تفسير سورة الفاتحة لجاعد الخروصي

ابو نبهان خروصی d. 1237 AH

تفسير سورة الفاتحة لجاعد الخروصي

تفسير سورة الفاتحة

ژانرها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده بواسطة الأمين جبريل ، مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل ، ليكون للعالمين نذيرا ، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، فهدى إلى التي هي أقوم من الأمور ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا .

وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة واستهلكوا في الكفر من العمر آخره ، أبوا من الانقياد ، سيدعون ثبورا غدا في المعاد ، وسيصلون سعيرا ، أنزله بعمله للإفادة كما أراده . فأخرجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، فقرع به أسماع مسامع السرائر ، من أولي الألباب أولي النهى والبصائر ، تشويقا أو تخويفا أو تحذيرا ، وأودع في طي خزائن غوامض دقائق عويصات أنوار أزهاره ، ودائع مكنون لآلئ يحار حقائق مصونات أسرار أثماره ، فهدى بالكشف إلى ذلك من بنوره ينظر فكان بصيرا ، وحلى كمال صياغة بلاغه مطالع كلامه بحلى جمال براعة مقاطع ختامه ، فكفى به خبيرا ، وجلا بطلوع لوامع جوازم قواطع صوارم جوامع أحكامه سدف ليالي جو الجهالات تنويرا . وأبان عن معالم صراط الهدى وأماكن مغانم التقى ، ومكامن مظالم الهوى بظهور سطوع أدلة أنوار مناره ، ومجامع أسراره معاني أذكار أخباره ، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .

صفحه ۴

وحرس أبواب مغاني سماء مباني آياته ، عن استراق شيء بالنقص أو المزيد في ذاته ، وكان المعيار الصحيح ، والمعيار النجيح محكم الآيات ، مجردا في النظام عن الخلل في الكلام ، لا يقبل الزلل في الأحكام أو في شيء من الأحوال ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، على أنه في تأليف كلامه وعجيب نظامه لقرآنه تراكيب ألفاظه العجيبة ، وعدم تناهي معانيه الغريبة - مع شدة إجازه - قد اقتضى كون اعجازه من رام عزما أن يعارضه نطما ، فتحدى لذلك جميع العالمين أن يأتو بمثله ، أو سورة في صورة شكله ، وأنى لهم بذلك ولو كن بعضهم لبعض ظهيرا . والصلاة السلام على نبي الرحمة ، هادي الأمة ، محمد النبي الأمي ، الذي أراد الله بجود هالة هلاله وجوده ، في قبة سماء بهجة الدين ، من حيث أنه جعله للناس قمرا وسراجا منيرا ، وعلى آله المطهرين من القبائح من جميع العالمين تطهيرا .

(2)

أما بعد ، فقد انكشف بنور الحق البرهان ، وصار الأمر ظاهر العيان أنه لا سبيل إلى الوصول إلى الله ، والفوز في لقائه بالسعادة الأبدية ، والتنعم باللذاذات السرمدية ، إلا بوجود الرعاية ، والسير إليه في منار الهداية ، على أنوار العلم ، في عنان الحلم ، لأنه من لم يكن له نور من ربه ، فما له من نور يستدل به ، وذلك هو العلم النافع ، فالعلم هو الدليل على قصد السبيل ، إلى الملك الجليل . العلم كله القرآن وهو التنزيل ، وما بعده من العلم تفسير له وتأويل . فهو الهدى والنور ، والشفاء لما في الصدور ، من أمراض الغرور وأدواء الفجور .

صفحه ۵

طوبى لمن كان على عرفات ادكاره واقفا ، وبكعبة أسراره طائفا ، فإنه العروة الوثقى ، والسبب الأوفى ، الذي من تعلق به نجا ، ومن تركه ضل وغوى ، وهلك فتردى . نعم ، ولكن على غير معرفة بتأويله ، لا يصح أن يكون تابعا له لدليله ، حتى يكون في حقه كذلك ، كلا ، بل يخاف عليه على غير ذلك ، أن تعميه أسراره ، وتحرقه أنواره ، وتجرفه وتغرقه بحاره ، مهما يكن في عومه ذا مره ، واقتحم فخاض لجته على غره ، وإذا كان الأمر في ذا لا شك أنه هكذا ولم تكن هذه التفاسير التي على المخالفين لأهل الاستقامة في الدين لغير الحق في ذلك حاليه ، لكونها في ضلال التأويل ليست خاليه . حتى صار كأن صرف العناية إلى ذلك من أكثر العناية ، لا سيما إذا لم تجد لأهل العدل من أصحابنا تفسيرا يرجع بالحق إليه ، ويقتفي أثره فتعول عليه .

