[مقدمة الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله الأمين، القائل : { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد : فإنه لما كان علم الفقه من أجل العلوم تقديرا، وأكثرها دراسة وتحريرا، وهو ثمرة الفنون ولبابها، ومنتهى علوم الدين وبابها.
أكثر علماؤنا الأفاضل من التصنيف فيه.
وأحاطوا بقول كل فقيه، ولا سيما شراح متن الأزهار - شكر الله سعيهم - فقد تفننوا في أسلوبه.
واختلفوا في بسطه وتقريبه بين مختصر لم نسمع إلا باسمه، ومطول يهوش على المبتدي فهمه.
وقد اشتهر منها لتدريس المبتدي، وبحث المتوسط والمنتهي، شرح العلامة عبد الله بن قاسم بن مفتاح رحمه الله.
المسمى " المنتزع المختار من الغيث المدرار " مع ما علق عليه، وأضيف من الحواشي إليه، ولكنه لما حوى كثيرا من المذاهب والخلافات، وما يؤمل وقوعه على أندر الاحتمالات استغرق على الطالب الوقت الطويل، فلم يتمكن من إكماله إلا القليل.
وطالما سمعت من ذوي الألباب، لهجهم بمسيس حاجة الطلاب إلى شرح مختصر لطيف يليق بطلبة العلم الشريف جليل الفوائد قريب المقاصد ليس بالوجيز المخل.
ولا بالطويل الممل، ولذلك انتدبني لهذا الموضوع، وجد علي في نجاح المشروع جماعة من أهل العلم والعمل.
دأبهم السعي لإصلاح كل خلل فأجبتهم متجشما صعوبة هذا العمل الخطير، وأقبلت عليه سائلا من الله التيسير عملا بقوله - تعالى - : { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب }.
صفحه ۱
ولهذا فإني قد أمعنت النظر في الاطلاع، وبذلت غاية المستطاع في إتقان التهذيب وإحكام الترتيب، وقد قسمت الكتاب إلى قسمين : ( القسم الأول ) في العبادات من ابتداء الكتاب إلى آخر كتاب الحج.
و( القسم الثاني ) في المعاملات المحضة والمشوبة ببعض العبادات من كتاب النكاح إلى آخر كتاب السير، وبينت في القسمين عدد الفصول تقريبا للمبتدي عند التحويل إلى الوصول فجاء - بحمد الله - قريب الانتفاع حريصا على الوقت من الضياع تهتز له الأنفس عند السماع، وتنشرح له الصدور عند الاطلاع ؛ لأنه جمع - مع صغر حجمه - ما حواه شرح الأزهار وحواشيه الجمة من المسائل المقررة للمذهب الحافلة بكل مطلب مبسوطا في وقت ومختصرا في آخر بحسب الحاجة والمواطن، كما يدرك ذلك كل فاطن، وهذا مع علمي بقلة بضاعتي وازدراء صناعتي إذا عرضت للانتقاد، وأهملت عن الإصلاح والإرشاد فما كل من صنف أجاد، ولا كل من قال وفى بالمراد ولكني أقول كما قال الحريري : وإن تجد عيبا فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا وقد سميته ( التاج المذهب لأحكام المذهب ) راجيا من الله سبحانه أن يديم نفعه للعباد ويجعله لعبده ذخيرة إلى يوم المعاد، خالصا لوجهه الكريم ووسيلة إلى جنات النعيم.
صفحه ۲
[فصل في تعريف التقليد]
قال الإمام عليه السلام ( مقدمة لا يسع المقلد جهلها ) بمعنى لا يجوز له الإخلال بمعرفتها.
