المقدمة
الحمد لله الذي خَلَقَ السمواتِ والأرضَ وجَعَلَ الظلماتِ والنُّورَ ثم الذين كفروا بربهم يَعْدِلُون.
والحمد لله الذي لا يُؤَدَّى شُكْرُ نِعْمةٍ من نِعَمِهِ إلا بِنِعْمةٍ منه تُوجِبُ على مُؤَدِّي مَاضِي نِعَمِهِ بِأَدَائِها نعمةً حَادِثَةً يَجِبُ عليه شُكْرُه بها.
ولا يَبْلُغُ الواصفون كُنْهَ عَظَمَتِه الذي هو كما وَصَفَ نَفْسَهُ، وفوق ما يَصِفُهُ به خَلْقُه.
أحمده حمدًا كما يَنبغي لكرمِ وَجْهِهِ وعِزِّ جَلاله.
وأستعينه استعانةَ من لا حَوْل له ولا قُوَّة إلا به.
وأستَهْديه بِهُدَاهُ الذي لا يَضِلُّ من أَنْعَمَ به عليه.
واستغفره لما أَزْلَفْتُ وأَخَّرْتُ استغفار من يُقِرُّ بعبوديَّته، ويعلم أنه لا يَغْفِرُ ذنبه ولا يُنَجِّيه منه إلا هو.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، المُصْطَفى لوَحْيه، المنْتَخَبُ لرسالته، المفضَّلُ على جميع خلقه بِفَتْحِ رحمتهِ، وخَتْمِ نبوَّته، وأعمُّ ما أُرسل به مُرْسَل قَبْلَه، المرفوعُ ذكرُهُ مع ذكره في الأُولى، والشَّافع المشفَّع في الأُخرى، أفضلُ خَلْقِه نفسًا، وأجمعهم لكلِّ خُلُق رَضِيَهُ في دين ودُنيا، وخيرهم نسبًا ودارًا.
صلَّى الله على نبينا كلَّما ذكره الذاكرون، وغَفَلَ عن ذكره الغافلون، وصلَّى عليه في الأولين والآخِرين، أفضلَ وأكثرَ وأزكَى ما صلَّى على أحد من خلقه، وجزاه الله عنّا أفضلَ ما جَزَى مُرْسلًا عَنْ مَنْ أُرْسِلَ إليه، فإنه أنقذَنا به من الهَلَكَةِ، وجعلنا في خير أمة أُخرجت
المقدمة / 1
للناس، دَائِنينَ بدينه الذي ارْتَضَى واصْطَفَى به ملائكتَه ومَنْ أنْعَمَ عليه من خلقه، فلم تُمْسِ بنا نعمة ظَهَرَتْ ولا بَطَنَتْ نِلْنَا بها حظًّا في دينٍ ودُنْيَا، أو دُفِع بها عنّا مكروه فيهما وفي واحد منهما، إلا ومحمد ﷺ سَبَبُها، القَائِدُ إلى خيرها، والهادي إلى رُشدها، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلّى على إبراهيم وآل إبراهيم، إنه حميد مجيد (^١).
وكما أنه ﷺ بلَّغ رسالة ربه أتمَّ بلاغ وأكْمَلَه إمتثالًا لأمر ربه له بذلك في قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (^٢)، فإنه ﷺ حرص على استمرار هذا البلاغ في أمته، فقال: «بلِّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب علي متعمِّدًا فَلْيَتَبَّوأْ مقعده من النار» (^٣).
ودعى ﷺ لسامع السنة ومبلِّغها بالنَّضَارَةِ- وهي النِّعمةُ والبَهْجَةُ (^٤) -، فقال ﷺ: «نَضَّر الله امرءًا سمع مِنَّا حديثًا، فحفظه حتى يبلِّغَه غيرَه، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه»، وفي لفظ: «نَضَّر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مبلَّغ أَوْعَى من سامع» (^٥).
_________
(^١) من مقدمة الإمام الشافعي لكتاب الرسالة (ص ٧ - ١٧) بتصرُّف.
(^٢) الآية (٦٧) من سورة المائدة.
(^٣) أخرجه البخاري في صحيحه (٦/ ٤٩٦ رقم ٣٤٦١) في أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
والترمذي في جامعه (٧/ ٤٣١ - ٤٣٢ رقم ٢٨٠٦) في العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، ثم قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).
(^٤) كما فسره الخطابي في معالم السنن (٥/ ٢٥٣)، وابن الأثير في جامع الأصول (٨/ ١٨).
(^٥) هو حديث متواتر صنَّف فيه الشيخ عبد المحسن العبّاد- أثابه الله- مصنّفًا بعنوان: (دراسة حديث، «نضّر الله امرءًا سمع مقالتي» رواية ودراية)، وجمع فيه طرق هذا الحديث، فبلغت أربعة وعشرين طريقًا عن أربعة وعشرين صحابيًا، ولحديث بعض =
المقدمة / 2
ومن هذا المنطلق حرص سلف الأمة على هذا الفضل العظيم، فتفرَّق الصحابة ﵃ في الأمصار يبلِّغون ما سمعوه، وينشرون العلم بين الناس، «وكان الخلفاء يُمِدُّون البلاد الجديدة بالعلماء، وقد استوطن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأمصار، يرشدون أهلها، ويعلِّمون أبناءها، وقد دخل الناس في دين الله أفواجًا، والْتَفُّوا حول أصحاب الرسول ﷺ، ينهلون من الينابيع التي أخذت عن الرسول الكريم ﵊، وتخرَّج في حلقاتهم التابعون الذين حملوا لواء العلم بعدهم، وحفظوا السنَّة الشريفة. وهكذا أصبحت في الأقاليم والأمصار الإسلامية مراكز علمية عظيمة، تُشِعُّ منها أنوار الإسلام وعلومه، إلى جانب مراكز الإشعاع الأولى التي أمدَّت هذه الأقطار بالأساتذة الأُوَل» (^١).
