Tafsir al-Uthaymeen: Surah
تفسير العثيمين: ص
ناشر
دار الثريا للنشر والتوزيع
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م
محل انتشار
الرياض - المملكة العربية السعودية
ژانرها
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن من توفيق الله ﷾ أن يسَّر لفضيلة شيخنا -تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه- تفسير سورة "صَ" في دروسه العلمية التي كان يعقدها رحمه الله تعالى بالجامع الكبير في مدينة عنيزة.
وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى فضيلة الشيخ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، أثابه الله، بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر، وتخريج أحاديثه وآثاره، فجزاه الله خيرًا.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.
وصلىّ الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
1 / 5
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)﴾ قال المؤلف (^١) -رحمه الله تعالى-: [سورة (ص) مكية] والقرآن الكريم مكي ومدني، وأصح الأقوال في تمييز المكي من المدني: أن ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعدها فهو مدني وإن نزل في غير المدينة، فالحد الفاصل زمني وليس مكاني، فما بعد الهجرة مدني وما قبلها مكي.
قال: [ستٌّ أو ثمانٌ وثمانون آية] والآيات هي عبارة عن الفواصل التي تكون بين جملة أو جملتين فأكثر، وسُمِّيت آية لأنها
_________
(^١) أخي الكريم: إذا مر بك: قال المؤلف، فالمراد به جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المحلي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة ٨٦٤ هـ. في تفسيره المسمى "تفسير الجلالين"، وقد جعلت كلامه ﵀ بين معكوفتين هكذا [].
1 / 7
معجزة، فإن القرآن -كما سبق- قد تحدى اللهُ فيه الناسَ أن يأتوا بحديث مثله وإن قَلَّ.
قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ هذه البسملة آية من كتاب الله يؤتى بها في ابتداء كل سورة إلا سورة براءة فإنه لا يؤتى بها، وذلك أن الصحابة ﵃ لما كتبوا المصحف أشكل عليهم هل براءة بقية الأنفال. أو هي سورة مستقلة؟ فوضعوا فاصلًا دون بسملة؛ لأنه لو جزموا بأنها من الأنفال لم يضعوا فاصلًا، ولو جزموا بأنها مستقلة لوضعوا البسملة، ولكن هذا الاجتهاد منهم نعلم أنه هو المطابق للواقع، وأنهم مصيبون فيه قطعًا، وذلك لأن البسملة لو نزلت بين الأنفال وبراءة لبقيت، لأن الله يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [الحجر: ٩] فلما لم تبق باجتهادٍ من الصحابة عُلِم أنهم كانوا مصيبين للواقع.
والبسملة جار ومجرور، ومضاف إليه، وصفة، أي: نعت. والقاعدة النحوية: أن كل جار ومجرور لا بد له من متعلَّق، أي: من شيء يتعلق به، والشيء الذي يتعلق به الجار والمجرور هو العامل، والجار والمجرور معمول، ولهذا قال ناظم الجمل:
لا بد للجار والمجرور من التعلّق ... بفعل أو معناه نحو مرتقي
واستثنى كل زائد له عمل ... كالباء ومن والكاف أيضًا ولعل
1 / 8
فكل حرف أصلي غير زائد فلا بد له من متعلق بفعل، أو بما كان بمعنى الفعل، كاسم الفاعل واسم المفعول. إذًا البسملة لا بد لها من متعلَّق، فما هو هذا المتعلَّق؟ أصح ما قيل في متعلَّق البسملة أنه فعل متأخر مناسب للمقام، فإذا كنت تريد أن تقرأ كان التقدير بسم الله أقرأ، وإذا أردت أن تأكل كان التقدير بسم الله آكل، وإذا أردت أن تذبح ذبيحة كان التقدير بسم الله أذبح. ولهذا قال الرسول ﷺ وهو يخطب في الناس يوم النحر: "من لم يذبح فليذبح باسم الله" (^١) وإنما ويقدّر فعلًا لأن الأصل في العمل هو الفعل، ولذلك يعمل في معموله بدون شرط، وأما اسم الفاعل واسم المفعول واسم التفضيل والمصدر فلا يعمل إلا بشرط.
ونقدِّره متأخرًا فنقول: بسم الله أقرأ لسببين:
السبب الأول: التبرك بالبداءة باسم الله.
والسبب الثاني: إفادة الحصر، لأن تأخير العامل يفيد الحصر، فإن من طرق الحصر: تقديم ما حقه التأخير، وقدرناه مناسبًا للمقام؛ لأنه أدلّ على المقصود مما لو قدرناه فعلًا عامًّا كما لو قيل: إن التقدير باسم الله أبتدئ، أو بسم الله أبدأ؛ لأن بسم الله أبدأ أو أبتدئ لم تعين الفعل الذي ابتدأت به، فالحاصل أننا نقدر المتعلَّق في البسملة أنه فعل متأخر مناسب للمقام.
_________
(^١) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد (٩٨٥)، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها (١٩٦٠).
