[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
قوله تعالى { بسم الله الرحمن الرحيم } قوله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم. تعليم منه سبحانه؛ ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها؛ تبركا به. ومعناه أبدا: { بسم الله }؛ لأن حرف الباء مع سائر حروف الجر لا يستغني عن فعل مضمر أو مظهر؛ فكان ضمير الباء في هذه الآية: الأمر.
واختلف الناس في معنى اشتقاق الاسم؛ وأكثر أهل اللغة على أنه مشتق من السمو؛ وهو الرفعة. ومعنى الاسم التنبيه على المسمى والدلالة عليه. وقال بعضهم: مشتق من السمة؛ وهي العلامة؛ فكان الاسم علامة للمسمى.
وأما { الله } فقال بعضهم: هو اسم لا اشتقاق له؛ مثل قولك: فرس؛ ورجل؛ وجبل؛ ومعناه عند أهل اللسان: المستحق للعبادة؛ ولذلك سمت العرب أصنامهم: آلهة؛ لاعتقادهم استحقاقها للعبادة. وقال بعضهم: هو من قولهم: أله الرجل إلى فلان يأله إلاهة؛ إذا فزع إليه من أمر نزل به؛ فآلهه أي أجاره وأمنه. ويقال للمألوه إليه: إلها. كما قالوا للمؤتم به: إماما؛ فمعناه أن الخلائق يألهون ويتضرعون إليه في الحوائج والشدائد.
واختلفوا في { بسم الله الرحمن الرحيم } هل هي آية من الفاتحة؟ فقال قراء الكوفة: هي آية منها؛ وأبى ذلك أهل المدينة والبصرة. وأما قوله { الرحمن الرحيم } فهما اسمان مأخوذان من الرحمة؛ وزنهما من الفعل نديم وندمان من المنادمة، وفعلان أبلغ من فعيل، وهو من أبنية المبالغة. ولا يكون إلا في الصفات؛ كقولك: شبعان وغضبان؛ ولهذا كان اسم { الرحمن } مختصا بالله لا يوصف به غيره. وأما اسم { الرحيم } فمشترك.
وعن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الرحمن العاطف على جميع خلقه بإدرار الرزق عليهم "
فالرحمة من الله تعالى الإنعام على المحتاج؛ ومن الآدميين رقة القلب؛ وإنما جمع بين الرحمن والرحيم للنهاية في الرحمة والإحسان بعد الاحتنان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر] ولو قال: لطيفان لكان أحسن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب في أوائل الكتب في أول الإسلام: [بسمك اللهم ] حتى نزل
صفحه نامشخص
بسم الله مجريها
[هود: 41]. فكتب { بسم الله }. ثم نزل:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
[الإسراء: 110] فكتب: { بسم الله الرحمن }. فنزل:
بسم الله الرحمن الرحيم
[النمل: 30] في سورة النمل؛ فكتب حينئذ: { بسم الله الرحمن الرحيم }.
فإن قيل: لم قدم اسم الله على الرحمن؟ قيل: لأنه اسم لا ينبغي إلا لله عز وجل. وقيل في تفسير قوله تعالى:
هل تعلم له سميا
[مريم: 65] أي هل تعرف في السهل والجبل والبر والبحر والمشرق والمغرب أحدا اسمه الله غير الله؟ وقيل: هو اسمه الأعظم. وقدم الرحمن على الرحيم؛ لأن الرحمن اسم خص به الله؛ والرحيم مشترك؛ يقال: رجل رحيم، ولا يقال: رجل رحمن. وقيل: الرحمن أمدح؛ والرحيم أرأف.
وإنما أسقطت الألف من اسم الله وأصله باسم الله؛ لأنها كثرت على ألسنة العرب عند الأكل والشرب والقيام والقعود؛ فحذفت اختصارا من الخط وإن ذكرت اسما غيره من أسماء الله لم تحذف الألف لقلة الاستعمال؛ نحو قولك: باسم الرب، وباسم العزيز؛ وإن أتيت بحرف سوى الباء لم تحذف الألف أيضا؛ نحو قولك: لاسم الله حلاوة في القلوب؛ وليس اسم كاسم الله. وكذلك باسم الرحمن؛ واسم الجليل؛ و
صفحه نامشخص
اقرأ باسم ربك
[العلق: 1].
[1.2]
قوله عز وجل: { الحمد لله } ، الحمد والشكر نظيران؛ إلا أن الحمد أعم من حيث إن فيه معنى المدح من المنعم عليه؛ وغير المنعم عليه؛ ولا يكون الشكر إلا من المنعم عليه. والشكر أعم من الحمد من حيث إنه يكون من اللسان والقلب والجوارح؛ والحمد لا يكون إلا باللسان؛ ويتبين الفرق بينهما بنقيضهما. فنقيض الحمد الذم؛ ونقيض الشكر الكفران.