فمدينة الرسول ﷺ هي موطن الخلافة الأولى، وكان فيها من الصحابة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت وغيرهم ﵃، فنشروا علمًا غزيرًا. وفي مدرسة المدينة النبوية هذه تخرَّج خلق من
_________
= الصحابة طرق عنه، وهو باللفظ الأول هنا من حديث زيد بن ثابت ﵁ عند أبي داود في سننه (٤/ ٦٨ - ٦٩ رقم ٣٦٦٠) في العلم، باب فضل نشر العلم، والترمذي في جامعه (٧/ ٤١٥ - ٤١٧ رقم ٢٧٩٤) في العلم، باب في الحث على تبليغ السماع، والنسائي في سننه الكبرى (٣/ ٤٣١ رقم ٥٨٤٧) في العلم، باب الحث على إبلاغ العلم.
وأما اللفظ الثاني فهو من حديث عبد الله بن مسعود ﵁ عند الترمذي في الموضع السابق (٧/ ٤١٧ رقم ٢٧٩٥)، وابن ماجه في سننه (١/ ٨٥ رقم ٢٣٢) في المقدمة، باب من بلّغ علمًا.
قال الترمذي في الموضع الأول: (حديث زيد بن ثابت حديث حسن)، وقال في الموضع الثاني: (هذا حديث حسن صحيح).
(^١) السنة قبل التدوين لمحمد عجّاج الخطيب (ص ١٦٤).
المقدمة / 3
أفاضل التابعين، منهم: سعيد بن المسيّب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وعبيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة، وسليمان بن يسار، وهؤلاء هم الفقهاء السبعة (^١).
وفي مكة كان حَبْر الأمّة عبد الله بن عباس ﵄ الذي تخرَّج على يديه خلق من سادات التابعين، منهم: مجاهد بن جَبْر، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وطاوُس.
ولما بويع عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ﵁ بالخلافة، رحل إلى الكوفة، فانتفع به خلق كثير هناك، وكانت الكوفة إحدى قواعد الفتح الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين، ونزلها جَمٌّ غفير من الصحابة. قال إبراهيم النخعي: «هبط الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر» (^٢)، وعلى رأس هؤلاء البدريين: ابن أُمِّ عَبْد: عبد الله بن مسعود ﵁، وكان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ بعثه معلِّمًا لأهل الكوفة، وكتب لهم كتابًا يقول فيه: «يا أهل الكوفة، أنتم رأس العرب وجمجمتها وسهمي الذي أرمي به، إن أتاني شيء من هاهنا وهاهنا، قد بعثت إليكم بعبد الله، وخِرْتُ لكم، وآثرتكم به على نفسي» (^٣).
وكان لعبد الله بن مسعود ﵁ أثر كبير على أهل الكوفة، بحيث أصبحت مدرستها من أكبر مدارس الإسلام. قال إبراهيم التيمي: «كان فينا- يعني أهل الكوفة- ستون شيخًا من أصحاب عبد الله» (^٤).
_________
(^١) مقدمة ابن الصلاح (ص ٣٢٥).
(^٢) طبقات ابن سعد (٦/ ٩).
(^٣) المرجع السابق (٦/ ٧).
(^٤) السابق أيضًا (٦/ ١٠).
المقدمة / 4
وعلى رأس هؤلاء الذين تخرّجوا من مدرسة ابن مسعود ﵁: عَبِيدَةُ السَّلْماني وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد ومسروق بن الأجْدَع والربيع بن خُثَيْم وشُريح القاضي وغيرهم خلق (^١).
وهكذا البصرة والشام ومصر وغيرها من بلاد الإسلام (^٢).
وقد نشطت الحركة العلمية في عصر التابعين نشاطًا كان من آثاره بدء مرحلة التدوين الرَّسمي للسنة بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ﵀، بسبب خوفه من ذهاب العلم بذهاب العلماء. يقول عبد الله بن دينار ﵀: «كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فاكتبوه، فإني خِفْتُ دُرُوسَ (^٣) العلم وذهاب أهله» (^٤)، وفي رواية: «كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فاكتبه، فإن خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النَّبِيِّ ﷺ، ولْتُفْشُوا العلم، ولْتَجْلِسُوا حتى يُعَلَّمَ من لا يَعْلَمُ، فإن العلم لا يهلِك حتى يكون سرًّا» (^٥). ولم يكن أمرُه هذا مقصورًا على أهل المدينة فحسب، فقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ: «كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلى الآفاق: انظروا حديث رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فاجمعوه» (^٦).
_________
(^١) السابق أيضًا (٦/ ١٠).
(^٢) انظر في ذلك وفيما سبق: السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب (ص ١٦٤ - ١٧٥).
(^٣) أي خاف عليه من أن تنمحي آثاره وتذهب. انظر لسان العرب (٦/ ٧٩).
(^٤) أخرجه الدارمي في سننه (١/ ١٠٤ رقم ٤٩٤)، والخطيب البغدادي في تقييد العلم (ص ١٠٦).
(^٥) أخرجه البخاري في صحيحه موصولًا إلى قوله: «وذهاب العلماء»، وباقيه معلَّقًا. انظر صحيح البخاري (١/ ١٩٤) كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم.
