حاول الإنجليز أن يصوبوا سهامهم إلى العقائد الدينية، وصاحوا بالعالم أنهم يريدون أن يحافظوا على الأقليات باحتلالهم لمصر.
وأدرك أقباط مصر الدور المهين الذي يريد الإنجليز أن يستعملوهم فيه، فإذا هم ينتفضون مصريين. وحين تنهار حجة القوي يصبح السلاح هو حجته، فإذا الدماء المراقة تلقح الثورة بالعنفوان فتزداد على الأيام روعة وشموخا.
وبعد فما أظنك تنتظر مني أن أروي لك أحداث الثورة الكبرى في مصر؛ فأنت لا شك تعرفها وتعرف كيف أصبح الشعب فيها كلا واحدا. واختلط المثقف بالجاهل والقادر بالمعسر والفلاح بصاحب الأرض والعامل بصاحب المصنع، وسقطت كل الفوارق فتعانق الصليب والهلال وأصبح كل فرد في الشعب المصري لا يعرف أن له مصلحة خاصة، وإنما مصلحة الوطن العامة هي هي ذاتها المصلحة الخاصة عند الجميع.
حلمي في ثبج الأحداث وفي بؤرة العاصفة؛ فهو في الجمعيات السرية، وهو يقوم بدوره الذي يختارونه له، فيوما تراه خطيبا في صحن الأزهر الخالد الشامخ، ويوما لا تراه لأنه يلبس الخفاء ويتعقب جماعة من الإنجليز يقضي عليهم بالسلاح الذي تتفق الجمعية على استعماله؛ فالرأي جميع والجميع رأي وعمل.
قلة قليلة وقفت من الأحداث على حوافيها تعلق ولا تشترك؛ فالثورة عندها موضوع حديث لا حياة أمة، والأمة عندها شخص غريب يوحي بالحواديت والأخبار المسلية، فيستوي الأمر عندها أن يكون هذا الشخص مصر ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، أو أي دولة أخرى لا صلة لهم بها ولا سبب كان.
كان حفني من هؤلاء؛ فقد كانت أهمية الثورة عنده أن الأحاديث حول مائدة القمار أصبحت أكثر جمالا ورونقا وانفعالا أصبح فيه سحر الحدث لا موات التعليق. الخبر يلقى ليشمل أمة بأسرها، وكانت الأخبار قبل ذلك تلقى فلا تكاد تجد سامعا، ومن أي سلة كانت تخرج الأخبار قبل الثورة غير سلة التفاهة! فهذا زوجته تزور أمها، وهذا يريد لابنته عريسا فيومئ ولا يصرح ويشير ولا يبوح، وذلك يريد لابنه عروسا فيقول ويرفع صوته، أليس غضنفرا رئبالا أنجب ولدا بحاله ويريد له عروسا. كانت أخبارا تولد موءودة تموت قبل أن تتم خبرا أو تجد تعليقا.
أما اليوم فالخبر أسطورة، والكلمة تاريخ، واللحظة خلود، وهم يلعبون القمار ويلتذون في نفس الوقت بجسامة الأحداث، وبهذه الخلجات العالية الضجيج التي يصنعها الخبر العظيم حتى في نفس هؤلاء الذين يعيشون من الحياة على هامش الحياة.
وتمضي الأيام ويعود سعد ورفاقه من المنفى، وتبدأ المفاوضات وحلمي ورفاقه سائرون الطريق بقوة الثائر وذكاء السياسي، وقد استقر الرأي عندهم أن يكون عملهم هو تأييد المفاوضين بالطريقة التي يراها المفاوضون، وكان عبد الرحمن فهمي في مصر ذلك الزعيم العملاق الذي رفض أن يتقاضى ثمن الزعامة هتافا وإعجابا، وإنما تقاضاه راحة ضمير وعملا خطيرا خفيا وراء الأستار في سبيل مصر، كان ذلك السياسي الزاهد في المجد الشخصي والمتعبد في محراب مجد الوطن هو الصلة بين المفاوضات وبين الجماعة التي يعمل فيها حلمي.
فالعمل إذن كان متئدا متزنا لا نزق ولا رعونة. وكان أعضاء الجمعية يتزاورون، فلم يكن معقولا أن يصطنعوا لأنفسهم مكانا ثابتا يلتقون فيه.
وقد يزور الصديق منهم صديقه على غير موعد، وقد يزور الغني فقيرا، فلم يكن المال بذي شأن في علائقهم؛ فمنهم من كان قادرا على أن يستأجر أكثر من خادم، ومنهم من لا يستطيع أن يستأجر إلا خادما واحدا أو خادمة، فقد كان وجود الخادم في المنزل ضرورة لا غنى عنها، وإلا فمن يشتري من الأسواق.
صفحه نامشخص