صفحه ۳
( 1 ) ( فصل ) ( التقليد ) هو العمل بقول الغير أو الاعتقاد أو الظن بصحته، وإنما يجوز ( في المسائل الفرعية ) احترازا من الأصولية سواء كانت من أصول الدين أو أصول الفقه أو أصول الشرائع فإن التقليد فيها لا يجوز ( العملية ) احترازا من الفروع العلمية كمسألة الشفاعة، وفسق من خالف الإجماع فإنه لا يجوز التقليد فيهما ( الظنية ) وهي التي دليلها ظني ( والقطعية ) وهي التي دليلها قطعي فالتقليد في المسائل التي تجمع ما تقدم ( جائز ) عندنا ( لغير المجتهد لا له ) أي لا للمجتهد فإنه لا يجوز له التقليد ( ولو وقف على نص أعلم منه ) فإنه لا يجوز له تقليده إلا عند أن تضيق الحادثة فيجب عليه التقليد ( ولا ) يجوز التقليد ( في عملي يترتب على ) أمر ( علمي كالموالاة ) للمؤمن، وحقيقتها أن تحب له كل ما تحب لنفسك وتكره له كل ما تكره لنفسك، ومن ذلك تعظيمه واحترام عرضه وذلك وإن كان عملا فلا يجوز فيه التقليد ولا العمل بالظن ؛ لأن ذلك لا يجوز إلا لمن علم يقينا أنه من المؤمنين بالاختبار أو العلم أو الرجوع إلى الأصل والأصل فيمن ظاهره الإسلام الإيمان ما لم يعلم بيقين أنه قد خرج عنه ولو شهد عدلان أنه قد خرج عنه لم يعمل بذلك حيث لم ينضم إليه حكم.
( والمعاداة ) وهي نقيض الموالاة أيضا لا يجوز التقليد فيها ولا يكفي في العمل بها إلا العلم ؛ لأنها تترتب على الكفر أو الفسق وهما مما لا يجوز التقليد فيه، فكذا ما يترتب عليهما.
صفحه ۴
[فصل شروط المقلد والمجتهد]
( فصل ) ( وإنما يقلد ) من حصل فيه شرطان ( أولهما ) قوله ( مجتهد ) وهو المتمكن من استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها وأماراتها وإنما يتمكن من ذلك من جمع علوما خمسة ( أولها ) : علم العربية من نحو وتصريف ولغة ؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية الدلالة فلا يتمكن من استنباط الأحكام منها إلا بمفهوم كلام العرب إفرادا وتركيبا، والذي يحتاج منها قدر ما يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة.
( وثانيها ) : علم الآيات المتضمنة للأحكام الشرعية وقد قدرت خمسمائة آية قال الإمام عليه السلام أعني التي هي واردة في محض الأحكام وتؤخذ من ظواهرها وصرائحها.
فأما ما يستنبط من معاني سائر القرآن من الأحكام فإنها كثيرة واسعة إلا أنها غير مشروطة في كمال الاجتهاد بالاتفاق، ولا يجب في الخمسمائة أن تحفظ غيبا بل يكفي أن يكون عارفا بمواضعها من السور بحيث يتمكن من وجدانها عند الطلب من دون أن يمضي على السور جميعا.
( وثالثها ) أن يكون عارفا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يلزم الإحاطة بل يكفيه أحد كتب السنن كسنن أبي داود وغيرها مما اشتهر بالصحة والاعتماد، ولا يلزم في حفظ السنة إلا كما تقدم في الآيات وهو أنه لا يلزم غيبها بل يكفي إمكان وجدان الحديث الذي يعرض طلبه في بابه إذا كان الكتاب مبوبا من دون مرور على الكتاب.
صفحه ۵
( ورابعها ) المسائل التي وقع الإجماع عليها من الصحابة والتابعين وغيرهم التي تواتر إجماع مجتهدي هذه الأمة عليها قال الإمام عليه السلام : إلا أنها قليلة جدا أعني التي نقل الإجماع فيها بالتواتر.
( وخامسها ) علم أصول الفقه ؛ لأنه يشتمل على معرفة حكم العموم والخصوص والمجمل والمبين، وشرط النسخ، وما يصح نسخه وما لا يصح، وما يقتضيه الأمر والنهي من الوجوب والتكرار والفور وغيرها، وأحكام الإجماع وشروط القياس صحيحها وفاسدها، وكل هذا لا يكمل استنباط الحكم إلا مع معرفتها.
فهذه العلوم الخمسة لا يكمل الاجتهاد متى لم تكمل، وقد اشترط غير ذلك وليس عندنا بشرط.
( الشرط الثاني ) قوله ( عدل ) أي ذلك المجتهد عدل، والعدالة لها حقائق أثبتها ما قاله ابن الحاجب محافظة دينية تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة.