صفحه ۶

(3) وها نحن في هذا المنهاج ، لكثرة الطلب واللجاج ، من بعض أخواني في الله علي ، ومراجعته في ذلك إلي ، مع كوني ممن قعد به القصور ، في حضيض الضعف عن الارتقاء ، في ذروة هذا المرقى ، الشريف الباذخ ، العالي الشامخ ، المنيف . وها نحن في همة الشروع فيه ، لفتح مباديه ، على سبيل التوسط قصدا بين الإقلال المخل ، والإسهاب الممل ، فإن الاستيفاء لجميع معانيه ، حتى يؤتى على أقاصيه ، لا مطمع لنا فيه ، لكونه كان لوخم الإذكار وعوم الأفكار ، وغوص الأبصار في البحر ، الذي لا ساحل له ولا قعر . وكيف لا وهو الميدان الفسيح لمجال الاعتبار ، المستوفي على الصحيح لجميع الأعمار ، قبل البلوغ إلى آخره ، ثم لا يؤتى على عابره ، هذا وإني فيه وارد من علم اللسان ، ما لا بد منه للبيان ، ومن القرآن كل معمول به وشاذ ، ليكون للقارئ عن نسبة اللحن وكالخطأ كالملاذ ، وأسميه إن من الله علي بتمامه من فضله وإكرامه ، )) مقاليد التنزيل لإدراك حقائقه بالتأويل (( ، وأنا به سبحانه أتوسل ، وله ربي أسأل ، أن يفتح لي بابه ، وأن يهجم بي في القول والعمل على الإصابة ، وألجأ إليه ملجأ من توكل عليه ، أتضرع فأناديه ليغمرني بالإقالة من عثار الرأي وباديه ، وهو الموفق لغيره وبه التوفيق ، وهذا حين الابتداء رب يسر لإتمامه إنك سميع الدعاء ، فعال لما تشاء .

صفحه ۷

(4) سورة فاتحة الكتاب وتسمى أم القرآن ، والأساس ، وفاتحة كل شيء أوله ، وأمه وأصله ، وأساسه ومبدؤه ، وما أحقها بهذا لافتتاح الكتاب بها ، وانطوائها على سياق الثناء ، على الصفات والأسماء ، الدالة على كيفية التوحيد ، وكمية التفريد ، واحتوائها على نسيج مدارج الوصول إلى الله على معارج العلم والعمل الصالح ، وكون التلمح أمر بالإقامة ، على طريق الاستقامة ، التي ليس بشيء في الوجود إلا لأجلها موجود ، مع ما اشتملت عليه من القصص وإخبارا عن حال الفريقين من المالك ، والآخر الهالك ، وما في خلال ذلك التصريح ، من خصال التلويح ، بالوعد والوعيد ، لمن لحنها ولمن ضل عن طريق الاستقامة زل ، وعلى الجملة فهي كالجملة في مبانيها ، وما عداها فكالتفصيل لمعانيها ، فهي المبدأ وذلك منها ينشأ ، وتسمى : الكافية والواقية والشافية . لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وهي شفاء من كل داء ) وسورة الحمد والشكر والدعاء والصلاة ، لاشتمالها على ذلك .

صفحه ۸

(5) وتسمى السبع المثاني لأنها تثنى في كل صلاة ، بل في كل ركعة منها ، وتكفي الركعات السرية وحدها ، ولا يكفي غيرها عنها ، إذ كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج . ولها أسرار عظيمة حتى أنه يروى عن محمد الغزالي أنه ذكر أن فيها من الخواص ألفاظا ظاهرة وألفاظا باطنة ، وهي سبع آيات بالاتفاق ، مكية على الأصح ، وقيل : مكية ومدنية ، لأنها نزلت مرتين ، مرة بمكة يوم فرضت الصلاة ، ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ، لم يشذ عنها شيء من الحروف الأبجدية ، التي عليها مدار العربية إلا سبعة لا غيرها . واختلف الناس على أقوال في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هل هي آية منها أم لا ؟ والحق أنها آية منها ، وأن الصلاة لا تصح على العمل لتركها ، ومختلف في النسيان فيها ولا تنازع في أنها من كلام الله إجماعا . والباء فيها للاستعانة لكن القول في العبارة عنها في التسمية لها ، فسموها بإضافة وباء استعانة وباء إلصاق ، أي تلصق الأفعال بالأسماء ، وقيل فيها أنها للمصاحبة ، وهي حرف جر يخفض ما بعده ، ولا تصح عند أهل اللسان إلا بها ، ولذلك قالوا إنها مناطة بضمير : ابدأ وقيل اقرأ .