وقوله: { رب العالمين }. الرب في اللغة: اسم لمن يربي الشيء ويصلحه؛ يقال لسيد العبد: رب؛ ولزوج المرأة: رب؛ وللمالك: رب. ولا يقال: الرب معرفا بالألف واللام إلا لله عز وجل. والله تعالى هو المربي والمحول من حال إلى حال؛ من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى أجل مسمى.
وقوله { رب العالمين } العالم: جمع لا واحد له من لفظه؛ كالنفر والرهط؛ وهو اسم لمن يعقل مثل الإنس والجن والملائكة؛ لأنك لا تقول: رأيت عالما من الإبل والبقر والغنم؛ إلا أنه حمل اسم العالم في هذه السورة على كل ذي روح دب ودرج لتغليب العقلاء على غيرهم عند الاجتماع. وربما قيل للسماوات وما دونها مما أحاطت به: عالم؛ كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن لله ثمانية عشر ألف عالم؛ وإن دنياكم منها عالم ".
[1.3]
وقوله: { الرحمن الرحيم }. قد تقدم تفسيره.
[1.4]
صفحه نامشخص
وقوله عز وجل: { ملك يوم الدين }. أي يوم الحساب؛ فإن قيل: لم خص يوم الدين؛ وهو ملك الدنيا والآخرة؟ قيل: لأن الله تعالى لا ينازعه أحد في ملكه ذلك اليوم؛ كما قال تعالى:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر: 16].
قرأ عاصم والكسائي: (مالك يوم الدين) بالألف؛ والباقون بغير ألف. قال أهل النحو: (ملك) أمدح من (مالك) لأن المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا. وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقرأ: (مالك يوم الدين) على النداء المضاف؛ أي يا مالك يوم الدين. وقرأ أنس بن مالك: (ملك يوم الدين) جعله فعلا ماضيا.
[1.5]
قوله عز وجل: { إياك نعبد وإياك نستعين }. لا يحسن إدخال { إياك } في غير المضمرات. وحكي عن الخليل: (إذا بلغ الرجل الستين فإياه؛ وإيا الشواب). فأضافه إلى ظاهر؛ وهو قبيح مع جوازه ولا يكون إلا إذا تقدم، فإن تأخر؛ قلت: نعبد؛ ولا يجوز: نعبد إياك. فإن قيل: لم قدم { إياك نعبد } وهلا قال: نعبدك؟ قيل: إن العرب إذا ذكرت شيئين قدمت الأهم فالأهم؛ ذكر المعبود في هذه الآية أهم من ذكر العبادة فقدمه عليها.
والكاف من { إياك } في موضع خفض بمنزلة عصاك؛ وأجاز الفراء: أن تكون في موضع نصب؛ فكأنه جعل { إياك } بكماله ضمير المنصوب. فإن قيل: لم عدل عن المغايبة إلى المخاطبة؟ قلنا: مثله كثير في القرآن؛ قال الله تعالى:
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح
[يونس: 22].
[1.6]
صفحه نامشخص
قوله عز وجل: { اهدنا الصراط المستقيم }؛ أي أرشدنا الطريق القائم الذي ترضاه ؛ وهو الإسلام. وهذا دعاء؛ ومثله بلفظ الأمر؛ لأن الأمر لمن دونك؛ والمسألة لمن فوقك.
فإن قيل: ما معنى قولكم: إهدنا! وأنتم مهتدون؟ قيل: هذا سؤال في مستقبل الزمان عند دعوة الشيطان. وقيل: معناه: ثبتنا على الطريق المستقيم؛ لا تقلب قلوبنا بمعصيتنا. ونظير قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام:
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
[البقرة: 131] أي أثبت على الإسلام.
وفي { الصراط } أربع لغات: صراط بالصاد؛ وسراط بالسين، وبالزاي الخالصة، وبإشمام الصاد والزاي، وكل ذلك قد قرئ به؛ فبالسين قراءة قنبل، وبإشمام الزاي قراءة خلف؛ وقرأ الباقون بالصاد الصافية.
[1.7]
قوله تعالى: { صراط الذين أنعمت عليهم }؛ هم الأنبياء وأهل طاعة الله تعالى. واختلاف القراءة في { صراط } كاختلافهم في { الصراط }.
قوله عز وجل: { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } { المغضوب عليهم } هم اليهود؛ و { الضآلين } هم النصارى.
