Tahqiq Al-Wisal Bayn Al-Qalb Wal-Qur'an
تحقيق الوصال بين القلب والقرآن
ناشر
مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
محل انتشار
القاهرة
ژانرها
تحقيق
الوصال
بين القلب والقرآن
مجدي الهلالي
صفحه نامشخص
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٢٩هـ - ٢٠٠٨م
رقم الإيداع: ٢٥١٠٧/ ٢٠٠٧
الترقيم الدولي: I-S-B-N
٩٧٧-٤٤١-٠٤٦-٧
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
١٠ ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط
القاهرة ت: ٢٥٣٢٦٦١٠ محمول:٠١٠٢٣٢٧٣٠٢ - ٠١٢٦٣٤٤٠٤٣
www.iqraakotob.com
Email:iqraakotob@yahoo.com
1 / 1
رب يسر وأعن يا كريم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه الصفحات التي بين يديك - أخي القارئ- تتحدث عن القرآن وقيمته العظيمة، وكيفية الانتفاع به ليحدث الوصال الحقيقي بين القلب والقرآن فيتغير تبعًا لذلك الفرد ومن ثمَّ الأمة كما حدث مع الجيل الأول.
ولعلك - أخي القارئ - تتساءل عن السبب الذي يدفع كاتب هذه السطور لكثرة الحديث عن القرآن في عدة كتابات سابقة حتى أصبح هذا الحديث هو القاسم المشترك في كُتبه الأخيرة!!
بالفعل هناك دوافع تسوقني إلى كثرة الحديث عن القرآن وعدم الملل من ذلك، وأعترف بأنني قد أكرر بعض المعاني والأفكار في هذه الكتابات.
ومن أهم هذه الدوافع هو ذلك الواقع المرير الذي تحياه أمتنا، واحتياجها الماس إلى مشروع ينهض بها، ويعيدها إلى سيرتها الأولى.
ولقد أكرمنا الله ﷿ وتفضل علينا بما لا نستحقه، وأرانا كيف يمكن أن يكون القرآن هو ذلك المشروع.
فالقرآن كنز عظيم فيه كل ما يحتاجه الفرد ليصبح كما يحب الله ويرضى، وفيه كل ما تحتاجه الأمة للخروج من النفق المظلم الذي تسير فيه، والنهوض من كَبْوتها التي طالت وطالت ..
إن القرآن يصلح تمامًا لأن يكون بمثابة مشروع لنهضة الأمة جمعاء، فهو كالشمس يسع الجميع، مع الأخذ في الاعتبار أن الشمس لا تؤثر إلا فيمن يتعرض لها، كذلك القرآن لا ينتفع به إلا من يحسن التعرض له، بل ويزيد القرآن على شمس الدنيا، بأن نوره لا يأفل وشمسه لا تغيب عن أي زمان أو مكان ...
ومع تيسُّر القرآن للجميع إلا أن غالبية الأمة - إلا من رحم ربي - قد أعرضت عنه كمصدر متفرد لتوليد الإيمان وتقويم السلوك، واكتفت منه بتحصيل الأجر والثواب المترتب على تلاوته وحفظه.
من هنا برزت أهمية التنبيه على الجانب العظيم المهجور في القرآن، والذي قد لا ينتبه إليه الكثيرون ممن يتعاملون معه، لذلك أكثرت -بفضل الله وعونه- من الكتابات التي تتحدث عن أهمية القرآن وكيفية الانتفاع الحقيقي به، لعل كتابا من هذه الكتب يقع بين يديْ من يبحث عن الصلاح الحقيقي لقلبه، والعلو والرفعة لأمته.
فإن كنت - أخي القارئ- من هؤلاء، ولا أشك في ذلك، فأوصيك بالدعاء لكاتب هذه السطور بالمغفرة والرحمة وحسن الخاتمة، والدعاء كذلك للأمة بعودة أبنائها إلى القرآن، وحُسن الانتفاع به.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢].
كتبه العبد العاجز الفقير
إلى عفو ربه ورحمته وتوفيقه
مجدي الهلالي
www.Alemanawalan.com
* * *
1 / 2
قبل أن تقرأ هذه الصفحات
أخي القارئ:
إن الهدف التي تنشده هذه الصفحات هو:
(تحقيق الوصال بين القلب والقرآن)، أو بمعنى آخر: السماح لنور القرآن بدخول القلب فينوره ويغيَّره، وهذا بلا شك سيستدعي التعامل مع القرآن بالطريقة التي تحقق هذا الهدف، والتي أرشدنا إليها الله ﷿ في كتابه، ورسوله ﷺ في سنته، وطبقها الصحابة - رضوان الله عليهم - فكانوا بحق «جيلًا قرآنيًا فريدًا».
وليس معنى هذا هو تسفيه أو تخطئة من لا يتعامل مع القرآن بهذه الطريقة، أو القول بحرمان من يقرؤه بدون فهم أو تأثر من الأجر والثواب، فنحن لا نقول بهذا، بل نقول بأن الذي يقرأ القرآن بلا فهم ولا تدبر ولا تأثر لن ينتفع بالقرآن بالشكل الصحيح، وإن كان هذا لن يحرمه الأجر بإذن الله.
فعليك أخي القارئ أن تستصحب هذا المعنى وأنت تقرأ هذه الصفحات وغيرها.
* * *
1 / 3
الفصل الأول
الصخرة أغلقت الغار
فهل إلى خروج من سبيل؟!
1 / 4
الصخرة أغلقت الغار
فهل إلى خروج من سبيل؟!
لو تأملنا المرحلة التي تعيشها أمتنا لوجدناها تتشابه إلى حد كبير مع مرحلة التية التي مرت بها بنو إسرائيل عندما رفضوا دخول الأرض المقدسة، فكان العقاب الإلهي ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾ [المائدة: ٢٦].
والجدير بالذكر أن بني إسرائيل ظلوا خلال هذه المدة يبحثون عن مخرج من التية، وكلما توهموا مخرجا اندفعوا إليه، وبذلوا فيه جهدهم، ليفاجأوا بعد ذلك أنه سراب، وأنهم لم يبرحوا مكانهم.
وكذلك نحن، فمنذ عقود طويلة والمخلصون من أبناء أمتنا يبحثون عن مخرج يُنقذها من تيهها، إلا أن هذا البحث - مع ما فيه من جهد وإخلاص- تنقصه حلقة مهمة لكي تكتمل السلسلة وتظهر النتيجة المرجوة، وتنفرج الصخرة إنفراجًا يتيح للأمة الخروج من مأزقها الراهن.