(6)

وقد أجمع الكل فيما نعلم على حذف الهمزة لاشتهارها في القراءة دوما للخفة ، وإنما طولت الباء فيما قيل ، عوضا منها لتكون كالدليل عليها ، وكأنه في ذلك وفي مد السين تعظيم لشأن المبدأ ، والاسم هو المسمى ، وقيل غيره ، إنه صفة له وتعريف لا غيره والمسمى هو المعنى الذي أريد به الاسم .

صفحه ۹

والقول الثالث لا هو ولا غيره ، والأول أصح ، لكن على شريطة إرادة الذات من الشيء المسمى لا اللفظ نفسه مجردا عن نفس المراد به ، فإن ذلك لا شك فيه فإنه غيره لترادفه وتجزئه وتغايره في الكيفيات ، وتعداده وتقطعه حروفا في الأصوات ، واختلافه في اللغات ، وتباينه في الهيئات ، وكأنه في نفس البداية بالبسملة تشويق للمريدين ، وترويح لقلوب الخائفين ، وتطميع لأنفس المشتاقين ، واستحثاث للسالكين ، وتنشيط للمقبلين ، واستدعاء للمرتدين ، واستعطاف للمذنبين ، وإشارة لطيفة من الله لأهل الألباب ، على أن الرحمة قريبة ممن تعرض لنفحاتها ، والاستنشاق لمبادئها رجاء أن يغمر أقاصها ، قائلا في مقاعد شكره ومعاهد ذكره .

(7)

صفحه ۱۰

( الحمد لله رب العالمين) فالحمد عبارة عن الثناء كالمدح ، لكن الفرق بينهما أن الحمد يكون على الأمور الإختيارية ، المجردة من شائبة الإجلال ، لنقص أو فساد على حال . والمدح إطلاق الثناء على الجهل بلا تخصيص ، فكأنه أعم ، والحمد أخص . وقيل هما مترادفان على مسمى ، وكلاهما لمعنى ، والتعريف للعهد . ويحتمل أن يكون لإستغراق الجنس لأن حمده مستغرق كل حمد لغيره ، إذ ما بكم من نعمة فمن الله ، ليس للمزيد فيه موضع ولا للنقص فيه مفرع . والجملة وإن كانت كأنها في معرض الخبر صورة ، فإنها لمن الواجبات في حقه على العبد ، المكلف بها عند نزول البلية بها أو شيء منها ، وكأنه نوع من الشكر إلا أنه من وظائف اللسان ، والشكر عام لأركان مقامات الإيمان ، ودرجات الإحسان . وفي الحديث الحمد رأس الشكر ولا خلاق من الحمد لمن لم يكن له من الآداب الشرعية والخلق الرحمانية خلاق . كلا ، وليس المجرد عن النقائص إلا الإله جل جلاله ، وكلما كان لغيره ممن حمده بل ليس ذلك يكون كذرة من صفات مجده ، ونعوت حمده ، وكأنه بالإضافة إلى حمده كاد ألا يستحق إن يسمى حمدا ، لنقصه وقصوره عن كمالات الحمد ، محتاجا للتكميل إلى أدمة التصقيل ، فلأمضاها من حيث المناسبة بين الحمدين جزما .

صفحه ۱۱

والله من حقت له العبادة وثبت له محض السيادة ، وهو الذي لفرط الاحتياج إليه ، تأله كل المألوهات إليه بحالها إيجادا من العدم ، وإمدادا بالنعم ، وحده لا شريك له ، وما كان هو الإله وما عداه مألوها لم يجز أذن يطلق على غيره نعم ، ولذلك كاد ألا يستأهل غيره أن يحمد ، فضلا أن يعبد ، وأنى لأميل إلى أن هذا هو الاسم الأعظم لذاته ، لأنه كالجامع لكل الصفات العليا ، وإليه تنضاف جميع الأسماء الحسنى ، حتى إنه يمكن بالفهم إخراج جميع التوحيد من مفهومات معانيه . وقد قيل في اشتقاقه أقوال ، أكثرها أولى أن يترك لانحطاطه عن رتبة الصحيح ، لعلل تشعر فيها بخلل ، وهو قول الخليل بن أحمد وجماعة : إنه اسم علم لا اشتقاق له . وعن ابن عباس - رحمه الله - أن الله ذو الألوهية وهو الذي تأله الخلق إليه . وتفخيم لامه الثاني سنة ، وحذف ألفه ومدها ، وفي فريد الواو في هائه أو إشباع الضمير بحيث إنها تصير واوا ، كل واحد منها لحن في الإحرام تفسد به الصلاة .