وأما (آمين) فليس من السورة؛ ولكن روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله ويأمر به. وقال:
" لقني جبريل عليه السلام بعد فراغي من فاتحة الكتاب: آمين، وقال: إنه كالطابع على الكتاب "
صفحه نامشخص
وقيل: معنى آمين: اللهم استجب. وقيل: معناه: يا آمين؛ أي يا الله. فآمين اسم من أسماء الله. وقيل: معناه: اللهم اغفر لي. وفي آمين لغتان: المد والقصر؛ قال الشاعر في القصر:
تباعد منى فطحل إذ رأيته
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وقال آخر في المد:
صلى الإله على لوط وشيعته
أبا عبيدة قل بالله آمين
وقال آخر في المد أيضا:
يا رب لا تسلبنى حبها أبدا
ويرحم الله عبدا قال آمينا
قال صلى الله عليه وسلم:
صفحه نامشخص
" فاتحة الكتاب رقية من كل شيء إلا السأم "
وهو الموت. وروي أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
" كنت أخشى العذاب على أمتك فلما نزلت الفاتحة أمنت؛ لأنها سبع آيات؛ وجهنم لها سبعة أبواب، فمن قرأها صارت كل آية طبقا على باب ".
[2 - سورة البقرة]
[2.1]
قوله عز وجل: { الم }؛ اختلفوا في تفسير { الم } وسائر حروف التهجي، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود : (أن الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر). ووافقهم في ذلك الشعبي؛ وقال: (إن لله تعالى سرا في كتبه؛ وإن سره في القرآن الحروف المقطعة) وقال بعضهم: إنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها. وقال علي رضي الله عنه: (لكل شيء صفوة؛ وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن معنى { الم }: أنا الله أعلم وأرى، و { المص }: أنا الله أعلم وأفصل، و { كهيعص }: الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق). ويقال: الألف: مفتاح اسمه الله؛ واللام: لطيف، والميم: مجيد، ومعناه اللطيف المجيد أنزل الكتاب. ويقال: الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد، معناه: الله أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن. وقيل: هذا قسم أقسم الله به أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد هو الكتاب الذي عند الله، وجوابه:
لا ريب فيه
[البقرة: 2]. وقال محمد بن كعب: (الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه). وقال أهل الإشارة: الألف أنا، واللام لي، والميم مني.
فصل: وهذه الحروف موقوفة؛ لأنها حرف هجاء، وحروف الهجاء لا تعرب كالعدد في قوله: واحد اثنان. ولغاية أدخلوا الواو وحركوه؛ لأنه صار في حد الأسماء، فيقال: ألف ولام كالعدد. وكذلك قال الأخفش: (هي ساكنة لا تعرب).
صفحه نامشخص
وقوله: { الم } رفع بالابتداء؛ و { ذلك } خبره؛ و { الكتاب } صلة لذلك. ويحتمل أن يكون (الم) خبرا مقدما تقديره: ذلك الكتاب الذي وعدت أن أوحيه إليك { الم }. ومن أبطل محل الحروف جعل { ذلك } ابتداء و { الكتاب } خبره. و { الم } صلة؛ فيكون لذلك معنيان؛ أحدهما: أن { ذلك } بمعنى، وقد يستعمل { ذلك } بمعنى، (هذا). قال خفاف:
أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إننى أنا ذلكا
أي إنني هذا أطرأ لعود عطفه.
والثاني: على الإضمار؛ كأنه قال: هذا القرآن
ذلك الكتاب
[البقرة: 2] الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أوحيه إليك. وقيل: { الم } ابتداء؛ و { ذلك } ابتداء آخر؛ و { الكتاب } خبره، والجملة خبر الأول.
وقال بعض المفسرين: اختلف في
ذلك الكتاب
[البقرة: 2]، فقال الحسن وابن عباس وقتادة ومجاهد: (هو القرآن). فعلى هذا يكون { ذلك } بمعنى (هذا) كقوله تعالى:
صفحه نامشخص
وتلك حجتنآ
[الأنعام: 83] أي هذه حجتنا. وقيل: معناه:
ذلك الكتاب
[البقرة: 2] الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
[2.2]
وقوله عز وجل: { ذلك الكتاب لا ريب فيه }؛ أي لا شك فيه. ونصب { ريب } لتعميم النفي؛ ألا ترى أنك تقول: لا رجل في الدار؛ بالنصب، فيكون نفيا عاما. وإذا قلت: لا رجل في الدار؛ بالرفع، جاز أن يكون في الدار رجلان أو ثلاثة.
