبناء حضارة «اللوجوس» الغربية لا يكفون عن اللقاء والتعاون في مشروعات مشتركة، فما أحرانا نحن أبناء العالم الثالث بالسعي إلى التواصل فيما بيننا من ناحية، وفيما بيننا وبين أبناء الغرب من ناحية أخرى؛ بغية التعرف على العوامل المشتركة، ومحاولة تجاوز الحدود المصطنعة بين شرق وغرب كما سيأتي بعد قليل! ستبقى الفروق النوعية في أساليب البحث والتفكير قائمة بغير شك، ولكن ربما يتم قدر كبير من التقارب والتلاقي إذا تواصل الحوار حول موضوعات وإشكالات تهم البشرية العاقلة بأسرها، وقد يتم هذا التقارب إذا تصورنا أن موضوع الحوار هو، على سبيل المثال، غياب الحكمة والعقل في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الذي استشرت فيه مختلف ظواهر الجنون الجماعي، بحيث لم يعد يكفي أن نسميه عصر القلق، ومشكلة السلام العالمي التي تركت حتى الآن للساسة والقادة العسكريين، وقضية الحكومة العالمية التي تجسد الضمير العالمي، وتردع الحكومات الفردية المعتدية - كما تصورها كانط مثلا في مشروعه المشهور عن السلام الدائم - وتغيير النظم التربوية على أساس الاحترام المتبادل بين شتى الثقافات، وتنمية هذا الاحترام عند أبناء الغد، والعمل على زيادة التواصل «والتثاقف» بينها؛ للتخلص تدريجيا من أشكال التعصب العرقي والقومي والتطرف الديني والمذهبي. التفكير المشترك - بصوت مسموع يصل إلى آذان الساسة والعامة - في مستقبل البشرية - المهددة في كل لحظة بالفناء والاندثار - والعوائق التي تسد الطريق إلى وحدة الحيوانات التي نسيت أو كادت تنسى أنها حيوانات عاقلة، وآن أوان إعادة الذاكرة إليها. باختصار: تشكيل محكمة ضمير عالمي دائمة تمارس الإدانة والضغط المعنوي على كل معتد على الضمير العام، وكل آثم في حق الإنسان وحريته وكرامته وحرمة حياته وجسده وشخصيته وحقوقه الأولية. والمهم أن نتذكر على الدوام أن «السعي إلى الحكمة» لم تكن الحاجة إليه أشد إلحاحا منه في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين؛ قرن العنف والتدمير والضوضاء وسعار الانتحار الجماعي المجنون.
غير أن أخطر الأسباب الداخلية يأتي من الفلسفة نفسها؛ فعليها أن تراجع طبيعتها ومفهومها وتعريفاتها التقليدية ومناهجها وأساليب رؤيتها، إذا شاءت أن تصبح «حكمة عالمية» كما سماها كانط، أو «حكمة خالدة» كما وصفها ليبنتز وياسبرز وهكسلي وغيرهم. ولا يقتصر الأمر على تغيير الوصف والتسمية، وإنما يتعداه إلى المهام الجديدة التي تلزمها اليوم، أكثر من أي يوم مضى، بأن تكون عالمية وإنسانية، وأن تتحول - على الأقل في المجالات المختصة بالقيم والغايات الأخلاقية والمثل والأحلام والأهداف المستقبلية التي يمكن الإجماع عليها - إلى حكمة مناضلة تتسلح بأسلحة النقد والمقاومة لكل من يعطل العقل، ويغيب الوعي، ويشوه الإنسانية، ويطمس البديهيات الأولية التي انكفأت اليوم على وجهها في بحور الدم المراق، وطوفان الكذب والتزييف المنهمر من أجهزة البث المرئي والمسموع، ووسائل غسل المخ وأبواقه ليل نهار . وعليها أخيرا أن تحافظ على حريتها؛ لكي تستطيع الدفاع عن الحرية، وإلا سقطت في الهاوية التي سقطت فيها فلسفات سيئة الحظ تبنتها سلطات إرهابية (كما حدث أخيرا للماركسية وللصحوة الإسلامية، في ظل النظم الأيديولوجية المتحجرة والنظم العسكرية الطاغية المختلفة).
قلت إن غياب الحكمة من أبرز سمات العقود الأخيرة للقرن العشرين، سواء أخذناها بالمعنى المألوف أو بمعناها في التراث السقراطي والأفلاطوني والأرسطي.
إن الحكمة بأوسع معانيها تدل على الحكم الصائب الرزين على الأمور المتعلقة بالحياة والسلوك، وتقترن باتساع المعرفة وحدة الذكاء وعمق التأمل، لكن هذه ليست شروطا ضرورية لوجودها؛ إذ يمكن أن تستغني عنها بالفطنة والبصيرة. إنها (كما يقول الفيلسوف المثالي بلانشار)
2
لا تعنى بتأكيد حقائق أو تكوين نظريات، بقدر ما تعنى بوسائل الحياة العملية وغاياتها، وربما أضفنا إلى هذا أنها تتضمن نوعا من السعي إلى تحقيق الحياة الطيبة المتجانسة، كما تكشف عن بصيرة بالنفس في علاقتها بالعالم والمجتمع المحيط بها.