( فرع ) : قال في البيان ولا يشترط كونها محققة كعدالة الشاهد والحاكم والإمام بل كعدالة إمام الصلاة، وهو عدم فعل الكبيرة، وعدم الإقدام على الصغيرة جرأة، ولا يجب الاختبار بل التوبة كافية.
صفحه ۶
قال الإمام عليه السلام : ولما كان في الكبائر ما يعلم كونه كبيرا بصريح من كتاب الله - تعالى - أو سنة نبيه أو إجماع مستند إليهما بحيث لا يقع النزاع في مفهومه لكنه يؤول إلى الكفر أو الفسق بما يستلزمه من الوجوه فيسمى صاحبه كافر تأويل كالمجبر، وفاسق تأويل كالباغي، وكان حكمه حكم كافر التصريح عندنا في تحريم التقليد أشرنا إلى ذلك بقولنا عدل ( تصريحا وتأويلا ) أي من حق العدالة أن يكون من الطرفين فلا يجوز تقليد من سقطت عدالته من جهة التأويل ولا الأخذ بفتواه ( ويكفي ) من يريد التقليد ( المغرب ) عن حال هذا الذي يريد تقليده في معرفة الصلاحية أن يرى ( انتصابه ) أي انتصاب هذا العالم ( للفتيا ) حيث يرى الناس يأخذون عنه فإن ذلك طريق إلى غلبة الظن بصلاحيته إذا كان ( في بلد ) تكون ( شوكته ) وهي أمر دولته ( لإمام حق ) أي لمحق ؛ ليدخل المحتسب ( لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل ) ؛ لأنه مهما لم يكن كذلك لم يأمن المستفتي الذي يحرم عنده تقليد فاسق التأويل أن يكون هذا المنتصب فاسق تأويل أو كافر تأويل عنده فلا يجوز له الأخذ عنه إذ لا يحصل غلبة ظن بصلاحيته حينئذ قال الإمام عليه السلام : فأما إذا كان البلد الذي هو فيه كما ذكرنا فإنه يغلب في الظن أنه ليس كذلك، وإنما قلنا المغرب ؛ لأنه لو اختبره وعرف صلاحيته جاز الأخذ عنه، وإن لم يأخذ عنه غيره، وكذا لو أخبره عدلان بصلاحيته.
صفحه ۷
[فصل كل مجتهد مصيب]
( 3 ) ( فصل ) ( وكل مجتهد ) وقد تقدم بيانه متى وفى الاجتهاد حقه في الفرعيات العمليات الظنيات فهو ( مصيب ) بمعنى أن ما أوصله إليه نظره من إيجاب أمر أو تحريمه أو ندبه أو إباحته فذلك هو مراد الله - تعالى - ومراد الله تابع لما أداه إليه نظره لا أن نظره تابع لمراد الله - تعالى - وليس القصد بتوفية الاجتهاد حقه أن يعلم أنه قد أصاب في نظره بل يكفي غالب الظن.
قال الإمام عليه السلام : وقلنا ( في الأصح ) إشارة إلى الخلاف الواقع في ذلك ( والحي ) من المجتهدين بالأخذ عنه وتقليده ( أولى من الميت ) منهم ندبا مع الاستواء في العلم والورع ؛ لأن الطريق إلى كماله تكون أقوى من الطريق إلى كمال الميت في غالب الأحوال ؛ ولأنه قد خالف في صحة تقليده بعض العلماء القائلين بالتقليد بخلاف الحي ( والأعلم ) حيا كان أو ميتا فهو أولى ( من الأورع ) ؛ لأنه أهدى إلى الحق وأعرف بدرك الأدلة واستظهارها ( والأئمة المشهورون من أهل البيت ) بكمال الاجتهاد والعدالة سواء كانوا ممن قام ودعا كالإمام الهادي والإمام القاسم أم لا كزين العابدين والصادق وغيرهما فتقليدهم ( أولى من ) تقليد ( غيرهم ) عندنا ؛ لقرب نسبهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولأخبار وردت في أهل البيت رضي الله عنهم.