قوله عز وجل: { هدى للمتقين }؛ نصب على الحال؛ إما من { ذلك الكتاب }؛ كأنه قال: ذلك الكتاب هاديا. وإما من { لا ريب فيه } كأنه قال { لا ريب فيه } في حال هدايته. ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار (هو)، أو (فيه).
فإن قيل: لم خص المتقين؛ وهو هدى لهم ولغيرهم؟ قيل: تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، وفائدة التخصيص تشريف المتقين، ومثله:
إنما تنذر من اتبع الذكر
[يس: 11]
صفحه نامشخص
إنمآ أنت منذر من يخشها
[النازعات: 45].
[2.3-4]
قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب }؛ أي بالبعث والحساب والجنة والنار. وقيل: (الغيب) هو الله. قوله تعالى: { ويقيمون الصلوة } ، أي الصلوات الخمس بشرائطها في مواقيتها. قوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون }؛ يعني الزكاة؛ وهو الأظهر؛ لأن الله تعالى قرن بين الصلاة والزكاة في مواضع كثيرة، وإقامة الصلاة طهارة الأبدان؛ وإعطاء الزكاة طهارة الأموال. وبالأموال قوام الأبدان، وقد قيل: هو نفقة الرجل على أهله.
قيل: لما نزل قوله عز وجل: { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة } الآية، قالت اليهود: نحن نؤمن بالغيب ونقيم الصلاة وننفق مما رزقنا الله؛ فأنزل الله تعالى: { والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } ، والذي أنزل إليه القرآن والذي أنزل من قبله التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة؛ فنفروا من ذلك. فإن قيل: لم قال: { وبالآخرة هم يوقنون } ، ولم يقل يؤمنون؟ قيل: لأن الإيقان توكيد الإيمان؛ واليقين بالآخرة يقين خبر ودلالة، ومعنى الآية: وبالدار الآخرة هم يعلمون ويستيقنون أنها كائنة.
[2.5]
قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }. أي أهل هذه الصفة على رشد وثبات وصواب من ربهم. والمفلحون: الناجون الفائزون بالجنة، ونجوا من النار. وقيل: هم الباقون بالثواب والنعيم المقيم.
[2.6]
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } ، يعني مشركي العرب. وقال الضحاك: (نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته). وقال الكلبي: (يعني اليهود) وقيل: المنافقين. والكفر: هو الجحود والإنكار. قوله تعالى: { ءأنذرتهم } الإنذار: التحذير والتخويف. { أم لم تنذرهم لا يؤمنون } وهذه الآية خاصة فيمن حقت عليه كلمة العذاب والشقاوة في سابق علم الله.
[2.7]
صفحه نامشخص
قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم }. أي طبع على قلوبهم؛ والختم والطبع بمعنى واحد؛ وهو التغطية للشيء. والمعنى طبع الله على قلوبهم؛ أي أغلقها وأقفلها؛ فليست تفقه خيرا ولا تفهمه. (وعلى سمعهم) فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحده وقد تخلل بين جمعين؛ لأنه مصدر؛ والمصدر لا يثنى ولا يجمع. وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: أتاني برأس كبشين؛ أراد برأس كل واحد منهما. وقال سيبويه: (توحيد السمع يدل على الجمع؛ لأنه توسط جمعين) كقوله تعالى:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257] وقوله تعالى:
عن اليمين وعن الشمال عزين
[المعارج: 37] يعني الأنوار والإيمان؛ وقرأ ابن عبلة: { وعلى سمعهم }.
وتم الكلام عند قوله: { وعلى سمعهم } ثم قال: { وعلى أبصرهم غشاوة }. أي غطاء وحجاب فلا يرون الحق. وقرأ المفضل بن محمد: (غشاوة) بالنصب؛ كأنه أضمر فعلا أو جملة على الختم؛ أي ختم على أبصارهم غشاوة، يدل عليه قوله تعالى:
وجعل على بصره غشاوة
[الجاثية: 23]. وقرأ (غشاوة) بضم الغين. وقرأ الجحدري: (غشاوة) بفتح الغين. وقرأ أصحاب عبدالله: (غشوة) بفتح الغين بغير ألف. ومن رفع (غشاوة) فعلى الابتداء.
قوله تعالى: { ولهم عذاب عظيم } ، يعني القتل والأسر. وقال الخليل: (العذاب ما يمنع الإنسان من مراده). وقيل: هو إيصال الألم إلى الحي مع الهوان به؛ ولهذا لا يسمى ما يفعل الله بالبهائم والأطفال عذابا؛ لأنه ليس على سبيل الهوان .