(^٦) نقلًا عن فتح الباري (١/ ١٩٤ - ١٩٥).
المقدمة / 5
وموقف عمر بن عبد العزيز- ﵀ هذا شبيه بموقف عثمان- ﵁ في قصة جمعه للقرآن، فقد رحم الله الأمة بصنيع هذين الخليفتين.
وكان أول من قام بتدوين السنة بأمر من عمر بن عبد العزيز: محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهْري. يقول عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي: (أول من دَوَّن العلم وكتبه ابن شهاب) (^١).
ويقول ابن شهاب الزُّهْري نفسه: (أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا) (^٢). ويقول الحافظ ابن حجر: (وأول من دوَّن الحديث: ابن شهاب الزُّهْري على رأس المائة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد) (^٣). ويقول السُّيوطي في منظومته (^٤):
أَوَّلُ جامعِ الْحديثِ والأَثَرْ … ابنُ شهابٍ آمرًا له عُمَرْ
ثم أَعْقَبَ التدوينَ مرحلةُ التَّصنيف كما سبق نقله عن ابن حجر، فأوَّل من صنَّف على الأبواب: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت ١٥٠ هـ) بمكة، والإمام مالك بن أنس (ت ١٧٩ هـ) أو محمد بن إسحاق بن يَسَار (ت ١٥١ هـ) بالمدينة، والرَّبيع بن صَبيح (ت ١٦٠ هـ) أو سعيد بن أبي عَرُوبة (ت ١٥٦ هـ أو ١٥٧ هـ) أو حماد بن سلمة (ت ١٦٧ هـ) بالبصرة، وسفيان بن سعيد الثوري
_________
(^١) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (١/ ٨٨).
(^٢) المرجع السابق (١/ ٩١ - ٩٢).
(^٣) فتح الباري (١/ ٢٠٨).
(^٤) ألفية السيوطي (ص ١٠).
المقدمة / 6
(ت ١٦١ هـ) بالكوفة، وعبد الرحمن بن عمرو الأَوْزاعي (ت ١٥٧ هـ) بالشام، وهُشَيم بن بشير الواسطي (ت ١٨٣ هـ) بواسط، ومعمر بن راشد (ت ١٥٣ هـ) باليمن، وجرير بن عبد الحميد (ت ١٨٨ هـ) بالرَّيّ، وعبد الله بن المبارك المَرْوَزي (ت ١٨١ هـ) بِمَرْو وخراسان (^١). قال الحافظان: العراقي وابن حجر: (وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا ندري أيُّهم أسبق) (^٢). وقد قيل: إن ابن جريج هو أول من صنف الكتب (^٣)، لكن ما ذكره العراقي وابن حجر أدقّ، ولذا يمكن أن يُقَيّد كلٌّ منهم بمصره، فيقال مثلًا: أول من صنف بالكوفة سفيان الثوري وهكذا. وكان معظم هذه المصنفات يضم أحاديث النَّبِيِّ ﷺ، وما ورد عن الصحابة والتابعين، إلى أن رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النَّبِيِّ ﷺ خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنَّف أسد بن موسى (ت ٢١٢ هـ) مسندًا، وصنَّف عبيد الله بن موسى العَبْسي (ت ٢١٣ هـ) مسندًا، وصنَّف مُسَدَّد البصري (ت ٢٢٨ هـ) مسندًا، وصنَّف نُعيم بن حماد الخُزَاعي (ت ٢٢٨ هـ) مسندًا، ثم اقتفى الأئمة آثارهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنَّف حديثه على المسانيد، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم (^٤).
وامتدادًا لمرحلة التصنيف على الأبواب نجد عبد الرزاق بن هَمَّام الصنعاني (ت ٢١١ هـ) صنَّف كتابه العظيم: (المصنَّف)، ومثله أبو بكر عبد الله بن محمد أبي شيبة (ت ٢٣٥ هـ) صنف كتاب:
_________
(^١) انظر المحدِّث الفاصل للرَّامَهُرْمُزِي (ص ٦١١ - ٦١٨)، وتدريب الراوي (١/ ٨٩).
(^٢) الموضع السابق من تدريب الراوي.
(^٣) تاريخ بغداد (١٠/ ٤٠٠).
(^٤) تدريب الراوي (١/ ٨٩) نقلًا عن ابن حجر.
المقدمة / 7
(المصنَّف)، وهذان الكتابان كما أنهما شبيهان في التسمية، فهما شبيهان أيضًا في المحتوى، فكلاهما مما صُنِّف على الأبواب (الموضوعات)، ويشملان الأحاديث المرفوعة لِلنَّبِيِّ ﷺ، والموقوفة على الصحابة ﵃، ومقاطيع التابعين فمن بعدهم ﵏، وبين هذين المصنَّفَيْن نجد مصنَّفًا آخر شبيهًا بهما من حيث طريقةُ التصنيف والمحتوى في الجملة، وهو كتاب: (السنن) لسعيد بن منصور (ت ٢٢٧ هـ) وشَبَهُهُ بمصنَّف ابن أبي شيبة أكثر منه بمصنَّف عبد الرزاق (^١)، وقد قال الرَّامَهُرْمزي: (وتفرَّد بالكوفة أبو بكر ابن أبي شيبة بتكثير الأبواب، وجودة الترتيب، وحسن التأليف) (^٢).