هذه الحلقة المفقودة تُعني بتشخيص السبب الرئيسي لمرض أمتنا وكيفية علاجه، وتنطلق من مفهوم يقول بأن أمتنا ليست كبقية الأمم، وأن لها وضعا خاصا عند الله ﷿، فهي الأمة المكلفة منه سبحانه بحمل رسالته الأخيرة للبشرية وتبليغها للعالمين: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣].
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج: ٧٨].
فصيلة دم الأمة:
فإن كانت أمتنا مكلفة من الله ﷿ بحمل رسالته للناس أجمعين، فإنها لن تستطيع أن تقوم بهذه المهمة إلا إذا تقوَّت بالإيمان.
فالإيمان هو الذي يعين أبناءها على ترجمة هذه الرسالة إلى واقع حي يراه الناس، ويولد داخلهم القوة الدافعة للقيام بمهمة البلاغ.
لذلك نجد أن الله ﷿ قد ربط بين علونا وقيادتنا للبشرية وبين الإيمان الذي تحمله صدورنا .. ألم يقل سبحانه: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩].
فالحماية والولاية والكفاية والنصرة على قدر الإيمان:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١].
﴿وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء:١٤١].
والإيمان هو أهم شرط للتمكين:
﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: ٥٥].
1 / 5
إن فصيلة دم أمتنا هي الإيمان، ويوم أن يضعف الإيمان، ويتمكن الهوى وحب الدنيا من قلوب أبنائها، فإنها بذلك تفقد مصدر قوتها وتميزها على سائر الأمم، وليس ذلك فحسب؛ بل إن ضعف الإيمان وغلبة الهوى من شأنه أن يستدعى غضب الله عليها لأنها بهذا الضعف لن تستطيع أن تبلغ رسالته، ومن ثَّم فإن العقوبات ستتوالى عليها حتى تفيق من غفلتها، وتعود للإيمان فتتقوى به، وليس أدل على ذلك من قوله ﷺ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (١).
وعن أنس بن مالك مرفوعًا: «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل للعامة، فيقول الله: ادع لخاصتك أستجب، وأما العامة فلا، فإني عليهم غضبان» (٢).
مشكلتنا إيمانية:
من هنا نقول بأن مشكلة أمتنا إيمانية بالدرجة الأولى، ولن ينصلح حالها، ولن تستعيد عافيتها إلا بالإيمان، فتستبدل بذلك غضب الله برضاه، ومن ثمَّ تستدعى نصره وتمكينه ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧].
وليس معنى القول بأن مشكلة أمتنا مشكلة إيمانية هو ترك الأخذ بأسباب التقدم المادية التي أخذت بها سائر الأمم، أو ترك الجهاد لتبليغ الدعوة وإقامة المشروع الإسلامي، بل المقصد هو إعادة ترتيب الأولويات، فالإيمان أولًا ثم يلي ذلك توجيه وتصريف الطاقة التي يولدها ذلك الإيمان في المجالات المختلفة، والسعي الدؤوب لاستكمال المشروع الإسلامي الذي يبدأ بإصلاح الفرد، فالبيت، فالمجتمع، وينتهي بأستاذية العالم ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ [الأنفال: ٣٩].
مع الأخذ في الاعتبار أن أهم عامل لنجاح هذا المشروع هو وجود المسلم الصحيح الذي ممكَّن لله في قلبه، وفانعكس ذلك على سائر حياته ليتحقق فيه قوله تعالى: ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢].
ولا يمكن أن يظهر هذا النموذج إلا بالإيمان، فالإيمان هو الوقود الذي يولِّد الطاقة الدافعة للقيام بالواجبات المختلفة في أي زمان ومكان ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ - إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٤، ٤٥].
العمود الفقري للإيمان:
فإن كانت فصيلة دم أمتنا هي الإيمان، وأننا الآن نعاني من نقص شديد فيه، فإن أعظم مقوٍ للإيمان هو القرآن (٣).
فالقرآن هو المنبع العظيم للإيمان والذي لا يوجد له مثيل، ويكفي أنه ينادي على الجميع أن هلموا إلىَّ واستكملوا نقص إيمانكم، فمنابعي ممتلئة وجاهزة لإمدادكم جميعًا بما تحتاجونه من إيمان ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ [آل عمران: ١٩٣].
يقول محمد بن كعب القرظي: «المنادي هو القرآن، ليس كلهم رأي النبي ﷺ» (٤).
_________
(١) صحيح، رواه أبو داود، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير (٤٢٣).
(٢) رواه ابن المبارك في الزهد ح (٩٢٢).
(٣) بفضل الله ﷿ تم بسط القول حول هذه المعاني في كتاب «إنه القرآن سر نهضتنا» وإنما نختصر هنا المعنى للدخول من خلاله إلى موضوع هذا الكتاب.
(٤) فضائل القرآن لأبي عبيد ص٥٨.
1 / 6
فالقرآن له قوة تأثير ضخمة على القلوب لا يناظره فيها مصدر آخر وكيف لا، وهو كلام رب العالمين الذي إذا استقبلته الجبال الرواسي لتصدعت واندكت من قوة تأثيره عليها ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [الحشر: ٢١].
فإن كان الإيمان للقلب كالروح للبدن، فإن القرآن يمثل العمود الفقري
لهذا الإيمان؛ لذلك ليس عجبا أن يُسمى القرآن بالروح: +وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِّنْ أَمْرِنَا" [الشورى: ٥٢].
يقول مونتاي: إن مثل الفكر العربي الإسلامي المبعد عن التأثير القرآني كمثل رجل أفرغ من دمه (١).
إن القرآن - كما يقول محمد إقبال- ليس بكتاب فحسب .. إنه أكثر من ذلك، إذا دخل القلب تغير الإنسان وإذا تغير الإنسان تغير العالم (٢).
ويكفيك لتأكيد هذا المعنى ما حدث مع الجيل الأول حينما أحسنوا التعامل مع القرآن، وحين استقبلته قلوبهم الاستقبال الصحيح فكانت النتيجة السريعة المذهلة ... سيادة الأرض في سنوات قليلة.
إنهم صُنعوا ها هنا:
فإن كان التحقق بالإيمان والربانية هو أهم صفات جيل التمكين، فليس عجبًا أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم قد تحققت فيهم هذه الصفة على خير ما يكون، وكان السبب الرئيس في هذا هو القرآن، ولقد تحدث الأستاذ سيد قطب ﵀ في هذا الأمر كثيرًا في كتاباته، ومن ذلك ما قاله في آخر كتبه - مقومات التصور الإسلامي:
«لقد كنت وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود الله - سبحانه - وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم، فلا أكاد أدرك كيف تم هذا؟!
كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم، ولكني لم أكن أدرك كيف تم هذا حتى عدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه الأصيل: تجليه حقيقة الألوهية وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها.
وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله!
أدركت - ولا أقول أحطت - سر الصناعة!
عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صنع!