صفحه ۸
[فصل في التزام مذهب معين وحكم انتقال المقلد]
( 4 ) ( فصل ) ( والتزام مذهب إمام معين ) حيا كان أم ميتا ( أولى ) من ترك الالتزام ولا يصح الالتزام مؤقتا ولا مشروطا ( ولا يجب ) الالتزام بل يجوز أن يقلد هذا في حكم، وهذا في حكم آخر ( ولا يجمع مستفت ) عامل ( بين قولين ) مختلفين ( في حكم واحد على صورة لا يقول بها إمام منفرد كنكاح خلا عن ولي ) عملا بقول أبي حنيفة.
( و) عن ( شهود ) عملا بقول مالك كما قيل فإن الطرفين، وإن قال بكل واحد منهما إمام لكنهما في حكم واحد وهو النكاح ولو سئل أبو حنيفة عن صحته قال ليس بصحيح ؛ لعدم الشهود، ولو سئل مالك عنه قال ليس بصحيح لعدم الولي فلا يكون في هذا النكاح مقلدا لواحد من الإمامين ؛ لأن كل واحد منهما يقول ببطلانه ( لخروجه ) أي الفاعل لذلك ( عن تقليد كل من الإمامين ).
( 5 ) ( فصل ) : ( ويصير ) المرء ( ملتزما ) لمذهب إمامه ( بالنية ) وهي العزم على العمل بقوله ( في الأصح ) ؛ لأن في ذلك أقوالا، وحاصل ذلك أن غير المجتهد لا يخلو إما أن ينوي الالتزام أو لا أو يعتقد صحة قوله أو لا فإن نوى الالتزام فهو الملتزم، وإن عمل واعتقد فهو المقلد، وإلا فهو المستفتي.
صفحه ۹
هذا معنى ما في التكميل ( وبعد الالتزام ) لقول إمام معين في حكم واحد أو في أحكام أو في جملة المذهب فإنه ( يحرم الانتقال ) عن ذلك ( إلا إلى ترجيح نفسه ) أي بعد الالتزام يحرم الانتقال عما التزمه إلا إلى ترجيح نفسه أو ترجيح من قلده ( بعد استيفاء طرق الحكم ) الذي ينظر فيه وهي الأدلة عليه والأمارات حتى لا يغيب شيء مما يحتج به عليه، فمتى استوفاها اجتهد فيها ورجح ما رجح فإنه حينئذ يجب الانتقال إلى ما يترجح عنده كما يجب على المجتهد ترك الاجتهاد الأول لترجيح خلافه.
( فالاجتهاد ) عندنا ( يتبعض ) بمعنى أنه يكون الإنسان مستكملا لآلة الإجهاد في مسألة دون مسألة يعني بأن يعرف أدلة تلك المسألة دون غيرها كأن يعرف ما يدل على أن الطلاق يتبع الطلاق أو لا يتبع من الكتاب والسنة، ويعرف مراد ذلك من العربية وأصول الفقه، وكونه لم يجمع فيها بخلاف قوله فإنه يكون مجتهدا فيها فقط ( في الأصح ) من المذهبين.
قال الإمام عليه السلام : ثم لما كان ثم وجه آخر للانتقال بعد الالتزام عطفنا بذكره على المستثنى الأول فقلنا ( أو لانكشاف نقصان ) العالم ( الأول ) الذي قد عمل بقوله عن درجة الاجتهاد أو كمال العدالة، فإن ذلك يوجب الخروج عن تقليده.
صفحه ۱۰
( فأما ) الانتقال من مذهب المجتهد العدل ( إلى ) مذهب مجتهد ( أعلم ) من الأول ( أو أفضل ) أي أورع منه ( ففيه تردد ) المذهب جواز الانتقال ؛ لزوال العلة المقتضية تحريم الانتقال إلى قول مثله، وهي عدم الترجيح ؛ لأنه قد حصل الترجيح بالأعلمية والأورعية .
( فإن فسق ) المجتهد أو اختلت عدالته ( رفضه ) من قلده أي ترك تقليده واتباعه ( فيما عقب الفسق ) من اجتهاداته وأقواله لاختلال أحد شرطي التقليد وهي العدالة.
قال الإمام عليه السلام وقلنا ( فقط ) إشارة إلى أنه لا يرفض تقليده فيما سبق الفسق إلا أنه لا ينبغي له الاعتزاء إليه بعد فسقه بل إلى موافقيه من العلماء فيما قد قلده فيه.