ونجد كثيرًا من المصنِّفين يروون كثيرًا من الأحاديث والآثار من طريق هذه الكتب الثلاثة- مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور-، أو يعزونها إليها (^٣)، وهذا يعود لندرة محتواها، وعُلُوِّ أسانيدها، وغير ذلك من الاعتبارات.
وقد حُظِيَ مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة بالنشر (^٤) - على ما فيهما من السقط والتصحيف والغلط-.
وأما سنن سعيد بن منصور، فنشر منها الجزء الثالث فقط في
_________
(^١) كما سيأتي في التعريف بكتاب السنن.
(^٢) المحدِّث الفاصل (ص ٦١٤).
(^٣) كما يتضح من مراجعة تخريج الأحاديث والآثار في القسم المحقق من السنن.
(^٤) أما مصنف عبد الرزاق فقام بتحقيقه الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، ونشره المجلس العلمي في أحد عشر مجلدًا، لكن الحادي عشر منها وبعض العاشر هما كتاب الجامع لمعمر، من رواية عبد الرزاق عنه. وأما مصنف ابن أبي شيبة، فقد حققه الأستاذ عبد الخالق الأفغاني، واهتم بطباعته ونشره صاحب الدار السلفية بالهند: مختار الندوي، ونشر الكتاب في خمسة عشر مجلدًا، إلا أنه سقط من هذه الطبعة القسم الأول من الجزء الرابع، فطبع في دار أخرى، وهي إدارة القرآن والعلوم الإسلامية في كراتشي بباكستان.
المقدمة / 8
مجلدين تضمنا عدد (٢٩٧٨) من الأحاديث والآثار، في الفرائض والنكاح والجهاد، وما يلحق بالفرائض من الوصايا، وما يلحق بالنكاح من الطلاق والظهار ونحوهما.
وكانت هذه السنن حبيسة المكتبات نتيجة خطأ ورد على غلاف النسخة الخطيّة كما سيأتي بيانه في التعريف بالكتاب، إلى أن قام الدكتور محمد حميد الله بالعثور على هذه القطعة التي تشكل الجزء الثالث، ودفعها لمحمد ميان السملكي ﵀، الذي دفعها بدوره للشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، حيث قام بتحقيقها، ونشرت في هذين المجلدين المشار إليهما.
وفي المقدمة التي كتبها الدكتور محمد حميد الله للتعريف بالسنن لسعيد بن منصور وذكر حكاية اكتشافه لها قال: (ولا أعرف نسخة أخرى لسنن الإمام سعيد بن منصور هذه، فلم يذكرها بروكلمان «مع سعة فهرس فهارسه للكتب العربية الذي نشره بالألمانية تحت الاسم المُضِلّ: تاريخ الآداب العربية» ولا غيره فيما أعرف، فنحن إذن ننشر كتابًا ليس يعرف له إلا نسخة واحدة في العالم) (^١). اهـ.
ولم يشر الدكتور حميد الله إلى ما ذكره المباركفوري ﵀ في مقدمة تحفة الأحوذي من وجود نسخة كاملة لسنن سعيد بن منصور، حيث قال: (ومنها: سنن سعيد بن منصور، وهو الحافظ سعيد بن منصور الخراساني المتوفى سنة ٢٢٧ سبع وعشرين ومائتين، نسخة كاملة من هذا الكتاب موجودة في الخزانة الجرمنية، وهي مكتوبة بخط الإمام الشوكاني) (^٢)، فإما أنه لم يطلع على هذا الكلام، وإما أنه ممن يستبعد صحته.
_________
(^١) مقدمة القسم المطبوع من سنن سعيد بن منصور (ص ١٦).
(^٢) مقدمة تحفة الأحوذي (١/ ٣٣٦).
المقدمة / 9
وحينما كنت أدرس في السنة الرابعة من كلية أصول الدين، وكنت أتذاكر مع بعض الإخوة في أمور الكتب، ذكر أحدهم أنه رأى- أو ذُكر له- نسخة خطية لسنن سعيد بن منصور في إحدى المكتبات الخاصة في بلدة (الرَّيْن) (^١)، فوقع كلامه في نفسي، وبعد مدة سألت شيخنا العلامة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجبرين (^٢) عمّا إذا كان يعرف مكتبة هناك- وذكرت له ما قاله الأخ المذكور-، فوعدني بالتحرِّي عن ذلك إذا ما قدِّر له الذهاب إلى بَلَدِهِ (القويعية). وقد وفَّى بوعده- جزاه الله عني وعن المسلمين خير الجزاء-، وفوجئت به يستدعيني، ويبشِّرني بعثوره على نسخة خَطِّيَّةٍ أصليّة من سنن سعيد بن منصور في مكتبة الشيخ محمد بن سعود الصُّبَيْحي إمام جامع بَلْدَة (الرَّيْن) (^٣)، لكنها نسخة غير كاملة. وأخبرني أنه طلب من صاحبها السماح لي بتصويرها، فأجاب، وزيادة على ذلك كتب الشيخ معي كتابًا إليه، وأرسل معي أحد أبناء عمومته ليدُلَّني، وهو الشيخ حمد بن عبد العزيز الجبرين، فذهب معي مشكورًا، وحملت آلة النسخ معي في السيارة، ولا أطيل في ذكر التفاصيل، فقد دفع الشيخ محمد بن سعود الصبيحي الكتاب إلي، فصوّرته، وأعدته إليه، وكنت إذْ ذاك مشغولًا بإعداد رسالتي لنيل درجة التخصص (الماجستير)، فلما انتهيت منها، تقدمت إلى قسم السنة وعلومها في كلية أصول الدين بالرياض بطلب الموافقة على إكمال دراستي لنيل درجة (الدكتوراة) في موضوع: (الإمام سعيد بن منصور وكتابه السنن) دراسةً وتحقيقًا،
_________
(^١) وهي بلدة إلى الجنوب من بلدة القويعية المعروفة على طريق الذاهب من الرياض إلى مكة.