إنهم صُنعوا ها هنا! صنعوا بهذا القرآن! بهذا المنهج المتجلى فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تحيط هذه الحقيقة بكل شيء، وتغمر كل شيء، ويصدر عنها كل شيء، ويتصل بها كل شيء! وتكيف بها كل شيء .. بهذا كله وجدت - في الأرض وفي دنيا الناس .. حقيقة «الربانية» متمثلة في أناس من البشر.
وُجد «الربانيون» الموصولون بالله، العائشون بالله، ولله، والذين ليس في قلوبهم وليس في حياتهم إلا الله.
وحينما وجدت حقيقة «الربانية» هذه في دنيا الناس، ووجد الربانيون الذين هم الترجمة الحية لهذه الحقيقة .. حينئذ انساحت الحواجز الأرضية، والمقررات الأرضية، والمألوفات الأرضية .. ودبت هذه الحقيقة على الأرض .. وصنع الله ما صنع في الأرض وفي حياة الناس بتلك الحفنة من العباد.
وبطلت الحواجز التي اعتاد الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتحدد مداه، وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الأحداث والأشياء .. ووجد الواقع الإسلامي الجديد، وولد معه الإنسان الحقيقي الجديد» (٣) ..
_________
(١) قالوا عن القرآن لعماد الدين خليل ص ٢٨٧، ملحق لكتاب إشارات الإعجاز لبديع الزمان النورسي.
(٢) روائع إقبال للندوي ص ١٥٨.
(٣) مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب ص ١٩٢، ١٩٤ باختصار.
1 / 7
القرآن مخرجنا:
فإذا كان القرآن قد صنع الجيل الأول، فإنه قادر بإذن الله أن يصنع أجيالًا ربانية جديدة، وأن يخرج الأمة - بإذن الله- من أزمتها، ويعيد لها مكانتها.
وليس هذا الكلام من قبيل الأماني والأحلام بل هو حقيقة أكدها التاريخ، وأخبرنا بها رسول الله ﷺ، ففي حديث حذيفة بن اليمان حين أخبره رسول الله ﷺ بما سيحدث من اختلاف وفرقة بعده. قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك، قال: «تعلَّم كتاب الله ﷿، واعمل به فهو المخرج من ذلك».
قال حذيفة: فأعدت عليه ثلاثًا، فقال ﷺ ثلاثًا: «تعلَّم كتاب الله ﷿ واعمل به فهو النجاة» (١).
وخطب ﷺ في مرجعه من حجة الوداع فقال: «إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيبه، وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدين ومن أخطأه ضل» (٢)
وعندما حدثت فتنة مقتل عثمان بن عفان ﵁ ذهب عبد الرحمن بن أبزى إلى أُبي بن كعب ﵁ ليسأله: أبا المنذر ما المخرج؟ قال: كتاب الله، ما استبان لك فاعمل به وانتفع، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه (٣).
وفي الحديث الذي رواه الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على على ﵁ فقلت: يا أمير المؤمنين، أما ترى الناس يخوضون في الأحاديث؟ فقال: فقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنها ستكون فتن» قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله تعالى، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل .. الحديث» (٤).
أين السنة؟!
وليس معنى القول بأن القرآن هو المخرج التقليل من شأن السنة النبوية، بل العكس فالقرب الحقيقي من القرآن سيزيدنا حبًا للسنة، ويعيننا على العمل بما تدل عليه.
فالسنة تشرح القرآن وتبين ما أُجمل فيه ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤].
وليس أدل على أهمية التمسك بالسنة مع القرآن من قوله ﷺ: «تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علىَّ الحوض» (٥).
مع الأخذ في الاعتبار أن القرآن ينفرد بإعجازه ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨].
فالقرآن الكريم أعظم معجزة نزلت من السماء، والسر الأعظم لإعجازه يكمن في قوة تأثيره على القلوب، فإن كانت المعجزات السابقة حِسِّية تشاهد بالأبصار، فإن معجزة القرآن تشاهد بالبصائر، ويشعر بها كل من يتعرض لها.
نعم، هناك أوجه إعجاز متعددة للقرآن (الإعجاز البياني والإعجاز التشريعي والإعجاز الغيبي والعلمي) إلا أن سر إعجازه الأعظم - كما يقول الإمام الخطابي - هو: «صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس.
فإنك لا تسمع كلاما - غير القرآن - منظورًا أو منثورًا إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه.
ويستطرد الخطابي قائلًا:
_________
(١) رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي.
(٢) رواه مسلم (٦١٧٧).
(٣) مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي ص ١٧٤.
(٤) رواه الترمذي والدارمي وغيرهما، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (١٧٧٦).
(٥) صحيح، رواه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (٢٩٣٧).
1 / 8
تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتَغَشَّاها من الخوف والفَرَق .. ما تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب .. يحول بين النفس وبين مُضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.
فكم من عدو للرسول ﷺ من رجال العرب وفتَّاكها، أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا (١) ..
إن تأثير القرآن على القلوب لا يوجد له نظير، ومن ثمَ فإن من يُحسن التعرض له سيكون من أكثر الناس حبا للسُّنة، وحرصا على تطبيقها، وكيف لا والطاقة المتولدة من كثرة التأثر بآيات القرآن ستدفعه لتطبيق كل ما يستطيع تطبيقه مما يُحبه الله ورسوله.
القرآن والأعمال الصالحة الأخرى:
وليس المقصد كذلك من كلامنا عن القرآن التقليل من شأن بقية الأعمال الصالحة الأخرى، فكل طاعة، وكل عمل صالح له وظيفة في تشييد بنيان الإيمان في قلب المسلم، ولكن المقصد هو وضع القرآن في حجمه الصحيح بالنسبة لتلك الأعمال.
فكما أن للحج أعمالًا كثيرة كالسعي والطواف ورمي الجمار، إلا أن أهم عمل في الحج هو الوقوف بعرفة، فبه يتحقق أهم مقصود للحج من إظهار الذل والانكسار والتَبَؤُّس والافتقار لله ﷿، لذلك قال ﷺ: «الحج عرفة» (٢).
وكما أن للتوبة أعمالًا كثيرة كالإقلاع عن الذنب، ورد المظالم، والاستغفار، إلا أن أهم عمل للتوبة هو الندم، وبدونه لن تتحقق التوبة .. قال ﷺ: «الندم توبة» (٣).
كذلك القرآن بالنسبة للإيمان، فكما أن كل طاعة، وكل عمل صالح من شأنه أن يزيد الإيمان كالصيام والصدقة وغيرهما إلا أن القرآن يُمثل العمود الفقري للإيمان، وبدونه لا يمكن للقلب أن يستعيد عافيته بصورة كاملة، وتُبث الروح في جنباته .. إنه كالماء فيه حياة لكل من شرب منه.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم:
وكل من القلب والبدن محتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح .. وكما أن البدن محتاج أن يرقى بالأغذية المصلحة له، والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ومنعه مما يضره، فكذلك القلب: لا يزكو، ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلا بذلك ..
