[العلق: 1] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن) فهو سبحانه الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه، فباسمه إذن يكون كل ابتداء، وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.
وإذا كان البدء باسم الله، وما ينطوي عليه من توحيد لله، وأدب معه، يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي، فإن استغراق معاني الرحمة في صفتي (الرحمن الرحيم) يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد وعقب البدء ب { بسم الله الرحمن الرحيم } يجيء التوجه إلى الله بالحمد، ووصفه بالربوبية المطلقة، يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله، والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن، فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية، وفي كل لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله، وتغمر الخلائق كلها، وبخاصة هذا الإنسان.
والربوبية المطلقة: هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة، لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة.
وتبدو العقيدة الإسلامية: في كمالها وتناسقها رحمة.. رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.
ثم تأتي هذه الصفة { الرحمن الرحيم } التي تستغرق كل معاني الرحمة، وحالاتها ومجالاتها، تتكرر هنا في صلب السورة في آية مستقلة لتؤكد تلك الربوبية الشاملة، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه، وبين الخالق ومخلوقاته.. إنها صلة الرحمة والرعاية، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.
والتعبير بقوله: { ملك يوم الدين } يمثل الكلية الضخمة، العميقة التأثير، كلية الاعتقاد بالآخرة. والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة هامة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر، وهو مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال، وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع، ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر، وما لم يثق الفرد المحدود بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها وأن يضحي في سبيلها. وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور، ولا خلق، ولا سلوك، ولا عمل، فهما صنفان مختلفان من الخلق، وطبيعتان متميزتان، لا تلتقيان في الأرض في عمل، ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء.. وهذا هو مفرق الطريق.
وقوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة، فلا عبادة إلا لله، ولا استعانة إلا بالله.
وهنا كذلك مفرق طريق.. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد، وهي تعلن ميلاد التحرر البشري، الكامل الشامل.
ولقد درج (الغربيون) على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: " قهر الطبيعة " ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية، المقطوعة الصلة بالله، وبروح الكون المستجيب لله، فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين، فيؤمن بأن هناك علاقة أخرى، غير علاقة القهر والجفوة، إنه يعتقد بأن الله هو مبدع هذه القوى جميعا، خلقها كلها وفق ناموس واحد، وسخرها للإنسان ابتداء، ويسر له كشف أسرارها، ومعرفة قوانينها، وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها، فالله هو الذي يسخرها وليس هو الذي يقهرها
وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعا منه
صفحه نامشخص