(^٢) والشيخ حفظه الله من أهل القويعية وإن كان يسكن الرياض.
(^٣) وهو رجل فاضل أثنى عليه الشيخ عبد الله الجبرين، ومن عائلة معروفة بالعلم ومكتبته هذه متوارثة عن أسلافه.
المقدمة / 10
على أن أبدأ من حيث انتهى المطبوع، وذلك ابتداء من كتاب (فضائل القرآن)، ويليه (كتاب التفسير)، بحيث أَنْتَهي إلى نهاية سورة المائدة من كتاب التفسير، فوافق القسم مشكورًا، وتُوِّج ذلك بموافقة مجلس الكلية. وقد دفعني إلى اختيار هذا الموضوع لإعداد درجة (الدكتوراة) عدة أسباب، من أهمها ما يأتي:
(١) مكانة المؤلف العلمية، ويتجلَّى ذلك في:
أ - كونه أحد الأئمة الحفاظ كما سيأتي في ترجمته.
ب - كونه أحد رجال الكتب الستة، ممن رضيه الجماعة وأخرجوه في كتبهم.
جـ - تتلمذ عدد من الأئمة عليه مثل مسلم وأبي داود، بل حتى الإمام أحمد، حدَّث عنه وهو حيّ.
وسيأتي التعريف به على وجه التفصيل.
(٢) قيمة الكتاب العلمية، وتتجلَّى في:
أ - كونه من الكتب القليلة التي تعنى بتخريج الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بالإضافة للأحاديث المرفوعة، ولا يخفى ما لتخريج الآثار من الأهمية، فإنها تعكس لنا ما كان عليه السلف من العمل في العقائد والأحكام وغير ذلك.
ب - ما يمتاز به الكتاب من علوّ الإسناد، مما حدى بالعلماء إلى التخريج من طريقه، ومنهم أصحاب الكتب الستة وغيرهم، وقد ساهم في ذلك ما منّ الله به على المؤلف من طول العمر، حتى إنه أدرك شيوخًا لم يدركهم بعض من اتفق معه في سنة الوفاة، أو قاربها.
جـ - كثرة العزو إليه عند الفقهاء والمحدثين والمفسرين وغيرهم.
المقدمة / 11
د - تفرُّد المصنِّف ببعض الآثار التي لا توجد عند غيره- بحسب بحثي-.
هـ - ذكره لبعض الآثار التي يشاركه فيها بعض أصحاب المؤلفات المفقودة، كعبد بن حميد وابن المنذر في تفسيريهما.
وتفرُّده ببعض الطرق التي تقوِّي طرقًا أخرى، أو تفيد في كشف عِلَّةٍ لبعض الطرق، أو ترجيح بعض ما قد يُعَلُّ منها.
(٣) حاجة العلماء وطلبة العلم الماسّة لمزيد من مصادر السنة الأصلية التي تروي بالإسناد، وحاجتهم لهذا الكتاب بالأخص بسبب قيمته العلمية.
(٤) ما اشتهر لدى الأوساط العلمية من فقدان الكتاب، سوى ما طبع منه.
لهذه الأسباب أقدمت مستعينًا بالله على اختيار هذا الموضوع مع اعترافي بالتقصير والضعف، وفيما يلي شرح لخطة البحث: -
فقد قسمت الكتاب إلى مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة وملحق تعقبه الفهارس.
أ - المقدمة: وفيها بيان أهمية الموضوع، وسبب اختياره، وشرح خطة البحث فيه.
ب - القسم الأول: دراسة عن المؤلف سعيد بن منصور وكتابه السنن، وفيه مبحثان:
• المبحث الأول: التعريف بالمؤلف سعيد بن منصور، ويشمل: دراسة عن بيئته وعصره، واسمه ونسبه وكنيته، ومولده ونشأته، وطلبه للعلم، ورحلته فيه، وشيوخه وتأثيرهم فيه، وتلاميذه وتأثيره فيهم، وجهوده في خدمة الحديث وعلومه، ومؤلفاته فيه، وثناء العلماء عليه، وما تُكُلِّم به فيه والجواب عنه، وعقيدته، ومن اتفق معه في الاسم واسم الأب، وأولاده، ووفاته.
المقدمة / 12
• المبحث الثاني: التعريف بكتاب السنن، ويشمل:
تسميته، وتوثيق نسبته للمؤلف مع ذكر سند الكتاب، وموضوعه، ومنهج المؤلف فيه ويتضمن: (ترتيب الكتاب، ومصادره، وطريقته في الرواية، وسياق الأسانيد والمتون، وتراجمه للأبواب، وأنواع المرويات عنده من أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة أو مقطوعة، ودرجة أحاديث الكتاب، ومقارنته بطريقة علماء عصره)، والزيادات عليه ومميزاته، وبعض المآخذ عليه، والتعريف بنسخ الكتاب.
جـ- القسم الثاني: طريقة العمل في الكتاب، وتشمل:
١ - توثيق النص، وذلك بالرجوع إلى المصادر، ومحاولة بيان من نقل النص من العلماء عن سعيد مباشرة، أو بواسطة، وتخريج الأحاديث والآثار، مع ذكر الشواهد والمتابعات، ودراسة أسانيدها، والحكم عليها.
٢ - تفسير غريب الحديث.