ولا سبيل له إلى الوصول لذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره .. فهو شيء يسير لا يحصل له به تمام المقصود (٤) ..
من هنا ندرك مغزى قول عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁:
لو بات رجل ينفق دينارًا دينارًا، ودرهمًا درهمًا، ويحملُ على الجياد في سبيل الله، حتى يصبح متقبلًا منه، وبت أتلو كتاب الله حتى أصبح متقبلا مني لم أحب أن لي عمله بعملي (٥).
وكان عبد الله بن مسعود ﵁ ضعيف البنية، وكان يُقل من صيام التطوع، فسئل عن سبب إقلاله من الصوم. فقال: إنه يضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلىَّ منه (٦).
وإن تعجب فعجبٌ قول الضحاك بن مزاحم: لولا تلاوة القرآن لسرني أن أكون مريضا. فقيل له: لِمَ؟ قال: لأن المرض يرفع عني الحرج ويُكفر عني الذنوب، ويجرى لي مثل صالح ما كنت أعمل (٧).
_________
(١) التعبير القرآني والدلالة النفسية ص ١٠٨، ١٠٩ نقلا عن البيان في إعجاز القرآن للخطابي ص٦٤.
(٢) صحيح، رواه الإمام أحمد، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع ص (٣١٧٢).
(٣) أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه.
(٤) إغاثة اللهفان ١/ ٧٦.
(٥) أورده الغافقي في لمحات الأنوار ص ٥٥، وابن أبي شيبة في مصنفه (١٠/ ٥٠٨).
(٦) فضائل القرآن لأبي عبيد ص ٦٢.
(٧) ابن أبي شيبة (١٣/ ٥٨٠) كتاب الزهد (٢٣٩٩).
1 / 9
فهو يعلم أن أثر التلاوة لا يعدله شيء من إيمان وأمان وسكينة كما قال عبد الله بن مسعود: إن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن (١).
هل أدرك المسلمون قيمة القرآن؟!
فإن كان القرآن كذلك فهل أدرك المسلمون قيمته، وهل أحسنوا الانتفاع به؟!
هل تعاملوا معه على حقيقته كمصدر متفرد لزيادة الإيمان ومن ثمَّ التغيير؟!
للأسف لم يحدث هذا، بل حدث العكس، فلقد انصب اهتمام الغالبية منهم - إلا من رحم ربي - على الناحية الشكلية للقرآن، ولم يواكب ذلك اهتمام بتدبره والتأثر به، والاغتراف من منابع الإيمان التي تتفجر من كل آية من آياته، لتستمر الأمة في ضعفها وعجزها عن النهوض من كبوتها، وكيف لا وقد هُجر أهم وأعظم مصدر للإمداد الإيماني.
ومما يزيد الأمر صعوبة أن الكثيرين لا يعترفون بذلك، بل يعتبرون أن الاهتمام بالقرآن يعني الإكثار من قراءته بفهم أو بدون فهم، ويعني كذلك تخريج أكبر قدر من حُفَّاظ ألفاظه في أقل وقت ممكن .. فازداد القرآن يُتما، وأصبح حاضرًا وغائبًا .. موجودًا ومهجورًا.
صار حاضرًا بلفظه على ألسنة الُقَّراء والحفاظ، لكنه غائب بروحه وأنواره عن القلوب، وأثره الإيجابي في السلوك.
صار موجودا بشكله من خلال المطابع والإذاعات والمدارس والكليات والمسابقات، لكنه مهجور في حقيقته وتأثيره على القلوب، وتغييره للأخلاق والسلوك.
فإن قلت هلموا إلى القرآن ننتفع به، قيل لك: وماذا علينا أن نفعل مع القرآن أكثر مما نفعل، فأغلب بيوت المسلمين - إن لم تكن كلها - تحتوي على نسخة أو عدة نسخ من المصحف، والكثير من الأسر تجد فيها من يحفظ قدرًا من القرآن، والإذاعات التي تبث آياته ليل نهار في ازدياد مستمر!!.
من هنا تكمن صعوبة الأمر، فمع تَيسُّر القرآن للجميع إلا أن الشعور بالاحتياج إليه كمصدر لا غنى عنه لتوليد الإيمان وبث الروح إلى القلب يكاد يكون غير موجود.
إن حالنا ينطبق مع حال من يحتاج احتياجًا ماسًا إلى الماء ليروى ظمأه، فيبحث عنه لاهثًا في كل مكان على الرغم من كونه موجودًا بين أمتعته وفي متناول يده، لكنه لا يصدق ذلك.
وانطبق حالنا مع قول الشاعر:
ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الدليل وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
الرسول ﷺ يشكونا:
ومما يلفت الانتباه أن رسولنا ﷺ قد اشتكانا لله ﷿ بخصوص هذا الوضع الشاذ الذي نفعله مع القرآن: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠].
ولو تأملنا هذه الشكوى لوجدنا أمرًا عجيبًا: فلو كانت الآية لم تتضمن كلمة «اتخذوا» أي كانت بمعنى: يا رب إن قومي هجروا القرآن لكان المراد بها أناسًا أبعدوا القرآن تمامًا عن حياتهم، فلا تجد فيها أي مساحة لقراءته أوسماعه أو إذاعته.
لكن وجود كلمة «اتخذوا» مع كلمة «مهجورا» أعطت لمفهوم الهجر بُعدًا آخر، ودلت على أن الشكوى تخص أناسًا تعاملوا مع القرآن، وبذلوا فيه مجهودا؛ فكلمة اتخذوا تدل على ذلك، إلا أنهم في نفس الوقت - رغم هذا المجهود - قد هجروا القرآن، وذلك حين اهتموا بشكله ولفظه، وهجروا أهم جانب فيه ألا وهو تأثيره المتفرد على القلوب ليحول ما فيها من ظلمات الهوى إلى نور الإيمان ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥، ١٦].
_________
(١) رواه الدارمي (٣٣٢٣).
1 / 10
فحين اكتفينا بالتعامل مع القرآن بالألسنة والحناجر، ولم نجتهد في الوصول بالقرآن إلى العقول والقلوب فإننا بذلك قد حرمنا أنفسنا من أهم جانب فيه، ومن سر إعجازه الأعظم .. فكانت المحصلة أننا اتخذنا القرآن مهجورا؛ لينتج عن ذلك الهجر هبوطنا لهذا الدرك، ليصدق فينا قول رسول الله ﷺ: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين» (١).