فإن كان الحكم الذي قلده فيه قبل فسقه مخالفا لما يقوله مجتهدو زمانه جميعا وجب على مقلده أن ينتقل بعد فسقه إلى قول الجماعة ؛ لأن خلاف هذا المجتهد قد ارتفع بفسقه فصار الحكم إجماعيا.
( وإن رجع ) ذلك المجتهد عن اجتهاده الأول في مسألة إلى خلافه ( فلا حكم له ) أي لرجوعه إذا رجع ( فيما قد نفذ ) أي فيما قد فعله هو أو المقلد له إذ قد نفذ ( ولا ثمرة له ) مستدامة ( كالحج ) فإنه حكم لا يتكرر فإذا رجع عن اجتهاد فيه قد أداه به هو أو من قلده لم تلزم إعادته بعد الرجوع.
صفحه ۱۱
( مثاله ) لو قلد أبا حنيفة في أن الوطء بعد الوقوف وقبل رمي جمرة العقبة بحصاة ليس بمفسد للحج ثم أنه حج ووطئ قبل رمي جمرة العقبة بحصاة ثم تغير اجتهاده إلى أن الوطء قبل الرمي مفسد للحج فإنه لا يجب على المقلد إعادة الحج بل قد صح ولا تكرار فيه كالصلاة فلا يجب إعادة ما قد صلى ويعمل في المستقبل بالثاني.
( وأما ما لم يفعله ) من الأحكام التي قد اجتهد فيها حتى رجع عن ذلك الاجتهاد ( ووقته ) أي وقت الحكم الذي رجع عن اجتهاده فيه ( باق ) نحو أن يرى أن مسافة القصر ثلاث بعد أن كانت عنده بريدا، ولما يصل والوقت باق ( أو ) قد ( فعل ) ذلك الحكم الذي قد رجع عن اجتهاده فيه.
نحو أن يتوضأ من غير ترتيب ثم يرى وجوب الترتيب ( ولما يفعل المقصود به ) وهو التسليم على اليسار أي بالوضوء ( فبالثاني ) أي فيعمل بالاجتهاد الثاني في الصورتين جميعا فيصلي تماما ويعيد الوضوء.
( فأما ما لم يفعله ) من الأحكام التي قد وجبت ورجع عن اجتهاده الأول فيه ( وعليه قضاؤه ) نحو أن يترك صلاة في سفره حتى خرج وقتها وكان يرى أنه سفر يوجب القصر ثم رجع إلى أنه لا يوجبه وأراد القضاء ( أو ) رجع عن الاجتهاد في حكم قد ( فعله وله ثمرة مستدامة كالطلاق ) وذلك نحو أن يطلق امرأته ثلاثا من دون تخلل رجعة وهو يرى أن الطلاق لا يتبع الطلاق سواء أراجعها أم لم يراجعها ثم رأى أن الطلاق يتبع الطلاق ( فخلاف ) بين العلماء في الصورتين معا.
فمنهم من قال : إن الاجتهاد الأول ليس بمنزلة الحكم فينقضه الاجتهاد الثاني فيقضي تماما ويحرم نكاح المثلثة وهذا خلاف المذهب.
القول الثاني وهو الصحيح المذهب أنه بمنزلة الحكم فلا يعمل بالثاني فيقضي قصرا ولا يحرم نكاح المثلثة ما لم تخرج من العدة فتحرم وتحل بعقد جديد.
صفحه ۱۲
[فصل في قبول المقلد الرواية عن الميت والغائب]
( 6 ) ( فصل ) : ( ويقبل ) من أراد التقليد أو الالتزام ( الرواية عن ) المجتهد والمخرج والقائس ( الميت والغائب )، ولو عن المجلس فيعمل بقوله إن شاء قبل الالتزام وقبل تضييق الحادثة، وإلا وجب، وإنما تقبل الرواية ( إن كملت شروط صحتها ) وهي ثلاثة : عدالة الراوي كعدالة الشاهد، ولا يقبل خبر مسلم مجهول العدالة.
والثاني : ضبطه لما روى بمعنى أنه لا يخل بالمعنى بزيادة أو نقصان، وإن اختلف اللفظ.