(8)

والرب في كلام العرب المالك والسيد والمصلح ، وقرئ بالنصب على المدح ، والكسر أصح ، والله رب الكل قاهر ما عداه ، ومالك لما سواه ، تفرد بالألوهية ، وتوحد بالربوبية ، وذلك من صفاته وأسماء ذاته ، فلا يجوز أن يطلق التعريف فيه ولا التجريد له لغيره عن التقييد ، ولكن ربك وربه ورب كذا في أمثال ذلك .

والعالمين جمع عالم ، بفتح اللام كخاتم ، فيه عن ابن عباس - رحمه الله - أنهم الجن والإنس لقول الله تعالى : (( ليكون للعالمين نذيرا )) (الفرقان : 1) .

والقول الثاني عن أبي عبيدة أنهم أربع أمم : الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين .

صفحه ۱۲

والقول الثالث جميع المخلوقات ، لقوله تعالى : (( وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما )) ( الشعراء : 23، 24 ) وهذا شائع أن كل جنس على الأصح عالم في نفسه على حدة ، وكون الجميع فيه بالواو والنون تغليبا لمن يعقل ، وعلى هذا فقد اختلف في حصرها فقيل ألف عالم : ستمائة قي البحر ، وأربعمائة في البر ، وقيل ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمار في الخراب إلا كقسطاط في صحراء . وقيل ثمانون ألف عالم ، أربعون ألفا في البحر ، وأربعون ألفا في البر .

والقول الرابع لا يحصى عدد العالمين إلا الله ، لقوله تعالى : (( وما يعلم جنود ربك إلا هو )) ( المدثر: 31) وكأنه على هذا من التأويل هو الأوجه فيه والكائنات كلها شاهدة له ، لأنه ربها إذ كل شيء منها ينادي بمقاله ، على لسان حاله في حدثه أن له محدثا أحدثه لوجود شدة الحاجة منها في إيجادها ، وتوالي إمدادها ، إلى واحد واجب لذاته ، الوجود الذي لا يقبل الحدث في القدم نعم ، وكان هذا الدليل القاطع ، على وجود الصانع المتولي أمرها إبداعا وتدبيرا ، واختراعا وتصويرا ، على مقتضى المشيئة تقديرا ، صار المقتضى لظهور الحياة والقدرة ، والعلم والإرادة ، والحكمة والقوة والعزة ، والقدم والبقاء ، والإحاطة بالأشياء ، وأنه ليس كمثله شيء ، لاستحالة مماثلة الصناعة للصانع لها عقلا إلى غيرها ، مما لا يحصى من المعاني في الصفات لله الخالق لكل شيء .

(9)

صفحه ۱۳

( الرحمن الرحيم ) من سمى ذاته فيهما أنهما بمعنى ، والفرق أسوغ ، وإنه لأقرب الأسماء إلى اسم الله ، لقوله تعالى : ((قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن )) (الإسراء : 110) وكذلك في البسملة يروى أولا بالرحمن غيره في الأشهر ، وقيل جائز والأول أكثر ، فكان فيه لزيادة الثناء ، مبالغة عن الرحيم في العبادة من متسع الرحمة وفسيح الكرامة ، كما روي عن ابن عباس - رحمه الله - أنه قال رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الآخرة . وقيل الرحمن بالبر والفاجر في الدنيا ، والرحيم بالمؤمنين في الآخرة ، وقال قوم الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين ، وهذا في المتعبدين ممكن من حيث الاقتصار في النظر على المعاني الظاهرة من النعم أن يكون فيضان الرحمة شاملا للكل نعماؤه ، وهو كذلك لكن في المجاوزة لها إلى ما وراءها من اللباب باعتبار الحقيقة في المرجع ، فالرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة خصوصية ، لكونها مناطة بالإيمان كائنة حيث ما كان ، لأن البلايا في حق المؤمن عطايا لمن شكرها ، والنعم في حق من لم يشكرها نقم ، بلى ، وكان فيهما أكبر إشارة إلى إيجاب فرع باب الرحمة ، باستدامة شكر النعمة ، في مقامات الخدمة ، والتعلق به في المهمات كلها ، فإنه رحمن ، والرجوع إليه بالتوبات ، والإقبال إليه بكلمة الهمة في سبيل الطاعات ، فإنه رحيم يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئات لا محالة ، وإياكم والإياس ، يعرف هذا بدليل المعنى ، البارز من مفهوم الفحوى ، وقد قيل إن أبا عمر كان يدغم الميمين ، ميم الرحيم في مالك يوم الدين ، أي يوم القضاء والحساب للجزاء ، وما قيل أنه يوم الطاعة ويوم القهر . فداخل فيه جار ومجرور ، بإضافة اسم الفاعل إليه تنزيلا منزلة المفعول به .