فما الحل في هذه الإشكالية؟!
مشكلتنا إيمانية، وحلها غاية في السهولة وهو حُسن الإقبال على القرآن .. والقرآن بين أيدينا، جاهز لتغييرنا، وإمدادنا بإيمان متدفق ليس له حدود، ومن ثم القضاء على الوهن والضعف الذي أصابنا وجعلنا معرة الأمم.
ومع ذلك الحل المُيسَّر لجميع أفراد الأمة إلا أن الكثير من أبنائها غير مصدق لهذه الحقيقة، ويرى أن هذا الكلام فيه مبالغة، وأن غاية الجهد والخدمة للقرآن هو الإكثار من الكتاتيب والمدارس والكليات لتخريج أكبر قدر من حُفَّاظ حروفه في أقل وقت ممكن، وحث الناس على كثرة قراءته والاجتهاد في ختمه مرات ومرات - وبخاصة في شهر رمضان - لنيل أكبر قدر من الحسنات فقط.
فإن ذكرتهم بأهمية التدبر والتأثر بالقرآن قال بعضهم: نريد أكبر قدر من الحسنات .. نريد دخول الجنة؛ والتدبر يعطلنا عن كثرة القراءة.
وقال البعض الآخر: فلتكن هناك ختمة للقراءة السريعة التي تهتم بتحصيل أكبر قدر من الحسنات دون فهم أو تأثر، وختمة للفهم والتأثر، ولا بأس - على حد قولهم - من أن نمكث مع ختمة التدبر سنوات وسنوات.
كل هذا وغيره يتردد بين الكثير من المسلمين، مما جعل أمر العودة الحقيقية إلى القرآن، والانتفاع به لحل مشكلتنا الإيمانية من الصعوبة بمكان.
ولكن حيث أنه لا بديل للأمة عن هذا الحل، فلا بد أن يستمر ويستمر التذكير بقيمة القرآن، وبالهدف الأسمى لنزوله، والذي لو اتضح أمامنا بصورة جلية، وأصبح إيمانًا مستقرًا في قلوبنا، فإنه - بلا شك - سيولد داخلنا الدافع القوي للإقبال على القرآن بصورة صحيحة لنلتمس منه الهدى والنور، أو بمعنى آخر، سيتحول اهتمامنا نحو تحقيق الهدف الذي من أجله نزل القرآن، وسنطوع الوسائل المختلفة - من قراءة وسماع وحفظ - لتحقيق هذا الهدف، فالإيمان بالقرآن والثقة الكبيرة فيه كمصدر متفرد للهداية والإيمان والتغيير هو نقطة البداية الصحيحة نحو العودة الحقيقية إليه، والانتفاع به.
فكما يقول الإمام البخاري: لا يجد طعمه إلا من آمن به (٢).
ويقول مالك بن دينار: أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه (٣).
فالذي يؤمن بالقرآن لا يسعه إ أن يتعامل معه تعاملا صحيحًا ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة: ١٢١].
فإن قلت: ولكننا نؤمن بالقرآن ومع ذلك لا نجد طعمه ولا تأثيره.
ليس المقصد من الإيمان بالقرآن هو مجرد الإيمان بأنه «كلام الله، المنزل على محمد ﷺ، المتعبد بتلاوته» (٤). بل المقصد بالإضافة لهذا الإيمان: الإيمان بقيمته وعظيم شأنه، وأنه نزل من السماء ليهدي الناس إلى الله، ويأخذ بأيديهم إليه ..
_________
(١) رواه مسلم (١٨٩٤).
(٢) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص ٢٠٥.
(٣) الدر المنثور للسيوطي ٦/ ٢٩٨.
(٤) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص ٢١.
1 / 11
بهذا الإيمان تعامل الصحابة مع القرآن، يقول عبد الله بن عمر ﵁: لقد عشنا برهة من الدهر وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد ﷺ، فيُتَعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ من بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، وينثره نثر الدقل (١) - وفي رواية: (وكل حرف منه ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي وتتعظ بمواعظي) (٢).
ويؤكد على هذا المعنى الصحابي جُندب بن عبد الله ﵁ بقوله:
كنا مع النبي ﷺ ونحن غلمان حَزاورة (٣) فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا (٤).
فإن قلت بأن هؤلاء قد أدركوا قيمة القرآن لأنهم سمعوا شيئًا لم يكونوا يألفونه .. سمعوه غضًا طريًا، فأنصتوا إليه مشدوهين، فامتلك عليهم مشاعرهم، وأحدث فيهم أثره البالغ.
نعم، هذا كلام صحيح كسبب من الأسباب التي أوصلتنا لهذا الوضع الغريب، فلقد ورثنا القرآن فيما ورثناه عن آبائنا، وورثنا نفس طريقة التعامل معه، كما ألفنا سماع نغمته منذ نعومة أظافرنا، فتعودنا عليه، فلم يعد يؤثر فينا كما أثر في الأجيال الأولى .. هذا بالإضافة إلى أسباب أخرى سيأتي بيانها - أدت مجتمعة إلى انزواء القرآن في ركن بعيد من عقولنا، وبيوتنا، وحياتنا.
وكأني بالقرآن ينادي علىَّ وعليك ويقول:
«هل أستحق منك هذه المعاملة مع أن هدفي إسعادك، وإدخال السرور والبهجة على قلبك ومساعدتك على مواجهة الحياة بحلوها ومرها؟!
أأكون في بيتك وتهجرني كل هذا الهجر؟!
أحين أكون بين يديك لا يصير نصيبي منك إلا حنجرتك؟!
أتسمع آياتي تتلى ولا تنصت لها؟!
أتدري ماذا سأقول لربك يوم القيامة؟!
هيا بادر قبل فوات الأوان، واجعلني حجة لك لا عليك».
الإيمان بالقرآن هو البداية:
من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة في طريق الانتفاع بالقرآن هي زيادة الإيمان والثقة فيه كمصدر متفرد للهداية والشفاء والتغيير، ويمكن بعون الله أن يتم هذا من خلال التعرف على السبب الأسمى لنزول القرآن، وبالأثر الذي يُحدثه في القلوب، والتعرف على نماذج واقعية أحدث فيها القرآن أثره، وبث فيها روحه، والتعرف كذلك على الأسباب التي أدت بنا إلى ضعف الإيمان بالقرآن، فصرنا كما قال ابن عمر ﵁: «ولقد رأيت رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، وينثره نثر الدقل».
وبعد التعرف على الأسباب المختلفة التي أوصلتنا لهذه الحالة، علينا أن نتعرف على الوسائل المعينة على الانتفاع بالقرآن، لنبدأ بها مهمة تحقيق الوصال بين القلب والقرآن.
