فقد عظم الله سبحانه من شأن الفقه في الدين، وجعل تعلمه على العالمين فرض عين فقال سبحانه : {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}[التوبة:122] فجعل سبحانه النفر للتفقه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقي، وجعل التعلم والتعليم فرض عين؛ لأن كل مسلم مطالب بأن يعرف أمور دينه، وما يجب عليه لخالقه ورازقه، وما يجب عليه للناس وعلى الناس له ، وقال : ((ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يفطنونهم، ليفقهن قوم جيرانهم وليفطنن قوم جيرانهم، وليتفقهن قوم من جيرانهم وليتفطنن قوم من جيرانهم أو لأعاجلنهم بالعقوبة في الدنيا)) وكم نرى في هذا الزمان أقواما لا يعرفون من أمور دينهم شيئا؛ نتيجة لانحراف الناس عن التفقه في الدين والسؤال عن أحكام الشرع، والله عز وجل يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}[النحل:43] وقد ألفت كتب كثيرة في الفقه ما بين مطول منها ومختصر، ولكن معظمها صعب العبارة كثير الإيجاز، أو معقدة المعنى لا يفهمها إلا العلماء أو طلاب العلم، والناس محتاجون إلى التسهيل والتبسيط، وهناك كتب في الفقه جيدة سهلة العبارة، ولكنها لا تحتوي على فكر آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين أمرنا الله تعالى باتباعهم والأخذ عنهم، بل من المؤسف حقا أن هذه الكتب لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى أقوال أهل البيت ، وإذا ذكرت خلافا في مسألة، فلا تذكر إلا أقوال العلماء من غير آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويطلقون على أقوالهم تلك لفظ الإجماع أو الاتفاق ، وكأن أهل البيت ليسوا من الأمة، أو ليس لهم شأن، ولا لأقوالهم اعتبار، وما هكذا كان يجوز لهؤلاء أن يعاملوا أهل بيت نبيهم، ولا يجازوا محمدا في أهل بيته وذريته، ولله القائل:
تمالى أهل ملتنا علينا
كأن خروجنا من خلف ردم
لكن الله عز وجل لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا؛ لئلا تبطل حجج الله وبيناته، ولا يمكن أن يهمل الخلق من حجة واضحة {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة}[الأنفال:42] فقد وجد فقه آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند صدر الإسلام فقد جمع مسند الإمام زيد بن علي (عليهما السلام) أوائل القرن الثاني الهجري، فكان أول كتاب في الحديث والفقه وجد على ظهر الأرض، وقد عرفت أسانيده بالسلسلة الذهبية؛ لأنه مروي عن الإمام زيد الذي أجمع على إمامته الأمة عن زين العابدين الذي أجمع المسلمون قاطبة أنه سيد العابدين والذاكرين ، وعن الحسين السبط الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيد شباب أهل الجنة ، وعن الإمام علي بن أبي طالب وصي رسول الله وأخوه وباب مدينة علمه، ومن تنزل منه منزله هارون من موسى، وهذه سلسلة لا تساما ، وقد قال بعض علماء أهل البيت: بأن مسند الإمام زيد أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، وهو حق، وبعد المسند بسنين وجد أمالي الإمام أحمد بن عيسى بن زيد حفيد الإمام الأعظم زيد بن علي، وهذا كتاب يحتوي على أقوال أهل البيت في الصدر الأول، كالإمام زيد والإمام القاسم الرسي والباقر والصادق، وعبد الله بن الحسن الملقب بالكامل، وأحمد بن عيسى بن زيد الملقب بفقيه آل محمد، وقد جمع هذا الكتاب حافظ العترة محمد بن منصور المرادي رضي الله عنه.
صفحه ۵