والثالث : أن لا يكون معارضا لشيء من الأدلة السمعية والعقلية.
صفحه ۱۴
[لا يلزم المقلد طلب الناسخ بعد وجود النص الصريح]
( و) المقلد ( لا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل ) من لفظ المجتهد في حكم من الأحكام ( طلب ) النص ( الناسخ ) للنص الصريح يعني الرجوع عن القول ؛ لأن النسخ إنما يكون في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحقيقة النسخ إزالة حكم شرعي بطريق شرعي.
( و) لا يلزمه طلب ( المخصص ) لذلك العموم ( من ) سائر ( نصوصه )، ولو جوزهما حاصلين في النصوص الصادرة عنه بل متى روى له العارف بمذهب ذلك العالم قولا في تلك الحادثة لم يلزم المقلد أن يسأل ذلك الراوي هل لهذا القول ناسخ أو لهذا العموم مخصص من نصوصه ( وإن لزم المجتهد ) إذا وجد إطلاقا أو عموما من كتاب الله - تعالى - أو سنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - وجب البحث في بلده وميلها عن النسخ والتخصيص إذ لا يقطع بمقتضاهما حتى يرتفع ذلك التجويز بأن يبحث الآيات والأخبار حتى يغلب في ظنه فقد الناسخ والمخصص فيحكم.
صفحه ۱۵
( ويعمل ) المقلد ( بآخر القولين ) أو الأقوال المتصادمة في حكم واحد المستوية في الضبط والعدالة في النقل عن المجتهد ؛ لأن الظاهر أن الآخر رجوع عما قبله.
نحو أن يقول لا يصح البيع الموقوف ثم ينص على صحته فيعمل بالصحة ؛ لأنه آخر القولين ( و) يعمل المقلد ( بأقوى الاحتمالين ) كما يعمل بآخر القولين وذلك نحو أن يصدر عنه كلام ظاهره يحتمل معنيين، ولم يعلم ما أراد بكلامه فإنه يعمل بالأقوى منهما، وهو الأظهر ؛ لأنه الذي يغلب على الظن أن المجتهد قصده دون الآخر.
( مثل ذلك ) إذا قال المجتهد تعتد البالغة من الطلاق بثلاثة أقراء فإنه يحتمل أنه أراد الأطهار ويحتمل أنه أراد الحيض ؛ لأن اللفظ يحتملهما فيحمل على الأقوى منهما وهو الحيض.
( فإن التبس ) الآخر من القولين أو الأقوال، واستوى الاحتمالان ( فالمختار ) للمذهب ( رفضهما ) أي رفض القولين والاحتمالين ؛ لأنه لا يؤمن أن يعمل بالقول المرجوع عنه، ويصير المجتهد مع ذلك بمنزلة من لم يصدر عنه في ذلك قول أصلا.
فيلزم ترك تقليده في ذلك الحكم ( والرجوع ) في حكم تلك الحادثة التي تعارض فيها قولاه أو احتمالاه ( إلى غيره ) من العلماء ( كما لو لم يجد ) المقلد ( له ) أي لإمامه الذي قد التزم مذهبه جملة ( نصا ولا احتمالا ظاهرا ) في بعض الحوادث فإن فرضه حينئذ الرجوع إلى غيره اتفاقا، فلذلك إذا تعارض قولاه في حكم واحد فإنهما يبطلان كما تقدم.
صفحه ۱۶
[فصل لا يقبل المقلد تخريجا إلا من عارف دلالة الخطاب]
( 7 ) ( فصل ) : ( ولا يقبل ) المقلد ( تخريجا ) لحكم خرجه مقلد من مفهوم كلام مجتهد ( إلا من ) مقلد ( عارف دلالة الخطاب ) المذكورة في أصول الفقه، وقد حصرها في الجوهرة في عشرة أقسام بعضها ساقط وبعضها مأخوذ به.
قال الإمام عليه السلام : والتحقيق أنها تنحصر في سبعة : مفهوم اللقب مثل : زيد في الدار.
فمفهومه أن عمرا ليس فيها وهذا لا يأخذ به أحد من حذاق العلماء.