وفي الصفحات القادمة تبدأ بعون الله وفضله رحلة تعميق الإيمان بالقرآن، والتي تنطلق من التعرف على السبب الرئيس لنزول القرآن، والذي إن اتضح في الأذهان، واستقر مدلولة في القلوب، فسيكون له أعظم الأثر في تغيير نظرتنا للقرآن، وطريقة تعاملنا معه، ومن ثم الانتفاع الحقيقي به.
* * *
_________
(١) الدقل: ردئ التمر.
(٢) رواه الحاكم في المستدرك ١/ ٩١، وقال صحيح على شرط الشيخين.
(٣) حزاورة جمع حزير أي ممتلئ القوة.
(٤) رواه ابن ماجه والبيهقي، وانظر فضائل القرآن للمستغفري ١/ ٢٧٥.
1 / 12
الفصل الثاني
حبل الودّ
1 / 13
حبل الود
خلق الله ﷿ مخلوقات كثيرة، لكنه - سبحانه - قد اختص منها مخلوقًا واحدًا خلقه لنفسه، ونفخ فيه من روحه، وكرمه، وأحسن خلقه، وأسجد لأبيه الملائكة، وأعد له الجنة لتكون دارًا للنعيم الأبدي، وذلك بعد أن يجتاز اختبارًا يسيرًا على الأرض، جوهره هو عبادته - سبحانه - بالغيب.
جاء في الأثر: يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لنفسي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له (١).
ومما لا شك فيه أن الله ﷿ يريد لعباده جميعًا الخير، فما من مولود يولد إلا ويريد الله له الفلاح والنجاح في امتحان الدنيا، ومن ثمَّ دخول الجنة والتنعم فيها ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٢١].
أما من يدخل النار فهو الذي يأبى ويُصر على عدم دخول الجنة، وإلا فماذا تقول عن موقف هؤلاء المشركين من دعوة الإسلام؟! ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
ومع هذا الإصرار في طلب العقوبة إلا أن الله ﷿ لم يستجب لطلبهم، ولم يَعْجل بعجلتهم، لأنه سبحانه يريد لهم الخير، لذلك فهو يحلم عليهم، ويصبر على كفرهم وظلمهم لأنفسهم، ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة لعلهم ينتبهون قبل فوات الأوان ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ [طه: ١٢٩].
عن أبي هريرة ﵁: أن النبي ﷺ قال: «لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» (٢).
ويكفي في تأكيد هذا المعنى ما حدث لأصحاب القرية المذكورة في سورة «يس» الذين شردوا عن الله فأرسل سبحانه لهم رسولين يذكرانهم بحقيقة وجودهم في الدنيا، وضرورة العودة إلى الله قبل فوات الأوان.
فكيف كان استقبال أصحاب القرية لهما؟!
كذبوا الرسولين واستهزؤوا بهما، وسخروا منهما.
فماذا فعل الله ﷿ بهم بعد هذا التكذيب؟!
أرسل إليهم رسولًا ثالثًا .. ففعلوا معه مثل ما فعلوا بأخويه ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ - إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ - قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ
تَكْذِبُونَ﴾ [يس: ١٣ - ١٥].
فجاءهم رجل من بينهم يعرفونه ويعرفهم .. جاءهم من أقصى المدينة ليؤكد لهم صدق الرسل الثلاثة، فقتلوه ليستدعوا بذلك غضب الله وعقوبته، بعد حلمه وصبره العظيم عليهم، وجاء الأمر بعقابهم لأنهم مجرمون لا يريدون الإيمان، ويصرون على ذلك إصرارًا شديدًا رغم كل الآيات البينات التي أرسلها الله لهم، فكانت العقوبة ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ [يس: ٢٩].
وبعد بيان القرآن الوافي لحال هؤلاء المكذبين وكيف أنهم هم الذين استدعوا العقوبة بإجرامهم إلا أننا نفاجأ بالتعقيب الإلهي على نهاية هؤلاء بقوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [يس: ٣٠].
_________
(١) أورده الحافظ ابن رجب في شرح حديث «إن أغبط أوليائي عندي» - انظر مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي ص ٢/ ٧٤٩.
(٢) رواه مسلم (٦٩٠٣)، وقال النووي والغلبة هنا: كثرة الرحمة، وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ١٧/ ٧١.
1 / 14
فالله ﷿ يتأسف عليهم، وعلى المصير الذي آلوا إليه، مع أنهم هم الذين فعلوا ذلك بأنفسهم، وأصروا واستكبروا استكبارًا، إلا أن هذا لم يمنع من أن يتأسف الله -سبحانه - عليهم .. ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾.
نعم - أخي - هذا هو ربك الرحيم الودود الذي لا يرضى لعبد من عباده الضلال والكفر ﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧].
لكنه - سبحانه - كتب على نفسه أن يترك للبشر حرية الاختيار، وأن يعبدوه بإرادتهم، فلا يجبرهم على فعل طاعة، أو ترك معصية، وإلا صاروا مثل بقية المخلوقات، وفي نفس الوقت فإنه سبحانه يريد لهم جميعًا الخير ودخول الجنة لذلك فهو لا يُعَجِّل بعقوبتهم إذا ما عصوه، بل يحلم ويحلم لعلهم يرجعون إليه في يوم من الأيام ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ [فاطر: ٤٥].
ألا يكفيك في تأكيد هذا المعنى أن الله ﷿ يرى الناس تكفر به، وتجعل له ندًا، وولدًا وهو مع ذلك يرزقهم ويعطيهم؟!
قال عبد الله بن قيس: قال رسول الله ﷺ: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندًا، ويجعلون له ولدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم» (١).
وعن شهر بن حوشب ﵁: حملة العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك (٢).
الرحمة الواسعة:
في يوم من الأيام شاهد رسول الله ﷺ والصحابة الكرام امرأة تسعى ملهوفة تبحث عن ابنها الذي ضل عنها، فلما وجدته أَخَذته فألزقته بطنها، ثم أرضعته، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه بعد رؤيتهم لهذا المشهد المؤثر: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قالوا: لا والله. فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» (٣).
نعم، الله ﷿ أرحم بعباده من هذه بولدها، ومن كل والد بولده.
أرأيت كيف يتعامل الأب مع أبنائه، وكيف يحبهم ويتعب من أجل راحتهم .. أرأيت كيف يفرح بنجاحهم، ويحزن على إخفاقهم، ولا ينقطع رباط الود والشفقة بينه وبينهم مهما طال الزمن، حتى وإن شرد بعضهم، وانحرف عن جادة الطريق، فإنه لا يتخلى عنه، بل يعمل جاهدًا على إعادته لصوابه مستخدمًا أساليب الترغيب والترهيب. فإن أبي إلا السير في طريق الظلام، فإن الأب - وإن بدا غاضبًا عليه - إلا أن حبل الود لا ينقطع أبدًا، فهو يدعو له، ويتمنى لحظة توبته، وينتظر منه أي بادرة خير يُقبل بها عليه حتى يُبادره بأضعافها.
