تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة
تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة
ژانرها
[2.24]
{ فإن لم تفعلوا } اتى بأداة الشك مع انه تعالى عالم بعدم الاتيان مراعاة لحال المخاطبين لانهم فى اول التحدى كانوا شاكين فى امكان المعارضة وعدمه ولذا اتى بجملة معترضة مخبرة عن نفى الاتيان بالنفى التأبيدى حتى لا يتوهم متوهم امكانه فقال { ولن تفعلوا } وأبدل عن الاتيان المقيد بالسورة من مثله ودعاء الشهداء من دون الله بالفعل الذى يكنى به عن الكل ايجازا وحذرا من التكرار والحذف ونظم الكلام مشتملا على بيان المراد ان يقال ان كنتم فى ريب من القرآن وانه منزل من عند الله، او ان انكرتم القرآن وانه منزل من عند الله وقلتم ان محمدا (ص) تقوله من عند نفسه او تعلمه من بشر مثله فان كنتم صادقين فى دعوى الريب من أنفسكم او فى انكار القرآن واقرار تقوله من عند البشر يجز لكم الاتيان بمثله وخصوصا من الخطباء البلغاء مع تعاون الشهداء، فأتوا لمعارضته وابطال حقيته وابطال دعوى رسالة الآتى به بسورة من مثله
وادعوا شهدائكم من دون الله
، فان المراد بتعليق الجزاء فى مثل مقام التحدى والتعجيز تعليق جواز الجزاء وامكانه حتى يرتفع برفع فعليته امكانه وجوازه، فان لم تقدروا على ان تأتوا بسورة مثله مع تعاون الشهداء واهتمامكم وجهدكم فى معارضته وابطاله تعلموا صدقه، والاعتراض بجملة لن تفعلوا دليل ايضا على ان المراد نفى الامكان والقدرة فلا يرد عليه أن عدم الفعل لعله لعدم الاعتناء بالمعارضة لا لعدم القدرة حتى يستلزم صدق القرآن وصدق الآتى به، واذا علمتم صدق القرآن وصدق الآتى به { فاتقوا النار } فهو من اقامة المسبب مقام الجزاء والمعنى فاتقوا مخالفتهما التى هى سبب لدخول النار فهو أيضا من اقامة المسبب مقام السبب، او فاتقوا بسبب متابعتهما النار { التي وقودها } التوصيف للتهويل وتأكيد التحذير، والوقود بالفتح اسم مصدر لما يوقد به النار وبالضم مصدر، وقيل الوقود بالفتح مصدر وبالضم اسم للمصدر وقرء بالضم فان كان مصدرا كان التقدير سبب وقودها { الناس والحجارة } او وقودها احتراق الناس والحجارة والاول ابلغ فى مقام التهويل لانه يدل على أن نار الآخرة فى الشدة بحيث يكون ما توقد به الناس والحجارة الذين لا يتأثران الا بالنار الموقدة الشديدة، والحجارة جمع الحجر كالجمالة جمع الجمل وهو قليل غير مقاس { أعدت للكافرين } حال بتقدير قد او مستأنف لجواب سؤال عن حالها.