أما في التراث السقراطي، فيقصد بالحكمة معرفة «الأمور القصوى» أو «الحقائق النهائية». وطبيعي أننا لا نطالب الإنسان العادي أن يملك «الحقيقة النهائية»، سواء كانت هي معرفة الله أو المثل الأفلاطونية أو أي حقيقة أخرى؛ فحكمة الحكيم تتجلى قبل كل شيء في معرفته بنفسه وبغيره، وفي نفاذ بصيرته إلى الطبيعة الإنسانية والحياة بوجه عام، بحيث يكون قادرا على الرؤية الكلية لهذه الحياة في وحدتها وشمولها، كما يكون أقدر من كثيرين غيره على أن يهتدي بالعقل في أفعاله، ويدرك الأهداف الصحيحة إدراكا واضحا، ويحسن اختيار الوسائل المؤدية إلى بلوغها. ولا حاجة للقول بأن من مقومات حكمته كذلك أن يرى الأشياء رؤية نزيهة ومن مسافة بعد كافية، وأن يتحكم في عواطفه وانفعالاته ليحتفظ بهدوئه واتزانه العقلي في الأوقات العصيبة، والظروف التي تفرض عليه اتخاذ القرارات والمواقف من الأشخاص والأشياء قبل الإقدام على الفعل. وكلها ألوان من الحكمة التي يمكن أن نجدها عند فلاح بسيط ولا نجدها عند أغلب من نسميهم «أساتذة» الفلسفة. ويكفي «محب الحكمة» بهذا المعنى القريب المألوف أن يسعى لفهم «الموقف » أو «الشرط الإنساني»، ورؤيته رؤية كلية من خلال مظاهره وتجلياته وتعبيراته المختلفة في خضم ملحمة التاريخ البشري. ولا شك أن هذه الرؤية ستنطوي على التأمل في فناء الإنسان أو تناهيه، وفي دلالة هذا الفناء والتناهي على مقومات وجوده التي أفاض في شرحها الوجوديون، وسينعكس هذا أيضا على موقفه من الزمان؛ إذ لن يكون حكيما من لا يتأمل ماضي الإنسان وحاضره؛ لكي يكون أقدر على التبصر بمستقبله، والإعداد له، والاستجابة لمطالبه، واستشراف آفاقه وممكناته، والتأهب لمواجهته بالمعرفة والإرادة، وفي هذا يقول شاعر الألمان الأكبر «جوته»: «من لم يحط علما بما مر بالبشرية عبر ثلاثة آلاف عام، فسيبقى طوال حياته تائها يتخبط في الظلام.»
إن الإنسان في هذا القرن يفتقر إلى الحكمة؛ لأسباب يصعب حصرها وتحديد أنواعها. ربما يكفي القول بأنه في لهفته على معرفة الطبيعة والسيطرة عليها بمعلمه ووسائله التقنية، قد أهمل السعي الذي لا يقل عنه أهمية لمعرفة نفسه ورعاية باطنه وضميره وأخلاقياته، وكانت النتيجة - كما يقول أينشتين في عبارة معروفة - أن اكتملت وسائله، واضطربت غايته، وظهر عجزه عن مواجهة حقيقة نفسه وعالمه الذي صنعه، ثم أخذ يدمره بأشكال مختلفة؛ في خداعه لنفسه أو استسلامه لمختلف الأساطير والأوهام والخرافات التي خدعته بها قوى نسجت شباكها حوله (كالقوى والمصالح الموجهة للسوق الاستهلاكية العالمية، والاتجاهات العنصرية والطائفية والمذهبية المتعصبة، التي تصورت أنها استأثرت بالحقيقة المطلقة؛ مما جعله في النهاية أداة لأعمالها الإرهابية أو ضحية لها). ولا شك أن من أخطر مظاهر انعدام الحكمة هذا الانفلات الصاخب من كل الحدود والمعايير على كل المستويات، باسم التجديد والتجريب تارة، وباسم الحياة أو الحب أو الثورة على كل الأنظمة المتسلطة تارة أخرى. وليس من قبيل المصادفة أن تكثر الطقوس العجيبة وممارسات الجماعات الشاذة والجرائم البشعة كثرة هائلة في أقوى الدول وأعظمها سيطرة على العلم والتقنية.
كان من نتائج ذلك أيضا أن اتسم عصرنا كما قلت بالانفلات من كل الحدود، وما نسميه عادة بإيقاع العصر المتسارع ليس إلا تعبيرا عن التطرف والشطط والاندفاع الجنوني الذي انجرفت إليه الأفراد والشعوب بدرجات وصور مختلفة. ولقد ظهر هذا التطرف وما يزال يظهر في أشكال وأفعال متباينة في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والعسكرية والثقافية، تاركا وراءه الموت والدم والخراب والاضطراب والفوضى، وشاهدا على تدمير العقل والمعقول والضمير والحكمة.
صفحه نامشخص