فإن كان هذا هو حب الأب لأبنائه، فإن حب الله ﷿ لعباده أشد وأشد، ومما يؤكد هذه الحقيقة: فرحه سبحانه بتوبة العاصين والشاردين، بل والكافرين.
تأمل معي قوله ﷺ: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فَأَيِس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أَيِس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» (٤).
وقال ﷺ: «لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد» (٥).
_________
(١) رواه مسلم (٧٠١٣).
(٢) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٤/ ٦٤.
(٣) رواه البخاري (٥٩٩٩)، ومسلم (٦٩١٢).
(٤) رواه مسلم (٦٨٩٥).
(٥) رواه ابن عساكر في أماليه عن أبي هريرة.
1 / 15
وكيف لا وهو سبحانه (يحب من عباده أن يطيعوه، ويكره أن يعصوه، ويفرح بتوبة عبده مع غناه المطلق عن طاعته، وأن نفعها إنما يعود إليه، لكن هذا من كمال رأفته بهم وحبه لنفعهم) (١).
نعم يا أخي، فالله ﷿ يريد الخير لجميع البشر حتى اليهود والنصارى .. حتى المنافقين وقطاع الطرق .. حتى الذين يعذبون الناس .. يريد لهم جميعًا أن يستغفروه فيغفر لهم، ويتوبوا إليه فيقبلهم .. ألم يقل سبحانه لعباده العاصين المسرفين على أنفسهم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
ألم يقل سبحانه للنصارى بعد أن ادَّعوا أن له صاحبة وولدًا: ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: ٧٤].
ألم يقل سبحانه عن قطاع الطرق: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٤].
ألم يخاطب الناس جميعًا ويقول لهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُم﴾ [النساء: ١٧٠].
فماذا تقول بعد ذلك لرب ودود يريد لعباده جميعًا الخير والسعادة في الدنيا والآخرة «يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو إنك أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة» (٢).
جحود الإنسان:
هذه المعاملة الودودة من الله ﷿ للإنسان لم يقابلها نفس المعاملة من الإنسان لربه سبحانه، بل ولا عُشر معشارها، والعجيب أننا لو نظرنا لجوانب رعاية الله، ودوام إمداده، وتربيته، ولطفه، ووده لأي إنسان، واستمرار ذلك، وعدم توقفه ولو للحظة واحدة لشعرنا وكأن هذا الإنسان هو العبد الوحيد لله!! .. وإذا ما نظرنا إلى رد فعل هذا الإنسان تجاه تلك المعاملة، ومدى تفاعل مشاعره وسلوكه معها لظننا أن لهذا الإنسان ربًا آخر غير الله لما نرى من جحوده وإعراضه عنه سبحانه، ويُجَسِّد هذا الحال الشاذ ما جاء في الأثر عن رب العزة: «إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلىَّ صاعد. أتحبب إليهم بنعمى وأنا الغنى عنهم، ويتبغضون إلىَّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إلىَّ ...
من أقبل إلىَّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد. ومن أراد رضاي أردت ما يريد. ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.
أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقنَّطهم من رحمتي، فإن تابوا فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من المعايب.
من آثرني على سواي آثرته على سواه.
الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له.
أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل.
رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي .. أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها (٣).
_________
(١) فيض القدير للمناوي ٥/ ٣٢١.
(٢) حسن، رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح (٤٣٣٨) ..
(٣) مدارج السالكين لابن القيم ١/ ٢١٥، ٢١٦.
1 / 16
غواية الشيطان:
ومما ساعد الإنسان على جحوده لربه وبعده عنه: عدو الله إبليس.
فإبليس كان يعبد الله مع الملائكة، وعندما خلق الله آدم واختصه لنفسه ونفخ فيه من روحه طلب سبحانه من الملائكة السجود له، فرفض إبليس السجود متعللا بأنه كيف يسجد لمن هو أقل منه؟! ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢] وبدلا من أن يعترف إبليس بخطئه، نجده يصر على ادعائه، فكان ذلك سببًا في طرده من رحمة الله، والحكم عليه بالحبس في النار: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣].
ولأن إبليس يرى أن سبب هذه العقوبة هو آدم، ويرى كذلك أنه مُحق في رفضه السجود، لذلك فقد طلب من الله ﷿ مهلة قبل تنفيذ العقوبة، لا ليرتاح، بل لينتقم لنفسه من آدم وبنيه جميعًا، ويثُبت أنه أفضل منهم. ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [ص: ٧٩ - ٨١].
وبعد أن أعطاه الله المهلة التي طلبها، أقسم بعزة الله سبحانه أن يجتهد في غواية الناس أجمعين وسوقهم معه إلى النار فيحقق مراده، ويُرضى نفسه، ويُنفس عن حقده وحسده، ويُظهر للجميع أن هذا المخلوق الذي اختصه الله لنفسه وكرمه، وأسجد له الملائكة لا يستحق هذا كله بدليل أنه وقع فريسة سهلة في حبائله، وانخدع بغوايته: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٢].
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لآَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٦ - ١٧]
معنى ذلك أن كل من يعصى إبليس ويخالفه من أبناء آدم، ويعبد الله بالغيب، وينجح في امتحان العبودية فيدخل الجنة؛ يعد بمثابة مصيبة، وكارثة على إبليس، لأن ذلك معناه إثبات عكس ما يدعيه، ومن ثمَّ يتأكد خطؤه برفضه السجود لآدم، ويتأكد كذلك استحقاق آدم لكل مظاهر التكريم والعناية التي نالها.
طبيعة المعركة:
من هنا ندرك طبيعة المعركة بين إبليس وبين البشر، وندرك أيضًا بأن مستهدف إبليس هو إضلال الجميع بلا استثناء.
فكل رجل أو امرأة في أي زمان أو مكان يُشكل هدفًا خاصًا له، فهو لا يكتفي بمن أضلهم، بل يريد ألا يفلت منه أحد من البشر.
ومما يؤكد هذا المعنى ما يحدث له يوم عرفة عندما يجد الرحمات والمغفرة تتنزل على العباد، فيتحسر على مجهوده الضائع في إغواء هؤلاء .. يقول ﷺ: «ما رُئى الشيطان يومًا هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة» (١).
إن هدف إبليس واضح ومحدد ألا وهو غواية البشر جميعًا وسوقهم معه إلى النار ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: ٦].
فإن كان هذا هو هدف إبليس فماذا تظن أن يفعل بالناس؟!