قرأ عاصم ويعقوب ومالك والكسائي : مالك بالألف بعد الميم . وقد قيل إنه قرأ كذلك بالرفع مضافا ومنونا . على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، وبالنصب على الحال أو المدح منونا .

صفحه ۱۴

وقرئ مالك من غير ألف بالجر والرفع والنصب ، وبتسكين لامه مخففا وبلفظ الفعل الماضي .

(10)

واختلف الناس في معناهما فقيل واحد ، وقيل مالك أجمع ، لأن كل مالك لشيء ملكه وليس كل ملك لشيء مالكه ، وقيل ملك أوسع لأن كل ملك مالك ملكا ، وكأنه أرجح لما فيه من المزيد على المالك واحتوائه عليه ، لأن الملك من له الأمر والنهي في الرعية النافذ فيهم حكمه كيف أراد ، لأنه لهم مالك لكونهم تحت ملكه فكان عاما والمالك خاص بجزء من معناه . ألا ترى أن اسم المالك يطلق على من كان له أدنى ملك لشيء من الأعيان المملوكة ، على إرادة ذلك في المعنى ، وإن كان لا يملك بعد ، ولذلك سمي القلب سلطان الجوارح ، لأنه كالملك القاهر لها ، وهي له كالرعية يتصرف فيها بقدرة الإلهية ، تصرف المالك كيف شاء وعلى ما شاء ، فهي منقادة لا تطيق عناده ، لأنها مجبولة على طاعته .

ولله الملك من قبل ومن بعد ، وهو المالك لما كان في الوجود من شيء أو يكون . لا يصادف حكمه ولا قدره وقضاء غير ملكه ، كلا بل تجري الأمور في الخلق من الله الملك الحق ، على عنان المقادير ، بأزمة التدابير على مقتضى الحكمة ، ووفق المشيئة ، في الدارين : الآخرة والأولى ، وإنما جرى التخصيص ليوم الدين يوم يكشف عن الغطاء حين النداء : ((لمن الملك اليوم لله الواحد القهار )) ( غافر: 16) مقالا بالصدق ، واعترافا بالحق لظهور العيان ، المستغنى عن البرهان ، على سلب الأعيان ورجوع العواري من الملك المجازي إلى الحق ، الملك الحقيقي .

صفحه ۱۵

ذلك الملك السرمدي والتنصيص لنفس اليوم اكتفاء به عن ذكر ما فيه ، لأنه كالمستلزم له في اشتماله في صرفه عليه ، ما جرت به العادة في عرف الذمة ، وذلك نوع تنبيه على الأعمال الصالحة واجتناب الطالحة ، لأن اختصاص التسمية له بالدين من سائر ما يسمى به ، دلالة على أنك كما تدين تدان . فانظر في ذلك يا ذا الغفلة لنفسك أيام المهلة .

وكان في هذه الجملة أبلغ تنبيه على حقارة الدنيا وأشد تحذيرا منها وتزهيدا فيها لكونها مطلوبة وفي الأخرى مساوية ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فالباقيات الأعمال والنيات والأقوال الصالحات لا غير ، فارعوها حق رعايتها إن كنتم موقنين . وانظروا فيها وإلى هذه الخمسة الأسماء العظيمة ، الصفات الجسيمة ، فإن تحت كل اسم وصفته بحرا من المعاني لا ساحل له . ومن كان كذلك حاله في أوصافه فكيف لا يكون لمحض الحمد أهلا ، كلا إنه لواجب الحمد وبذلك على هدايته . فاحمدوه حمد من يستوجب لإخلاصه في حمده الحمد والزلفة بحمده ، واعلم أن الحمد في اللسان لا جدوى له حتى يكون نتيجة قلب شاكر الأركان . رجل سرى من الملك إلى الملكوت الأعلى على جواد الاجتهاد حتى وصل فناخ على الرضا بفناء حضرة الربوبية ، فينزل منزل العبودية ، فغاب عن الأغيار بشهود الملك الجبار ، وطفق على قدر الالتفات لما حضر لمولاه العظيم وربه الكريم . قد أقبل بشرا شده إليه ، لما نظر بعين اليقين إليه ، يقول عن خالص باله بلسان حاله وصدق مقاله .