[2.8]
صفحه نامشخص
قوله عز وجل: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ، نزلت هذه الآية في المنافقين: عبدالله بن أبي بن أبي سلول؛ ومعتب بن قشير؛ وجد بن قيس ومن تابعهم، كانوا يقولون للصحابة: آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق؛ وليس هم كذلك في الباطن إذا خلوا، وكانوا يقولون فيما بينهم: هذه خلة نسلم بها عن محمد وأصحابه ونكون مع ذلك متمسكين بديننا؛ فقال الله عز وجل: { وما هم بمؤمنين } وإنما وحد في أول الآية وجمع الضمير في آخرها؛ لأن لفظ { من } للوحدان، ومعناه يصلح للمذكر والمؤنث؛ والاثنين والجماعة؛ فعدل تارة إلى اللفظ وتارة للمعنى؛ ومنه قوله تعالى:
بلى من أسلم وجهه لله
[البقرة: 112] الآية،
ومن يقنت منكن لله ورسوله
[الأحزاب: 31] الآية.
[2.9]
قوله عز وجل: { يخادعون الله والذين آمنوا }؛ أي يخالفون الله ويكذبونه ويكذبون المؤمنين. ويخالفونهم في ضمائرهم وهم المنافقون. وأصل الخدع في اللغة الاختفاء؛ ومنه قيل للبيت الذي يخبأ فيه المتاع: مخدع؛ فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر. وقال بعضهم: أصل الخداع في اللغة: الفساد. وقال الشاعر:
أبيض اللون لذيذ طعمه
طيب الريق إذا الريق خدع
أي فسد، فيكون المعنى: مفسدون ما أظهروا بألسنتهم مما أضمروا في قلوبهم. وقيل: معناه: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:
صفحه نامشخص
فلمآ آسفونا انتقمنا منهم
[الزخرف: 55] أي آسفوا نبينا. وقوله تعالى:
الذين يؤذون الله ورسوله
[الأحزاب: 57] أي أولياء الله؛ لأن الله تعالى لا يؤذى ولا يخادع. وقد يكون المفاعلة من واحد كالمسافرة.
فإن قيل: ما وجه مخادعتهم الله؛ وهو لا يخفى عليه شيء؟ وما وجه مخادعة المؤمنين ومخادعة أنفسهم؟ قيل: المخادعة الإخفاء، يقال: انخدعت الضبية في جحرها. والله تعالى لا يخادع في الحقيقة، ولكن أطلق عليه اسم المخادعة لما فعلوا فعل المخادعين. ولو كان يصح لهم خداعهم لقال: يخدعون الله. وقيل: معناه: يخادعون رسول الله.
وأما مخادعة المؤمنين، فإظهارهم لهم الإسلام تقية؛ وقيل: إظهار الإسلام لهم ليكرموهم ويبجلوهم. وقيل: أظهروا لهم ذلك ليفشوا إليهم سرهم فينقلوه إلى أعدائهم . وأما مخادعة أنفسهم فضرر ذلك عليهم. قال الله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم }؛ لأن وبال الخداع عائد إلى أنفسهم فكأنهم في الحقيقة إنما يخدعون أنفسهم.
قوله تعالى: { وما يشعرون }؛ أي وما يعلمون أنه كذلك. والشعر: هو العلم الدقيق الذي يكون حادثا من الفطنة؛ وهو من شعار القلب؛ ومنه سمي الشاعر شاعرا لفطنته لما يدق من المعنى والوزن، ومنه الشعر لدقته. ويقال: ما شعرت به؛ أي ما علمت به. وليت شعري ما صنع فلان؛ أي ليت علمي.
واختلف القراء في قوله تعالى: { وما يخدعون } فقرأ نافع؛ وابن كثير؛ وأبو عمرو: (يخادعون) بالألف. وقرأ الباقون: (يخدعون) بغير ألف على أشهر اللغتين وأفصحهما؛ واختاره أبو عبيد. ولا خلاف في الأول أنه بالألف.
[2.10]
قوله عز وجل: { في قلوبهم مرض }؛ أي شك ونفاق، وسمي النفاق مرضا لأنه يهلك صاحبه؛ ولأنه يضطرب في الدين يوالي المؤمنين باللسان؛ والكفار بالقلب؛ فحاله كحال المريض الذي هو مضطرب بين الحياة والموت. وقيل: إن الشك؛ أي بالقول: ألم القلب، والمرض: ألم البدن. فسمي الشك مرضا لما فيه من الهم والحزن. وقيل: سمي النفاق مرضا؛ لأنه يضعف الدين واليقين كالمرض الذي يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك بالموت.