بلا شك أنه سيستخدم معهم كل الوسائل والأساليب التي من شأنها أن تشغلهم عن أداء المهمة التي خلقوا من أجلها فيكون مصيرهم النار كما يريد.
_________
(١) رواه الحاكم.
1 / 17
وبالفعل نجح إبليس نجاحا كبيرا في تحقيق هدفه، فقد سار وراءه أغلب البشر .. ساروا وراءه بإرادتهم، ولو استخدم أحدهم عقله؛ لتبين له كذب الأماني التي يمنيه الشيطان بها ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ - وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ - وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًاّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: ٦٠ - ٦٢].
أبواب الشيطان
ومن أعظم الأبواب التي يلج منها الشيطان على الإنسان باب الشبهات، وباب الشهوات.
فمن باب الشبهات يُشككه في وجود إله لهذا الكون، أو يشككه في أن إله الكون هو (الله)، أو يشككه في وجود حياة وبعث وحساب بعد الموت ... كل ذلك لكي يبعده عن التوحيد ولزوم الصراط.
أما باب الشهوات؛ فهو يدخل من خلال النفس وهواها وحبها لنيل الشهوات واستيفاء الحظوظ، فيزين لها المحرمات، والفجور، والعصيان، ويستغل جهلها، وحبها لهذه الأمور ليحقق مراده بترك صاحبها لفعل المأمورات، وارتكابه المحظورات، ومن ثمَّ يبتعد عن الصراط ...
الرحيم الودود
ومع أن الشيطان لم يجبر أحدًا على السير وراءه ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢]، إلا أن الله ﷿ لم يترك عباده فريسة لوساوسه وإغراءاته، وكيف يتركهم وهو الإله الودود الذي يحب عباده ويريد لهم دخول جنته ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا﴾ [البقرة: ٢٦٨].
فكانت رسالاته المتتالية لهم والتي تذكرهم بحقيقة وجودهم في الدنيا، وأنها دار امتحان، وأن هناك ربًّا واحدًا لهذا الكون .. هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم ويحفظهم ويمدهم بكل مقومات الحياة، وأن هذا الرب هو وحده المستحق للعبادة، وهو الذي إليه سيرجعون بعد الموت ليسألهم عن المهمة التي طالبهم بأدائها، ألا وهي عبادته - سبحانه - بالغيب، فمن نجح في القيام بها فإن له جائزة عظيمة، ونعيمًا أبديًا في دار تسمى «الجنة»، ومن فشل فيها فسيعاقب بالحبس في سجن اسمه «النار».
وترسم هذه الرسالات للناس الطريق الموصل لرضا الله ﷿، وكيفية النجاح في اختبار الدنيا، وتستفيض في الحديث عن ربهم، وتطمئنهم من ناحيته، وأنه رب رحيم ودود لا يريد لهم إلا الخير، وأكبر دليل عملي على ذلك هو حلمه عليهم، وعدم محاسبتهم الفورية على ذنوبهم أو أخذهم بها .. ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ [إبراهيم: ١٠].
وتقوم هذه الرسالات بتنبيه الناس وتحذيرهم من عدوهم الذي يريد لهم الشر ودخول النار، وتكشف لهم أساليبه في الغواية ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٢٧].
باختصار إنها رسالات تخاطب الناس جميعًا، وتقول لكل واحد منهم:
أقبل ولا تخف فربك ينتظرك.
وكانت آخر هذه الرسالات التي أرسلها الله لبني البشر هي «القرآن»، فقد جعلها - سبحانه - بمثابة الرسالة الخاتمة للبشرية جمعاء، وأرسلها مع خير رسله محمد بن عبد الله ﵊.
1 / 18
لماذا أنزل الله القرآن؟!
إذن فقد أنزل الله ﷿ القرآن ليكون وسيلة يهتدي الناس من خلالها إلى طريقه، وإلى جنته ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ [النساء: ١٧٤، ١٧٥].
فمن يقرأ القرآن يتأكد لديه بالأدلة العقلية أن للكون إلهًا واحدًا، وأن هذا الإله هو الله سبحانه، وأنه خلقنا وأسكننا الأرض ليختبرنا، وأن هناك حياة بعد الموت ثم حسابًا، فنعيمًا أو عذابًا.
ولا يكتفي القرآن بذلك بل يرسم للناس الطريق المستقيم الموصل للنجاح في هذا الاختبار، ونيل رضا الله، ويعرَّفهم بالعقبات التي قد تعترضهم، وبالمنحنيات التي قد تُبعدهم، وبعَدُوَّهم الذي يتربص بهم ..
كل هذا من خلال خطاب ودود يقطر رحمة وشفقة وحنانا .. خطاب يستحث الجميع إلى سرعة العودة إلى الله قبل فوات الأوان: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ﴾ [الشورى: ٤٧]. ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
إنه الحبل المتين الذي أنزله الله من السماء لينتشل به الناس من الضلال ..
إنه حبل الودّ الذي يظهر مدى حب الله لعباده، وأنه يريد لهم جميعًا الخير.
ألم يقل ﷺ: «أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفهُ بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبدًا» (١).
المعرفة وحدها لا تكفى:
فإن قلت إن معرفة طريق الهدى وحدها لا تكفي للسير فيه، فقيود الشهوات تقيد القلب، وتجذبه إلى الأرض، ووساوس الشيطان وإغراءاته تثبط الإنسان كلما همَّ بفعل الخير.
نعم، هذا صحيح فمعرفة طريق الهدى وحدها لا تكفي بل لابد من وسيلة تعين الناس على السير فيه .. لابد من دواء يشفي صدورهم، ويُخلِّص قلوبهم من سيطرة الهوى وحب الدنيا والتثاقل إلى الأرض، لابد من وجود مادة تفجر الطاقات وتولد القوة الدافعة داخل الإنسان للسير في طرق الهداية .. وهنا يظهر أعظم جانب لمعجزة القرآن ألا وهو قدرته الفذة على التغيير والتقويم لكل من يُقبل عليه، ويدخل في دائرة تأثير معجزته وذلك من خلال قوة تأثيره على المشاعر، فيمتزج بها مدلول القناعات العقلية التي تقدمها الآيات فتصبح إيمانا يستقر في القلب، ليتم ترجمة هذا الإيمان بعد ذلك في صورة عمل وسلوك.
فالقرآن ليس وسيلة للهداية فقط بل هو ﴿هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: ٤٤].
يدل الناس على الطريق إلى الله، ويأخذ بأيديهم إليه، ويكون لهم في ذلك الطريق نعم الصاحب الأمين ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥، ١٦].
أرأيت ماوصف الله به القرآن وأنه ليس بكتاب هداية فقط بل إنه أيضًا يقوم بإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله؟!
_________
(١) صحيح، رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (٣٤).
1 / 19