(11)

صفحه ۱۶

((إياك نعبد وإياك نستعين)) قرئ بفتح الهمزة والفتح أكثر ، وقلبها بعض القراء هاء والأول أشهر . وكان هذا لما تصفح ألواح صفحات عالم الشهادة على الوحدانية ، وتلمح معاني الصفات الإلهية ، تجلى من له من لوائح الغيب ، أنوار أسرار الحق على الحقيقة ، فعلم يقينا أنه المستحق لأن يحمد ويسبح ويوحد ويطاع فيعبد ، هو لا غيره ، فقال تحت الاستعانة والامتثال ، والتضرع في الخدمة والابتهال على التخصيص ، إياك نعبد لا غيرك ، ثم استدل بأنوار البرهان على معارج العرفان ، فرقى بها إلى مدارج أسرار العيان ، فأدهشه عن ملاحظة الأكوان ، حتى غاب عن الجنس في جناب القدس ، وفنى في أحواله عن مشاهدة أعماله ، وعمى عن الخلق بشهود الملك الحق ، وانطوى في شهوده عن دائرة وجوده ، فقال : (( وإياك نستعين )) على أداء شكرك والقيام بحقوقك وأمرك ، بل في المهمات كلها هربا من اللجأ إلى غيره وتبرؤا من الحول والقوة والطول ، والإقرار بالعجز عن نفسه وعلى غيره من أبناء جنسه . وللمولى بالقدرة لما أيقن أنه لا طاقة له على النهوض بأعبائها إلا به لا غيره ، ترك الالتفات إلى غيره وأقبل عليه بالكلية حين لم يبق فيه لغيره بقية ، لأن (( إياك نعبد )) : مقام الإخلاص في العبادة ، ((وإياك نستعين)) : مقام الصدق في الإرادة . فالأول لله والثاني بالله ، والضمير في الكاف المتصل ثابت فيها من المتكلم للمخاطب المكلم ، والله معكم أين ما كنتم ، والكسر له لحن تفسد به الصلاة ، وكأنه في نفس الخطاب دليل على تقديم العلم على العمل ، لقوله إياك صادر عن معرفة به مزايلة الاضطراب قربة فيه ، ثم قفى بقوله : نعبد لما نظر إليه بعين اليقين فعرفه بالإلهية ، ونفسه وأمثاله بالعبودية ، فكان وجود العلم يستدعى وجود العمل ، فالعلم إمام ، والعمل حيث إنه من هداياه وجزيل عطاياه ، بل ولكون هذه الخصلة سبب الوصلة ، ذلك لئلا يكون فيه شوب لغيره ، فإنه لا يقبل الشركة .

صفحه ۱۷

وكون التكرير له فيما قيل للتنبيه على أن العبادات لا يمكن القيام بها ، والثاني لمريدها . إلا بالمعونة من الله . فهي في الحقيقة منه إليه ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وقيل في الواو إنها للحال ، أي نعبدك مستعينين بك ، وكأنه يحتمل في الفعلين أن يكون إيرادهما بلفظ الجمع تفخيما لشأن المخلصين ، وسعي العابدين ، ومناجاة المضطرين ، وسؤال المبتلين . أو أنه أراد به نفسه وجماعة المؤمنين ، تبركا بهم ورجاء أن تعم الإجابة بذكرهم والتوسل بهم .

وقراءة النون منها بالكسر على لغة تميم ، والفتح أظهر وبتقديم العبادة على الاستعانة في النص عليها استدل أن طلب الحاجة المرادة مقدمة عن العبادة أدعى إلى الإجابة .

( 12 )

والعبادة أنواع ، وأي شيء أطيع الله به فهو منها ، وكأنها في الجملة تدور على أربعة أركان لقاعدتين ، هما : العلم ، والعمل ، لا يشذ شيء منها عنهما ، لكن العلم على ضربين : بالله وبأمر الله ، العمل على وجهين ، ظاهر وباطن .

وكل واحد منهما على قسمين : فعل وترك .

ثم كل واحد منهما أيضا على حالين : فرص ونفل .