٣ - توضيح النص، بالتعليق على كل ما يحتاج إلى توضيح.
د- القسم الثالث: النص محققًا ومعلقًا عليه طبقًا لخطة العمل السابقة.
هـ- الخاتمة: وفيها تقويم العمل على ضوء الدراسة والتحقيق، وذكر أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال عملي بإيجاز.
وملحق: في تقويم العمل المطبوع من الكتاب مع مقارنته بالمخطوط.
ز- الفهارس: وتشتمل على:
١ - فهرس الآيات مرتبة حسب ترتيب المصحف.
٢ - فهرس الأحاديث والآثار مرتبة على حروف المعجم.
٣ - فهرس الأحاديث والآثار مرتبة على المسانيد.
٤ - فهرس الأحاديث والآثار مرتبة على الأبواب.
٥ - فهرس شيوخ المصنف.
المقدمة / 13
٦ - فهرس رجال الأسانيد.
٧ - فهرس الأعلام الواردين في النص.
٨ - فهرس الرواة المترجمين في التعليق.
٩ - فهرس الأبيات الشعرية.
١٠ - فهرس الأماكن والبلدان.
١١ - فهرس الأنساب.
١٢ - فهرس غريب اللغة والحديث.
١٣ - فهرس المراجع.
١٤ - الفهرس العام.
وفي الختام أتوجه بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي أتاحت لي الفرصة لإكمال دراستي، وأخص بذلك كلية أصول الدين ممثلة في عميدها ووكيليه وقسم السنة وعلومها، كما أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور عبد المنعم السيد نجم على تفضله بقبول الإشراف على هذه الرسالة وقراءتها وإبداء الملاحظات عليها، كما لا يسعني أن أغفل الشكر الجزيل لفضيلة الشيخ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجبرين على ما بذله من جهد في الحصول على هذا المخطوط، ولفضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم على توجيهاته لي في هذا البحث وغيره، والتي كان لها أطيب الأثر في نفسي، فأسأل الله تعالى أن يجزيهما عني أفضل الجزاء، كما أشكر الشيخ حمد بن عبد العزيز الجبرين على ما ساعدني به في سبيل الحصول على هذا المخطوط، والشيخ محمد بن سعود الصبيحي على تفضله بالسماح لي بتصوير المخطوط لهذا الكتاب، وأشكر كل من أسدى إلي معروفًا؛ من نصح، أو توجيه أو غير ذلك، وأسأل الله تعالى أن يجزيهم عني أفضل الجزاء، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حُمَيِّد
المقدمة / 14
القسم الأول
دراسة عن المؤلف سعيد بن منصور
وكتابه «السنن»
وفيه مبحثان: المبحث الأول: التعريف بالمؤلف.
المبحث الثاني: التعريف بكتاب السنن.
المقدمة / 15
المبحث الأول
التعريف بالمؤلف (^١)
_________
(^١) مصادر ترجمته هي: الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد (٥/ ٥٠٢)، ومعرفة الرجال لابن معين (رواية ابن محرز) (١/ ١٠١ رقم ٤٤٤)، والتاريخ الكبير للبخاري (٣/ ٥١٦ رقم ١٧٢٢)، والكنى لمسلم (ص ٧٣)، والمعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان (انظر فهرسه والمواضع المحال عليها هنا)، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي (انظر فهرسه والمواضع المحال عليها هنا)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (٤/ ٦٨ رقم ٢٨٤)، والثقات لاين حبان (٨/ ٢٦٨ - ٢٦٩)، وتاريخ مولد العلماء ووفياتهم لابن زَبْر الرَّبَعي (٢/ ٤٩٩ و٥٠١)، ورجال صحيح البخاري المسمى: (الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد) للكَلابَاذِي (١/ ٢٩٥ - ٢٩٦ رقم ٤٠٧)، ورجال مسلم لابن مَنْجُوْيَهْ (١/ ٢٤٩ رقم ٥٣٦)، و: (تسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن سعيد بن منصور عاليًا) لأبي نعيم الأصبهاني (ص ٢٦)، والإرشاد للخليلي (١/ ٢٣١ رقم ٦٠)، والمتفق والمفترق للخطيب البغدادي (ل ١٠٩ - ١١٠)، والتعديل والجرح لأبي الوليد الباجي (٣/ ١٠٨٧ رقم ١٢٧٦)، والجمع بين رجال الصحيحين لابن القيسراني (١/ ١٧٠)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (١/ ٧٨، ١٦٨) و(٣/ ٢٠٠، ٢٤٠)، والمعجم المشتمل (ص ١٢٩ رقم ٣٧٥)، وتاريخ دمشق كلاهما لابن عساكر (٧/ ٣٥٤ - ٣٥٧، مخطوط الظاهرية) ومختصره لابن منظور (١٠/ ١٢ - ١٣ رقم ٨) وتهذيبه لابن بدران (٦/ ١٧٧)، والتقييد لابن نقطة (٢/ ١٧ - ١٨)، ومعجم البلدان لياقوت (١/ ٤٢٠، ٤٢٥)، و(٢/ ٣٦٧)، و(٣/ ٢٣٠)، والعلم المشهور لابن دحية الكلبي (ص ١٦١ و١٦٢)، وتهذيب الكمال للمزي (١١/ ٧٧ - ٨٢ رقم ٢٣٦١)، وسير أعلام النبلاء (١٠/ ٥٨٦ - ٥٩٠)، وتاريخ الإسلام (ص ١٨٤ - ١٨٦ / وفيات ٢٢١ - ٢٣٠)، وتذكرة الحفاظ (٢/ ٤١٦)، ودول الإسلام (١/ ١٣٧)، والعبر (١/ ٣٩٩)، وميزان الاعتدال (٢/ ١٥٩ رقم ٣٢٧٧)، والكاشف (١/ ٣٧٣ رقم ١٩٨٢)، وذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص ١٦٩ رقم ١٢٨) جميعها للذهبي، والوافي بالوفيات للصَّفَدي (١٥/ ٢٦٣ رقم ٣٧٠)، والبداية والنهاية لابن كثير (١٠/ ٢٩٩)، وإكمال تهذيب الكمال لمغلطاي (ل ٩٨ / ب - ٩٩ / ب)، والعقد الثمين للفاسي (٤/ ٥٨٦ - ٥٨٧) وتهذيب التهذيب (٤/ ٨٩ - ٩٠ رقم ١٤٨)، وتقريب التهذيب (ص ٢٤١ رقم ٢٣٩٩) كلاهما لابن حجر، وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص ١٧٩، رقم ٤٠٣)، وبحر الدم =
المقدمة / 17
١ - بيئته وعصره: -
ولد سعيد بن منصور- كما سيأتي- قبل سنة سبع وثلاثين ومائة، أو بعدها بيسير، وتوفي في سنة سبع وعشرين ومائتين، فهو إذًا عاش في الفترة التي نشأت فيها الدولة العباسية إلى أن بلغت أوْجَ قوَّتها، وكان يقال: (لبني العباس فاتحة وواسطة وخاتمة. فالفاتحة السَّفَّاح، والواسطة المأمون، والخاتمة المُعْتَضِد) (^١).