صفحه نامشخص
قوله تعالى: { فزادهم الله مرضا }؛ أي شكا ونفاقا وعذابا وهلاكا. والفاء في { فزادهم الله } بمعنى المجازاة. وقيل: على وجه الدعاء، { ولهم عذاب أليم }؛ أي موجع يخلص وجعه إلى قلوبهم؛ وهو بمعنى مؤلم. قوله تعالى: { بما كانوا يكذبون }؛ قال بعضهم: الباء في { بما } صلة؛ أي لهم عذاب أليم بكذبهم وتكذيبهم الله ورسوله في السر؛ فيكون (ما) مصدرية؛ والأولى إعمال الحروف. و(ما) وجد لها مساغ؛ أي بالشيء الذي يكذبون.
وفي قوله: { يكذبون } خلاف بين القراء، فقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف الذال؛ أي بكذبهم إذ قالوا: آمنا، وهم غير مؤمنين.
[2.11]
قوله عز وجل: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض }؛ قرأ الكسائي؛ ويعقوب؛ وهشام: { قيل } و { حيل } [سبأ: 54]، و { سيق } [الزمر: 71]، و { جيئ } ، و { سيء } [هود: 77] بإشمام الضمة. ومعنى الآية: وإذا قيل للمنافقين وقيل لليهود؛ أي إذا قال لهم المؤمنون: لا تفسدوا في الأرض بالكفر والمعصية والمداهنة وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، { قالوا إنما نحن مصلحون }؛ أي عاملون بالطاعة ومصلحون بالمداهنة؛ لأنهم كانوا يقولون: لا نعادي المؤمنين ولا الكفار؛ نداري هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا غلب أحد الفريقين لا يأتينا من دائرتهم شيء.
[2.12]
يقول الله تعالى: { ألا إنهم هم المفسدون } ، { ألا } كلمة تنبيه، والمعنى: ألا إنهم هم المفسدون بالمداهنة والعاملون بالمعصية، وقوله تعالى: { هم } عماد وتأكيد. قوله تعالى: { ولكن لا يشعرون }؛ أي لا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب. وقيل: لا يعلمون أنهم كذلك.
[2.13]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا كمآ آمن الناس }؛ أي إذا قيل للمنافقين: صدقوا كما صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، { قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء }؛ أي أنصدق كما صدق الجهال، يقول الله تعالى: { ألا إنهم هم السفهآء }؛ أي هم الجهال بتركهم التصديق في السر؛ { ولكن لا يعلمون }؛ أنهم جهال. وقيل: قالوا: أنصدق { كمآ } صدق الجهال بقول الله تعالى، { ألا إنهم }. وقيل: معناه: آمنوا كما آمن عبدالله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
والسفهاء: جمع سفيه، وهو البهات الكذاب المتعمد بخلاف ما يعلم. وقال قطرب: (السفيه: العجول الظلوم القائل خلاف الحق).
[2.14]
صفحه نامشخص
قوله عز وجل: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا }؛ قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: (كان عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقي سعدا قال: نعم الدين دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه من أهل الكفر قال: شدوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية).
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ قال: (نزلت هذه الآية في عبدالله ابن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبدالله لأصحابه: أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحبا بالصديق وسيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه، وقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الصادق القوي في دين الله عز وجل الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه؛ فقال: مرحبا يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي رضي الله عنه: اتق الله ولا تنافق؛ فإن المنافقين شر خليقة الله. فقال: مهلا يا أبا الحسن، والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. وفي رواية: والله إني مؤمن بالله ورسوله. ثم افترقوا، فقال عبدالله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه؛ وقالوا: لا نزال بخير ما عشت. فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: وإذا لقوا الذين آمنوا، أبا بكر وأصحابه؛ قالوا: آمنا كإيمانكم.
وقرأ محمد بن السميقع: (وإذا لاقوا) وهما بمعنى واحد، وأصل { لقوا }: لقيوا؛ فاستثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى القاف وسكنت الواو والياء، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى: { وإذا خلوا إلى شياطينهم }؛ أي مع شياطينهم؛ وهم رؤساؤهم في الضلالة. قال الأخفش: (كل عاق متمرد فهو شيطان). ومعنى { خلوا } أي جمعوا. ويجوز أن يكون من الخلوة؛ يقال: خلوت به وخلوت معه وخلوت إليه؛ كلها بمعنى واحد. قال ابن عباس: ((شياطينهم) رؤساؤهم وكبراؤهم وكهنتهم وهم خمسة نفر من اليهود). ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة؛ وأبو بردة في بني أسلم؛ وعبد الدار في جهينة؛ وعوف بن عامر في بني أسد؛ وعبدالله بن السوداء في الشام. والشيطان المتمرد العاتي من كل شيء؛ ومنه قيل للحية النصناص: شيطان؛ قال الله تعالى:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
[الصافات: 65] أي الحيات.