ومفهوم الصفة، وحقيقته : تعليق الحكم على حصول صفة من صفات الاسم، نحو في سائمة الغنم زكاة، فمفهومه أنه لا زكاة في المعلوفة فأخذ به كثير من العلماء ونفاه كثير ومفهوم الشرط كقوله - تعالى - { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } فمفهومه أن غير ذات الحمل بخلافهن في ذلك والآخذ بهذا المفهوم من العلماء أكثر من الآخذ بالصفة ومفهوم الغاية كقوله - تعالى - { حتى يطهرن } وهو أقوى، ومفهوم العدد كقوله - تعالى - { ثمانين جلدة } فمفهومه أن الزائد على الثمانين غير واجب ؛ لأن فيه إيلاما وهو حرام ؛ لأن الأصل تحريم إيلام الحيوان، وإضراره عقلا.
والسابع : الاستثناء نحو : أكرم القوم إلا زيدا فذكر زيد يدل على أن من عداه بخلافه.
والثامن : إنما، نحو { إنما الصدقات للفقراء } الآية.
فإنه يدل على أن من عدا الثمانية لا نصيب له في الصدقات ( والساقط منها ) أي من أدلة الخطاب عندنا مفهوم اللقب ( والمأخوذ به ) ما عداه.
صفحه ۱۷
[شروط الفرع والأصل في القياس وكيفية العمل عند تعارض العلل]
( ولا ) يقبل المقلد من مقلد ( قياسا لمسألة ) من مسائل إمامه ( على ) مسألة ( أخرى ) من مسائله فتجعل المسألة المقيسة من مذهبه قياسا على نظيرها ( إلا ) من مقلد ( عارف بكيفية رد الفرع ) المقيس ( إلى الأصل ) المقيس عليه لئلا يسلك قياسا فاسدا وإنما يعرف هذه الكيفية من كان عارفا بشرط الأصل والفرع.
أما شروط الأصل فهي خمسة : ( الأول ) أن يكون حكمه موجودا فيه غير منسوخ كأن يقول يقاس المسح على العمامة بالمسح على الخف فإن المسح على الخف منسوخ.
( الثاني ) أن يكون شرعيا وعلته شرعية أي الدليل على كونها علة شرعية لا على أصل ثبوتها فقد يكون عقليا ضروريا كالطعم عند الشافعي في تحريم بيع البر بالبر متفاضلا ( الثالث ) أن لا يكون ذلك الأصل معدولا به عن سنن القياس بأن يكون حكمه مقصورا عليه للنص ذلك كقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي بردة في تضحيته بالجذعة من المعز : { تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك }، ونحو ذلك، وإما ؛ لأنه لا نظير لذلك الأصل كالدية على العاقلة وكالقسامة ولبن المصراة والشفعة أو ؛ لأن حكمه لا يعلل كأعداد الركعات في الفروض، وصفة المناسك في الحج، وتفصيل زكاة المواشي.
( الرابع ) أن لا يكون ذلك الأصل مقيسا أيضا.
( الخامس ) أن يكون الدال على حكم الأصل متناولا بنفسه حكم الفرع وهذه الشروط لا يحتاج إليها جميعا إلا المجتهد فأما المقلد القائس لمسألة على مسألة من نصوص المجتهد فإنما يحتاج معرفة بعضها، وهي الثلاثة المتأخرة.
صفحه ۱۸
وأما شروط الفرع فهي ثلاثة : ( الأول ) أن تكون علة أصله عامة لأوصافه ؛ لأنه قد يعلل بأوصاف لا يسلم له الخصم وجودها أو بعضها في الفرع ( الثاني ) أن يقتضي القياس إثبات مثل حكم الأصل في الفرع لا خلافه فإن ذلك قياس فاسد ( الثالث ) أن لا يخالف الفرع الأصل في التغليظ والتخفيف نحو أن يقول في التيمم طهارة فيسن فيها التثليث كالوضوء فيقول الخصم إن الوضوء مبني على التغليظ، والمسح على التخفيف فكيف جمعت بينهما فكان فاسدا، وهذه الثلاثة من شروط الفرع كافية للمقلد القائس، ولا يلزمه معرفة شروط الحكم المذكورة في علم الأصول فلا يقبل المقلد القائس من مقلد إلا من عارف بكيفية رد الفرع إلى الأصل.