فنشأة الدولة العباسية كانت في سنة اثنتين وثلاثين ومائة (١٣٢ هـ) على أنقاض الدولة الأموية، وكان هذا قريبًا من ولادة سعيد بن منصور الذي عاش بداية حياته في خراسان مُنْطَلَقِ الدعوة العباسية ومحطّ قوَّتها بقيادة أبي مسلم الخراساني الذي أَبْلَى مع العباسيين بلاءً كان عاقبته القتل من قبل ثاني خلفاء بني العباس: أبي جعفر المنصور؛ بعد أن أحسّ بخطر أبي مسلم الخراساني على دولتهم.
عاش سعيد هذه الحياة الطويلة التي تزيد على تسعين عامًا، وعايش فيها أحداثًا كثيرة، سأتناول الحديث عنها بإيجاز، مقسَّمًا على
_________
= ليوسف بن عبد الهادي (ص ١٧٨ رقم ٣٧٠)، وخلاصة تذهيب الكمال للخزرجي (ص ١٤٣)، وشذرات الذهب لابن العماد (٢/ ٦٢)، والرسالة المستطرفة للكتّاني (ص ٣٤)، والفكر السامي للفاسي (٢/ ٧٣ رقم ٢٦٨)، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة (٤/ ٢٣٢).
(^١) تاريخ الخلفاء (ص ٤٩٠).
والمعتضد هو الخليفة العباسي أبو العباس أحمد بن الموفق بالله طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد. ولد في سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وتولّى الخلافة سنة تسع وسبعين ومائتين، وتوفي سنة تسع وثمانين ومائتين، قال الذهبي في وصفه: (وكان ملكًا مهيبًا شجاعًا كامل العقل ذا سياسة عظيمة، وفي دولته سكنت الفتن، وأسقط المَكْسَ، ونشر العدل، وقلل من الظلم، وكان يُسَمَّى السَّفّاح الثاني، أحيا رميم الخلافة التي ضعفت من مقتل المتوكل) اهـ بتصرف من سير أعلام النبلاء (١٣/ ٤٦٣ - ٤٧٩).
وأما السَّفَّاح والمأمون فسيأتي الحديث عنهما.
المقدمة / 18
عناوين ثلاثة: الحالة السياسية، والحالة الفكرية، والحالة العلمية.
أ - الحالة السياسية:
كانت الحالة السياسية في بداية حياة المؤلف (سعيد بن منصور) تشهد فتنًا وقلاقل بسبب قيام الدولة العباسية التي وجدت مناهضين لها، شأنها في ذلك شأن أي دولة تنهض من مرحلة الضعف، فتكون عرضة لأطماع الطامعين، فإذا قُدِّر لها أن تقوى شوكتُها، ويصلب عودُها استطاعت أن ترسِّخ دعائم سلطانها، وتبسط نفوذها، وتبطش بأعدائها، وهذا ما حصل للدولة العباسية. فإنها قامت في سنة (١٣٢ هـ) على يد أبي العباس السَّفَّاح عبد الله ويقال: المرتضى، ويقال: القاسم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب أوّل الخلفاء العباسيين الذي أخذ يطارد فُلُولَ الأمويين، إلى أن استقرّ له الأمر بعد مقتل آخر خلفاء بني أمية: مروان بن محمد. ثم أخذ أبو العباس يبسط نفوذه على البلاد والأقاليم، إلا أن كثيرًا من الأقاليم كانت تنشقّ عنه بعد أن تكون أعطته البيعة، مثل قنسرين، ودمشق، وحمص، والجزيرة، وقرقيسيا، والرَّقَّة، وغيرها كثير (^١).
كما أن هناك من قام بالخروج عليه، والتحم معه في قتال، مثل بسام بن إبراهيم، والخوارج، وشريك المهري ببخارى، وزياد بن صالح من وراء نهر بَلْخ (^٢).