صفحه ۱۸

والفرض على معنيين : أداء اللوازم واجتناب المحارم . وتلخيص معاني ذلك يستدعي مجلدات ثم لا يستقصى إذ لا ينحصر فيحصى . والاستعانة روم المعونة على تحصيل المراد من جلب أو دفع ، أو ما كان من المطالب أقران الاختيارية والاضطرارية . وتفصيل كل شيء منهما يذكر على حدة في التنوع لها ما لا يدخل تحت الحصر جزما ، ولكن الجامع لها أمران ، لا بد أن يكون المطلوب دنياويا أو أخراويا ، ميزان ذلك ما كان لله فأخراوي ، وما كان للنفس أو الشيطان فدنياوي . وقد نص الشرع على الكثير من ذلك في بيانه عن أهل العلم من المسلمين ، وهي في الحقيقة استمداد والمعونة إمداد ، وحصولها من وجهين في الجملة إما لواسطة أو غيرها ، ويكون من حسب ما جرى من سنة الله ، هذا في أشياء والأخر في أخرى . وفي الجنس الواحد منها كذلك ، مرة بتوسط ومرة بغير توسط ، (( ولن تجد لسنة الله تبديلا )) ( الأحزاب : 62 ) والوسائط ما لا تحصى ، ولكنها لا بد من أن تكون روحانية أو جسمانية ، وليس الفاعل لشيء على الحقيقة إلا الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيء قدير .

صفحه ۱۹

( 13 ) وكان فحوى الخطاب دليل على الأمر بها ، ولكن في سبيل ثوابه على تسهيل أبوابه ، وتيسير أسبابه ، رجاء العطاء مع الإلجاء في الدعاء والوسيلة إلى الشيء بشيء من الشيء . فمن عكس هوى فانتكس ، ولذلك يسأله هذا العارف المريد مع الإقامة على الاستقامة بحقه المزيد مخافة الانقطاع عن الوصول إلى مطلوبه ، فقال : (( اهدنا الصراط المستقيم )) ، طريق الوصلة إلى محبوبه لأن الصراط في اللغة هو الطريق ، قرء بالزاء ، والسين ، والصاد والصاد أشهر والقراءة به أكثر ، وقد كان حمزة يقرأ بإشمام الزاء ، فيما عنه يروى . وسمي سراطا لأنه كان يسرط السايلة ، والمراد به العبادة عن طريق الدين في الإسلام إلى الملك العلام ، على أبلغ وجه في التشبيه له بالطريق ، تصويرا يدركه العقل ، من حيث أنه للمسافرين إلى الله في المعنى كل الطريق للسيارة من جميع المارة ، والمستقيم المستوى ، صفة له بأنها المنهاج المجرد عن الميل ، لا يقبل الاعوجاج . والدين منتظم من ثلاثة ، علم وحال وعمل ، فالحال فرع العلم . والعلم والعمل ثمرة الحال ، والهداية إرشاد في غاية اللطف . ومخارج أسبابها على الجملة أربعة : الأصلين عقلي ومكتسب شرعي ، فالأول على قسمين أحدهما ضروري ، وذلك ما يتأدى إليه من المعلومات التي لا تقبل الشك جزما ، والثاني رأي نوع والتعب في الروع ، والكشف عن محض سر الحق من قول العقل المطلع بالأنوار القدسية ، على الأسرار الملكوتية ، والواردة على الحدس من حياة القدس على سبيل الإلهام في اليقظة كالملائكة أو في المنام ، وفيضان ذلك من ينابيع العقل إلى الجوارح الظاهرة ، بواسطة النفس القاهرة . وعلى العكس فيما يستمده من الجنس ، في معنى التأدي من الظاهر إلى الباطن ، وإليه يرجع الأمر كله في حكم المواقع النظرية ، في المواضع العقلية .

صفحه ۲۰

( 14 ) والثاني المكتسب الشرعي على قسمين ، وكلاهما يتأديان إلى الغريزة ، ومنها إلى نور البصيرة في الناس ، من مداخل الحواس . لكن أحدهما الروحي ، والمتلقيله من الموحي إليه ، والكتاب والسنة والإجماع والآثار عن أهل العلم من المسلمين الأبرار .والقياس المجرد عن الاحتباس فإنه نوع هدى ، وإن الإمامية من الشيع أنكرته أصلا ، وأبطلته جهلا ، فهو حق لأنه من نتائج ذلك ، فالأول رتبة الرسل من الأنبياء ، والوسطى درجة الصحابة الفهماء . والثالثة الأخرى مبلغ التابيعين من العلماء . والقياس يختص به أهل العلم الفطنة من الفقهاء . والثاني ما وراء هذا من المواد الحسية الاختيارية والاضطرارية ، التي بها يكتسب العقل بالآية ، ويستمدها لحياته مما سطرته يد القدرة الربانية ، بالأقلام النورانية ، من الحكم الإلهية ، على صفحات ألواح عالم الملك والمؤدى من به اهتدى ، فإنه به أدلة تغمس المستدل بها في دأماء الإيمان اليقين ، ويخرجه من دجى هيكل هيولى ذاته ويسقيه شربة من رحيق المعرفة التوحيدية تبرئة من العيب ، فتعافي من كل داء دفين في الباطن المقتضى لوجود الصحة في الظاهر ، وتبرد غليل القلب من حر العمى ، ونار الهوى ، فلا يظمأ بعدها أخرى أبدا . وتجلى صدى الشك وغشاوة النفاق وظلمة الشرك ، فيضيء القلب لمزيد نور العقل ، وبنور ستر المعرفة منه لربه ونفسه ودنياه وآخرته .