وقوله تعالى: { قالوا إنا معكم }؛ أي على دينكم وأنصاركم، قوله عز وجل: { إنما نحن مستهزئون }؛ أي بمحمد وأصحابه بإظهار قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
[2.15]
قوله عز وجل: { الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون }؛ أي يجازيهم على استهزائهم فسمى الجزاء باسم الابتداء؛ إذ كان مثله في الصورة؛ كقوله تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
صفحه نامشخص
[الشورى: 40] فسمى جزاء السيئة سيئة. وقال تعالى:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
[البقرة: 194] والثاني ليس باعتداء.
قوله تعالى: { ويمدهم في } أي يمهلهم ويتركهم في ضلالتهم يتحيرون؛ يقال: مد في الشر؛ ويمد في الخير؛ وقال يونس: (المد الترك؛ والإمداد في معنى الإعطاء). وقيل: مده وأمده بمعنى واحد. وقال الأخفش: ( { ويمدهم } أي يمد لهم؛ فحذف اللام). والطغيان: مجاوزة الحد؛ يقال: طغى الماء إذا جاوز حده؛ وقيل لفرعون:
إنه طغى
[طه: 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24].
وقرأ ابن محيصن: (ويمدهم) بضم الياء وكسر الميم؛ وهما لغتان. إلا أن المد أكثر ما يجيئ في الشر، قال الله تعالى:
ونمد له من العذاب مدا
صفحه نامشخص
[مريم: 79]، والإمداد في الخير قال الله تعالى:
ويمددكم بأموال وبنين
[نوح: 12]، وقال تعالى:
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين
[المؤمنون: 55]. وقيل: معنى { الله يستهزىء بهم } أي يوبخهم ويغبيهم ويجهلهم. وقيل: معناه: الله يظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عباس: (هو أن يطلع الله المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبون أن تدخلوا الجنة؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم باب إلى الجنة ويقال لهم: ادخلوا، فيأتون يتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم وردوا إلى النار؛ ويضحك المؤمنون منهم. فذلك قوله تعالى:
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * ومآ أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون
[المطففين: 29-34].
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يؤمر بناس من المنافقين إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعد الله لأهلها من الكرامة، نودوا أن اصرفوهم عنها؛ فيرجعون بحسرة وندامة لم ترجع الخلائق بمثلها؛ فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا؟ فيقول الله تعالى: هذا الذي أردت بكم؛ هبتم الناس ولم تهابوني؛ أجللتم الناس ولم تجلوني؛ كنتم تراءون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم تروني من قلوبكم، فاليوم أذيقكم من عذابي ما حرمتكم من ثوابي ".
صفحه نامشخص
فإن قيل: لم أمر الله تعالى بقتال الكفار المعلنين الكفر ولم يأمر بقتال المنافقين وهم في الدرك الأسفل من النار؛ وخالف بين أحكامهم وأحكام الكفار المظهرين الكفر وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث والأنكحة وغيرها؟ قيل: عقوبات الدنيا ليست على قدر الإجرام؛ وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح؛ ولهذا أوجب رجم الزاني المحصن ولم يزل عنه الرجم بالتوبة؛ والكفر أعظم من الزنا ولو تاب منه قبلت توبته. وكذلك أوجب الله على القاذف بالزنا الجلد ولم يوجبه على القاذف بالكفر؛ وأوجب على شارب الخمر الحد ولم يوجبه على شارب الدم.
[2.16]
قوله عز وجل: { أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى } أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى؛ واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسعا؛ لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال والاختيار؛ لأن كل واحد من المتبايعين يختار ما بيد صاحبه على ما في يده. قوله عز وجل: { فما ربحت تجارتهم }؛ أي فما ربحوا في تجارتهم؛ تقول العرب: ربح بيعك وخسرت صفقتك؛ ونام ليلك؛ توسعا. قال الله تعالى:
فإذا عزم الأمر
[محمد: 21]. وقرأ ابن أبي عبلة: (فما ربحت تجاراتهم) على الجمع. وقوله تعالى: { وما كانوا مهتدين }؛ أي من الضلالة؛ وقيل: معناه وما كانوا مصيبين في تجارتهم.