ولم تدم الحياة طويلًا بالسفاح، فإنه ما لبث أن توفي في سنة ست وثلاثين ومائة (١٣٦ هـ). ثم تولّى بعده أخوه أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد الذي استقبل تصدُّعًا في أجزاء دولته استطاع بدهائه رَأْبَه. فأول ذلك: حينما جاءه خبر وفاة أخيه أبي العباس، كان في الطريق
_________
(^١) انظر تفاصيل ذلك في البداية والنهاية (١٠/ ٥٢ - ٥٧).
(^٢) المرجع السابق.
المقدمة / 19
عائدًا من الحج، فتعجل حتى أتى العراق، فأُخذت له البيعة من أهل العراق وخراسان وسائر البلاد، سوى الشام، فإنه خرج بها عمُّه عبد الله بن علي مدَّعيًا أن السَّفَّاح كان عهد إليه بالخلافة، فأرسل إليه أبو جعفر أبا مسلم الخراساني الذي استطاع أن يوقع به الهزيمة بعد حروب يطول ذكرها، كان من نتيجتها أن هرب عبد الله بن علي إلى أخيه سليمان بن علي في البصرة، فاختفى عنده، فعلم به المنصور، فأخذه، ويقال إنه سجنه في بيت بَنَى أساسه على الملح، ثم أطلق عليه الماء، فذاب الملح، وسقط البيت على عبد الله بن علي، فمات.
ثم أحس أبو جعفر بعد ذلك باستفحال أمر أبي مسلم واستخفافه به واحتقاره له، فأوجس منه خيفة، فسعى في إهلاكه، فما زال به يستدرجه ويَعِدُهُ ويُمَنِّيه، إلى أن أقدمه عليه، فلما تمكَّن منه، أخذ يعاتبه على ما بدر منه، وأبو مسلم يعتذر، وكان أبو جعفر أمر بعض حرسه وقال لهم: كونوا من وراء الرُّواق، فإذا صَفَّقت بيدي، فاخرجوا عليه فاقتلوه، فخرجوا عليه فقتلوه، فيقال: إن المنصور أنشد عند ذلك:
فَأَلْقَتْ عَصَاها واسْتَقَرَّ بها النَّوَى … كما قَرَّ عَيْنًا بالإِيَابِ المسافِرُ
وشهد عصر المنصور بعد ذلك فتنًا وقلاقل كثيرة، من أهمِّها:
خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب وأخيه إبراهيم بن عبد الله في المدينة والبصرة، وبعد معارك ضارية استطاع المنصور إخماد هذه الفتنة بعد مقتل محمد وأخيه إبراهيم.
وبدأت الأمور تستقرّ للمنصور، فشرع في تطوير مملكته، فبنى مدينة بغداد (^١)، وجعلها دار مملكته، وبنى مدنًا أخرى، وهدأت الفتن والحروب، وتوجه للإصلاح الداخلي، ويعتبر أبو جعفر بحق الخليفة
_________
(^١) انظر تفاصيل بنائها في البداية والنهاية (١٠/ ٩٦ - ١٠٣).
المقدمة / 20
الذي أرسى دعائم الدولة العباسية. وبعد هذه المدة التي عاشها في الحكم منذ سنة ست وثلاثين ومائة، أدركت أبا جعفر الوفاة في سنة ثمان وخمسين ومائة (١٥٨ هـ) بعد أن عهد بالخلافة لابنه محمد المهدي، ومن بعده لعيسى بن موسُى (^١)، إلا أن المهدي لما تولّى الخلافة، أَلَحَّ على عيسى أن يخلع نفسه ويتنازل عن الخلافة للهادي، فامتنع، ثم أجاب بعد ترغيب وترهيب ووعد ووعيد من المهدي له يطول ذكره (^٢).
وكان المهدي أتى للخلافة والأمور مستقرّة، فكان عصره بداية عصر ازدهار الدولة العباسية، لذلك نجده أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق (^٣)، وأمر بعمارة طريق مكة، فبنى بها القصور، وحَفَرَ الآبار، وعمل المصانع والبِرَكَ، حتى صارت طريق الحجاز من العراق من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها (^٤). ونجده أول خليفة حمل له الثَّلْجُ إلى مكة (^٥). وفي سنة سبع وستين ومائة أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام، وأدخل في ذلك دورًا كثيرة (^٦).
وقد شهد عصره شيئًا من الاضطراب (^٧)، لكنه لا يداني ما
_________
(^١) هو عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ابن أخ أبي جعفر، وكان فارس بني العباس، وسَيْفَهم المسلول، جعله السَّفّاح ولي العهد بعد المنصور، فتحيَّل عليه المنصور بكل ممكن حتى أخّره وقدّم عليه المهدي، فيقال: بذل له بعد الرغبة والرهبة عشرة آلاف ألف درهم. انظر سير أعلام النبلاء (٧/ ٤٣٤ - ٤٣٥).
(^٢) انظر البداية والنهاية (١٠/ ١٣٠، ١٣١).
(^٣) تاريخ الخلفاء (ص ٤٣٧).
(^٤) انظر البداية والنهاية (١٠/ ١٣٣)، وتاريخ الخلفاء (ص ٤٣٦).
(^٥) كما في البداية (١٠/ ١٣٢)، ويقول الذهبي: (لم يتهيّأ ذلك لملك قط) كما في تاريخ الخلفاء (ص ٤٣٦).
(^٦) تاريخ الخلفاء (ص ٤٣٦).
(^٧) انظر البداية والنهاية (١٠/ ١٣٣، ١٣٥، ١٤٥).
المقدمة / 21