[2.25]
{ وبشر } عطف على الجملة السابقة باعتبار المعنى كأنه قيل أنذر الذين أنكروا القرآن بعد وضوح حجيته بالنار وبشر { الذين آمنوا } اى أقروا بالقرآن وأذعنوا به او آمنوا بالله بالايمان العام او بالايمان الخاص المستلزم كل واحد منهما الاقرار بحقية القرآن او عطف على قوله: { اتقوا النار }؛ فان وضوح حقيته كما يستلزم تهديد منكره يستلزم تبشير مقره كأنه قال فان لم تفعلوا فاتقوا النار { وبشر الذين آمنوا } ، والخطاب خاص بمحمد (ص) او عام لكل من يتأتى منه الخطاب { وعملوا الصالحات } ان كان المراد بالايمان الايمان العام فالمقصود من العمل الصالح الايمان الخاص الذى يحصل بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة، وان كان المراد بالايمان الايمان الخاص فالمراد بالعمل الصالح الاتيان بما أخذ عليه فى ميثاقه والوفاء بعهده { أن لهم } بأن لهم { جنات } جمع الجنة وهى البستان { تجري من تحتها الأنهار } من تحت أشجارها، او من تحت عماراتها، او من تحت قطعها، والانهار جمع النهر والنهر فوق الجدول ودون البحر { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا } الجملة صفة بعد صفة او حال عن الضمير المجرور باللام او عن الجنات او مستأنفة لبيان حالهم وحال ما فى الجنات، والرزق اسم مصدر بمعنى المرزوق وهو أعم مما يستكمل به البدن من الرزق النباتى الذى يدخل من طريق الفم الى المعدة، ومنها الى الكبد، ومنه الى الاوردة، ومنها الى الاعضاء، والرزق النباتى الحقيقى هو الذى يدخل فى خلل الاعضاء بدلا عما يتحلل منها وباقى المراتب السابقة قوالب لهذا الرزق كما ان البساتين محال للاثمار، ومن الرزق الحيوانى الذى يدخل من طريق المدارك الحيوانية الى القلب او من طريق المحركة اليه فان اعضاء السبعية والحيوانية مقتضياتها تؤثر فى القلب اعنى الخيال، وكلما يؤثر فى القلب من الملذات والمؤلمات كما يؤثر فى الروح يؤثر فى البدن، ومما يستكمل به الروح من الرزق الحيوانى ومن الرزق الانسانى الذى هو العلم الباعث على العمل، والعمل المورث للعلم، وقوله تعالى: { منها }؛ ظرف لغو متعلق برزقوا، ولفظ من ابتدائية فان فى رزقوا معنى الاخذ وهو يقتضى الوصول الى المفعول بمن، ومن ثمرة بدل منه بدل الاشتمال وهذا اولى مما قاله الزمخشرى والبيضاوى فى اعرابهما من جعلهما حالين متداخلين من رزقا، ولفظ ثمرة لكونه بعد كلما يقتضى العموم البدلى، ورزق الجنة ليس كالرزق النباتى لعدم الحاجة هناك الى بدل ما يتحلل ولعدم اشتماله على الثفل المحتاج الى الدفع { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } اى فى الدنيا.
اعلم ان كل ما فى الدنيا من السماويات والارضيات صور وأظلال لما فى الآخرة، وما فى الآخرة حقائق لما فى الدنيا فالعناصر ومواليدها والافلاك وكواكبها حقائقها فى الجنة وليس فى الجنة شيئ الا وظلها فى هذا العالم، ولما كان شيئية الشيئ وشخصية الشخص بحقيقته لا بصورته وظله فكلما رأى المؤمنون فى الجنة علموا أنه الذى رأوه فى الدنيا لكنه فى الدنيا مشوب بنقائص المواد وأعدامها وظلماتها وفى الآخرة مصفى عن ذلك فكلما رأوه من الاثمار قالوا: هذا الذى رزقنا من قبل فى الدنيا، ويحتمل ان يكون الكلام على الاستفهام الانكارى التعجبى يعنى بعد ما رأوا الرمانة الاخروية مثلا، متفاوتة مع الرمانة الدنيوية تفاوتا عظيما فى الشكل واللون والطعم ورأوا أنها هى الرمانة التى رأوها فى الدنيا تعجبوا واستغربوا ذلك التفاوت العظيم وأظهروا كونها من جنس الرمانة التى كانت فى الدنيا فى معرض الانكار، ويحتمل ان يكون المراد من قبل هذه المرة فى الجنة فان ثمار الجنة متشابهة فى الصفاء عن الكدورات والاثفال وفى غاية اللطافة واللذة وطيب الرائحة وعدم ثقل الجسد بأكلها ومتوافقة غير مختلفة فى كون بعضها نيا وبعضها نضيجا وبعضها متجاوزا حد النضج وبعضها معيبا كما ان ثمار الدنيا كذلك وبهذا التشابه والتوافق يصح حمل: الذى رزقنا من قبل؛ على هذا بحمل هو هو مثل زيد أسد { وأتوا به } بجنس الرزق او بجنس ثمر الجنة { متشابها } بعض افراده مع بعض وقد مضى وجه التشابه { ولهم فيهآ أزواج } جمع الزوج يستوى فيه الذكر والانثى والجمعية بالنسبة الى المجموع او بالنسبة الى كل فرد { مطهرة } من المادة ونقائصها مما يستقذر من النساء من الاخبثين والدماء ومما يذممن عليه من الرذائل { وهم فيها خالدون } ذكر تعالى من النعم أصولها فى الانظار الحسية وهى المساكن والمطاعم والمناكح وكمالها وهو دوامها فان النعمة وان كانت جليلة لكنها مع خوف الزوال منغصة.