( و) عارف ( طرق العلة ) وهي التي يعلم بها كون العلة في ذلك الحكم علة، والذي يحتاج إليه منها ثلاث فقط.
( الأول ) النص نحو أن يقول العالم تجب النية في الوضوء ؛ لأنه عبادة فيعلم أن العلة العبادة وأن مذهبه في كل عبادة وجوب النية.
( الثاني ) تنبيه النص وله صور كثيرة منها نحو أن يقول لمن جامع أهله صائما فسأله عن حكم ذلك فقال عليك الكفارة ففي ذلك تنبيه على أن العلة في وجوبها الجماع في الصيام على القول بوجوبها، والمختار للمذهب الندب.
ونحو ذلك مما لا يعزب عن كثير من الناس في محاورات الخطاب.
( الثالث ) المناسبة وهي ما يقضي العقل بأن الحكم صدر عنها.
نحو : أن يقول إنه ورد النص في قتل الستة في الحل والحرم ؛ لأنها مجبولة على الضر فإذا وجدنا هذه العلة في غيرها أجزنا قتلها قياسا عليها.
صفحه ۱۹
( و) لا بد مع معرفة طرقها من معرفة ( كيفية العمل عند تعارضها ) ؛ لأن المجتهد قد يعلل بعلة فربما جاء في بعض نصوصه ما يعارض تلك العلة فلا يصح القياس إلا بعد الترجيح إن أمكن، وإلا فكالقولين يطرحان قال الإمام عليه السلام، وإلى اعتماد الترجيح أشرنا بقولنا ( ووجوه ترجيحها ) أي لا بد من معرفتها ؛ لأنه قد يحتاجها وأكثر ما يحتاج إليه منها ما يرجح قوة طريقها.
نحو أن تكون إحدى المتعارضتين نص عليها المجتهد نصا صريحا والأخرى نبه عليها فقط.
نحو قوله يحرم الكلب لكونه ذا ناب مع قوله الضبع نافع مستطاب فنص على العلة في الأول، ونبه عليها في الثاني فترجح العلة الأولى ؛ لكونها منصوصا عليها على الأخرى ؛ لكونها منبها عليها وقل ما يحتاج إلى غير ذلك من وجوه الترجيح المذكورة.
قال الإمام عليه السلام ثم بينا ما لا يلزم المقلد القائس على أصل من نصوص المجتهد معرفته من لوازم العلة بقولنا ( لا خواصها ) وهي أنها تصح أن تكون إثباتا اتفاقا، نحو زنى فيجلد، وسرق فيقطع، ونفيا في الأصح.
صفحه ۲۰
نحو قوله لم يصل فوجب قتله، لم يمتثل فوجبت عقوبته فهذه علة نفيية في حكم ثبوتي، وأنها قد تكون خلفا في محل الحكم كالطعم في البر وأنها قد تكون مركبة، نحو قتل عمد عدوان، فهذه الثلاثة علة في وجوب القصاص وأنه قد يكون للحكم الواحد علل كثيرة في الأصح نحو القتل والزنا، والردة إذا اجتمعت من واحد محصن فإنه يقتل، والقتل حكم واحد اقتضته هذه العلل الثلاث وأنه قد يأتي عن علة واحدة حكمان كالزنا فإنه علة في الجلد وفي القتل مع الإحصان.
( و) لا يجب أيضا معرفة ( شروطها ) وهي أن يكون الدليل على كونها علة شرعيا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، وأن تكون مؤثرة في اقتضاء الحكم بمعنى أن تكون مشتملة على حكمة شرعية مقصودة للشارع من شرع الحكم مقتضية للشبه إلى غير ذلك من الشروط.
ولا يلزم المقلد معرفة ( كون إمامه ) الذي استخرج على أصله ذلك الحكم من تلك العلة ( ممن يرى تخصيصها أو يمنعه ) فلا يلزم المقلد المستنبط لذلك الحكم معرفة أي الوجهين من إمامه فإن قلت وما معنى تخصيصها ؟.
قال الإمام عليه السلام : معناه أنه يصح ثبوتها في بعض الفروع ولا يثبت الحكم الذي اقتضه في غيره.
صفحه ۲۱