[2.17]
قوله تعالى: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا }؛ أي مثل المنافقين في إظهارهم الإسلام وحقنهم دماءهم وأموالهم كمثل رجل في مفازة في ليلة مظلمة يخاف السباع على نفسه، فيوقد نارا ليأمن بها السباع، { فلمآ أضآءت } ، النار، { ما حوله } المستوقد؛ طفئت. فبقي في الظلمة؛ كذلك المنافق يخاف على نفسه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيسلم دماء الناس فيحقن دمه، ويناكح المسلمين فيكون له نور بمنزلة نور نار المستوقد؛ فإذا بلغ آخرته لم يكن لإيمانه أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله، سلب نور الإيمان عند الموت فيبقى في ظلمة الكفر، نستعيذ بالله. وقوله تعالى: { استوقد } يعني أوقد، قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقوله تعالى: { كمثل الذي } بمعنى (الذين) دليله سياق الآية؛ ونظيره قوله تعالى:
صفحه نامشخص
والذي جآء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون
[الزمر: 33]. فإن قلت: كيف يجوز تشبيه الجماعة بالواحد؟ قلت: لأن (الذي) اسم ناقص، فيتناول الواحد والاثنين ك (من) و (ما)، وفي الآية ما يدل على أن معناه الجمع، وهو قوله تعالى: { وتركهم }. وقد يجوز تشبيه فعل الجماعة بفعل الواحد مثل قوله تعالى:
أتدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت
[الأحزاب: 19]. وقوله تعالى: { أضآءت } يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا، وأضاء يضيء إضاءة؛ وإضاءة غيره يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: (ضاءت) بغير ألف؛ و { حوله } نصب على الظرف.
قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم }؛ أي أذهب الله نورهم. وإنما قال: { بنورهم } والمذكور في أول الآية النار؛ لأن النار فيها شيئان: النور والحرارة؛ فذهب نورهم؛ وبقي الحرارة عليهم، { وتركهم في ظلمت لا يبصرون }.
وفي بعض التفاسير: قال ابن عباس؛ وقتادة والضحاك: (معنى الآية: مثلهم في الكفر ونفاقهم كمن أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء به، واستدفأ ورأى ما حوله، فاتقى ما يحذر ونجا مما يخاف وأمن؛ فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره؛ فبقي مظلما خائفا متحيرا؛ فكذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها واعتزوا بعزها، فناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على أموالهم وأولادهم؛ فإذا ماتوا عادوا في الظلمة والخوف وبقوا في العذاب والنقمة).
[2.18]
وقوله تعالى: { صم بكم عمي }؛ أي هم صم عن الهدي لا يسمعون الحق، بكم لا يتكلمون بخير؛ عمي لا يبصرون الهدي؛ أي بقلوبهم كما قال الله تعالى:
وترهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
[الأعراف: 198]. وقيل: معناه صم يتصامون عن الحق؛ بكم يتباكمون عن قول الحق؛ عمي يتعامون عن النظر إلى الحق؛ يعني الاعتبار. وقرأ عبدالله: (صما بكما عميا) بالنصب على معنى وتركهم كذلك. وقيل: على الذم، وقيل: على الحال. وقوله تعالى: { فهم لا يرجعون }؛ أي من الضلالة والكفر إلى الهدى والإيمان.
صفحه نامشخص
[2.19]
قوله عز وجل: { أو كصيب من السمآء فيه ظلمت ورعد وبرق }؛ هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لهم أيضا؛ معطوف على المثل الأول؛ أي مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ومثلهم أيضا كصيب. قال أهل المعاني: { أو } بمعنى الواو؛ يريد (وكصيب) كقوله:
أو يزيدون
[الصافات: 147] وأنشد الفراء:
وقد علمت سلمى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
أي: وعليها فجورها.
ومعنى الآية: مثل المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن { كصيب } أي كمطر نزل { من السمآء } ليلا على قوم في مفازة { فيه ظلمت ورعد وبرق } كذلك القرآن نزل من الله، { فيه ظلمت } أي بيان الفتن وابتلاء المؤمنين بالشدائد في الدنيا، { ورعد } أي زجر وتخويف، { وبرق } أي تبيان وتبصرة. فجعل أصحاب المطر أصابعهم في آذانهم من الصواعق مخافة الهلاك، كذلك المنافقون كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم من بيان القرآن ووعده ووعيده وما فيه من الدعاء إلى الجهاد مخافة أن يقتلوا في الجهاد. ويقال: مخافة أن تميل قلوبهم إلى ما في القرآن.
وعن الحسن أنه قال: (في الآية تشبيه الإسلام بالصيب؛ لأن الصيب يحيي الأرض، والإسلام يحيي الكفار. قال الله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه
صفحه نامشخص