[2.26]
{ إن الله لا يستحيى } الحياء قوة رادعة عن اظهار القبيح ومخجلة حين ظهوره وقد يطلق على اثرها الظاهر منها على الاعضاء كسائر السجايا، والاستحياء للمبالغة لا للطلب او للطلب باعتبار ان المستحيى كأنه يطلب الحياء من نفسه، ونسبة الحياء والاستحياء الى الله تعالى ليس بمعنى نسبته الى الخلق كسائر ما يقتضى انفعالا وتغييرا حين نسبتها الى الخلق وطرفا تفريطه وافراطه الخجل عن ظهور الفعل وعدم الاقتدار على الفعل حين اطلاع الخلق عليه مطلقا حسنا كان الفعل او قبيحا وعدم المبالاة بظهور الفعل حسنا كان او قبيحا { أن يضرب مثلا ما } ان يقرع الاسماع بمثل والمثل امر ظاهر يشبهه امر خفى يذكر لبيان حال ذلك الامر الخفى، وضربه عبارة عن اجرائه وذكره، ولفظة { ما } وصفية ابهامية { بعوضة } وقرئ بعوضة بالرفع وعليها فلفظة ما يحتمل كونها موصولة وموصوفة بحذف صدر الصلة وصدر الصفة واستفهامية { فما فوقها } فى الحقارة او فى الجثة والكبر وهذا رد لانكارهم عليه تعالى التمثيل بالذباب والعنكبوت وغير ذلك لان الجهال يستنكفون من التوجه الى امثال تلك الحقار والله لا يستنكف من التمثيل بها فان الحقير من هذه حقير فى أنظار الجهال لا فى أنظار العقلاء فان ذوات النفوس الحيوانية وان كانت اصغر ما يكون خصوصا ما تم له المدارك الحيوانية، فيها من دقائق الحكم ولطائف الصنع ما لا يحصيها الا الله فان البعوضة من أدرك من دقائق الحكم ولطائف الصنع التى اودعها الله فيها عشرا من أعشارها لا يستنكف من التمثيل بها ولا يستغرب تمثيل الفيل بها، وعن الصادق (ع) انما ضرب الله المثل بالبعوضة لانها على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق الله فى الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله ان ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه، واشار (ع) بقوله: وزيادة عضوين آخرين؛ الى جناحيها ورجليها الزائدتين على الفيل فان للفيل اربع أرجل ولها ست أرجل، ولما جعلوا انكارهم التمثيل بالامثال المذكورة فى الكتاب مشعرا بانكار كونها من الله ودليلا عليه قال تعالى:
{ فأما الذين آمنوا } بالايمان العام او الخاص وأقروا برسالة الرسول ونزول الوحى وتنزيل الكتاب { فيعلمون أنه } اى المثل المضروب { الحق } يعنى يعلمون ان المثل حق لا باطل يعنى منزل من الله لا مختلق من النفس ولذا أتى بقوله { من ربهم } للبيان خبرا بعد خبر او حالا او ظرفا لغوا متعلقا بالحق { وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله } الاستفهام ونسبة الارادة الى الله تعالى للاستهزاء والتهكم وكان المناسب للقرين السابق ان يقول واما الذين كفروا فلا يعلمون انه الحق لكنه عدل الى هذا لافادة هذا المعنى مع شيئ زائد وهو التهكم والاستهزاء { بهذا مثلا } تميز من هذا او حال منه او حال من محذوف اى نذكر هذا حال كونه مثلا والا فالمقصود ماذا اراد بجملة الامثال وجملة القرآن { يضل به كثيرا } جمعا كثيرا او اضلالا كثيرا جواب من الله لاستفهامهم تعليما لنبيه (ص) ان يجيبهم بمثله او مقول قولهم حالا او مستأنفا وحينئذ فقوله تعالى { ويهدي به كثيرا } اما من قولهم او من قول الله كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بهذا حال كونه يضل به كثيرا من الناس وان كان يهدى به كثيرا، او قال الله عطفا على قولهم للرد عليهم ويهدى به كثيرا { وما يضل به إلا الفاسقين } يعنى فيه هداية اناسى كثيرين وليس اضلاله الا لمن لا رجاء خير فيه فخيره كثير وضره لا يعبأ به.
صفحه نامشخص