صفحه ۲۱

زيادة تزيده إشراقا ينسخ ظلمات مدلهم النفس الأمارة بالسوء ، ويصقل مرآته فتنجلي صورة الملكوت فيه ويفرح ويعرج مهما تعلق بأسبابه المتدلية إلى عالم الشهادة فيرى من درجات الكسبية ، إلى المنازل العقلية ، لكن ثم ينادى من شاطئ الوادي الأيمن من وراء حجاب ، فاخلع نعلي صفاتك ، وكن موسى الصفات فتجرد من مسيح الهوى ، والبس خلع الآداب الملكية والملابس الروحانية ، وتدرع برياش الحلم والتقى ، إنك بواد أسرار الحقيقة المقدس طوى ، واقصد في مشيك واغضض من صوتك ، واثبت لما ترى واستمع من لحن الخطاب وأحسن رد الجواب ، فليس بينك وبين ملكوت الأعلى غير قاب قوسين أو أدنى ، فبفضل الله وبرحمته تفرح ، ودع قلبك في برزخ أنوار المعارف الإلهية يستريح ، وباستدامة الأذكار تتجلى فيه الأنوار ، حتى يعلوا في الملأ الأعلى ذكره ، لما انشرح بنور الله صدره ، ويفتح له بمفاتيح الكشف الحقيقي باب المحبة والأنس والرضا بأنواع الفضاء فيتيه في عرصات الشوق إلى الله تعالى ، حتى يتخطى الملك إلى الملكوت ، فيسبح في فسيح بيداء أسراره ويموص(1) في آذى(2) بحارها ، ويغوص فيصير بعين البصيرة لآلئ غوامض أنوار الحقائق الغيبيات ، ويفتح لأسماعه باب الاستماع فيفهم في عياض رياض الوجد ، بسماع نغمات تسبيح الجمادات ، حتى يغيب عن الممالك إلى المالك ، فلا يجد ما سواه ولا ينظر ما عداه . فهذه هي الأسماء الأربعة . لكن في بعض المعلومات ما هو على الصحيح في البداية كسبي وفي النهاية ضروري .

صفحه ۲۲

( 15 ) وكذلك يتولد من بعض الضروريات أنواع من المعاني ، يستفيدها العقل بالكسب لها منها فتكون من الكسبي ، وكلها أرسل الله لمن أراد الله أن يرفع قدره ، وينشرح بنور الإسلام صدره . أو يقطع بالحجة البينة عذره ، بعد قيام الحجة بها ، أو بشيء منها في شيء من دينه ، نعم . وبأي وجه من ذلك في العدل اقتدى إلى الله اهتدى . ومن نازع الحجة التي بالهداية منها أتته ، فقد خالف الله شططا ، وعصى رسله واتبع هواه ، وكان أمره فرطا . والمعنى في (( اهدنا الصراط )) ، ارشدنا إليه ، وقيل وثبتنا عليه ، وكلاهما في النظر حق ، لكون طريق الاستقامة في غاية الخفاء ، أحد من الشعرة على عقبة كؤود المسلك إلا على كيس ذمر ، ليس بذي غمر . كثير الموانع شديد المقاطع ، فكم سائر ضل ، وكم قد زل ، ونيس لأهل التكليف من جوازه بد ، فمن نعس فهوى في القرار ، هلك في النار ، ومن جاز فقد فاز ، لأن من وراء هذه الكلفة أعظم زلفة ، وأنت ترى أكثر الناس في هذه الدنيا كالفراش فيها يتهافتون ، من ذروة هذا الصراط يهوون ، وبعضهم ينزلق فيرجع فيعلق ، فالتثبت عليه لا غناية عنه ، ولكونه يتمادى إلى آخر العمر . ولذلك اختلفت أحوال الناس في قطعة من لحظه إلى خمسين عاما فما فوقها ، وأما ما بينهما حسب مدة الأعمار في هذه الدار .

صفحه ۲۳