1 / 9
الفوائد:
١ - من فوائد هذه الآية: أنه ينبغي الابتداء بها في الأمور الهامة، ولهذا يبتدئ الله بها كل سورة إلا براءة، ومن المعلوم أن السورة من الأمور الهامة، وجاء في الحديث عن الرسول ﷺ أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" (^١) والحديث حسن.
٢ - ومن فوائدها: إثبات الألوهية لله في قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾.
٣ - ومن فوائدها: إثبات أسماء الله لقوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ وهذا مفرد مضاف فيعم كل اسم لله ﷿، ولهذا يفسرها بعض المفسرين بقولهم: أي: بكل اسم من أسماء الله أبتدئ.
٤ - ومن فوائدها: التبرك بذكر اسم الله ﷿، فتكون أسماء الله مما يدعى الله به لقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٨٠] ومما يتبرك به ويستعان به؛ لأنها تقدم بين يدي الأمور الهامة.
وإذا أردت أن تعرف مدى بركة هذه التسمية فانظر إلى الذبيحة يُسمّى عليها فتكون طيبة حلالًا، ولا يسمّى عليها فتكون خبيثة حرامًا مع أن الذابح واحد، والآلة المذبوح بها واحدة، ومكان الذبح واحد، وإنهار الدم واحد، كل شيء واحد، لكن لما فقدت التسمية صارت خبيثة ميتة لا يحل أكلها، فإذا سُمِّي عليها صارت طيبة.
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" ١٤/ ٣٢٩ (٨٧١٢)، وأبو داود (٤٨٤٠).
1 / 10
وإذا أتى الرجل أهله فقال: "بسم الله اللهم جَنِّبْنا الشيطانَ، وجَنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه، إنْ يقدر بينهما ولد في ذلك لم يَضُرَّه الشيطانُ أبدًا" (^١) وإنْ لم يُسمِّ بهذه التسمية كان عُرْضَة لأن يصاب ولده بالشيطان ويضر به.
٥ - من فوائد الآية الكريمة: إثبات الرحمة لله في قوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وأنها رحمة واسعة لقوله: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ لأن الرحمة صفة تدل على السعة والامتلاء.
٦ - ومنها: إثبات الأسماء الثلاثة لله، وهي: الله والرحمن والرحيم.
* * *
قال الله ﷿: ﴿ص﴾ قال المؤلف: [الله أعلم بمراده به] وذلك لأن كلمة (ص) حرف هجائي لا يدل على معنى في اللغة العربية، فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذه الحروف الهجائية التي ابتُدِئتْ بها بعضُ السور رموز إلى معاني، وعيَّنها كل إنسان بما يرى أنه مناسب. وذهب آخرون إلى أنها أسماء من أسماء الله، أو من أسماء الرسول ﷺ، وذهب آخرون إلى ما ذهب إليه المؤلف، بأنها مجهولة المعنى، لا ندري ما معناها، ولكن القول الراجح ما ذهب إليه إمام المفسرين في عهده مجاهد ﵀ أن نقول: ليس لها معنى، وذلك لأن الله تعالى يقول: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٣]، واللسانُ العربي لا
_________
(^١) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (١٤٣٤).
1 / 11
يُثبِت معنىً لهذه الحروف الهجائية، وعلى هذا فتكون هذه الحروف الهجائية مثل ن، ق، ص، الم وما أشبهها ليس لها معنى في اللغة العربية، إذًا ليس لها معنى في القرآن، لأن القرآن باللغة العربية. ولكن يشكل على هذا القول مع رجحانه أنه يقتضي أن يكون في القرآن كلمات لغو ليس منها فائدة!
والجواب عن هذا أن نقول: هي ليست لغوًا في سياقها، فإنها جاءت لمغزىً عظيمٍ، وهذا المغزى أن هذا القرآن العظيم الذي أعجز فصحاء اللغة وأمراء البيان لم يكن بحروف غير مألوفة عندهم حتى يقولوا: لا نعرف هذه الحروف، بل كان بالحروف التي يتكون منها كلامهم.
قال الذين ذهبوا هذا المذهب: ودليل ذلك أنك لا تكاد ترى سورة مبدوءة بحرف هجائي إلا وجدتَ بعد هذا الحرف ذكر القرآن ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١ - ٢]، ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: ٢]، ﴿المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: ١]، فكل سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية يأتي بعد الحروف الهجائية ذكرُ القرآن، ما عدا قوله تعالى: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ١ - ٣]، و﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ
1 / 12
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١ - ٢]، ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأن يُقال:
أما قوله: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ فلأنه ذكر صفة عظيمة من صفات مَن تمسك بالقرآن وهي الصبر على الأذى في ذات الله.
وأما الثانية: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ فقد ذكر شيئًا من خصائص الوحي، وهو علم الغيب، فإن كون الروم غُلِبت الآن وستَغلِب في بضع سنين، من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله ﷿، وهو من خصائص الوحي، وسواء كان هذا الجواب سديدًا مقبولًا أم لم يكن، فإن النادر لا حكم له.
قال الله تعالى: ﴿ص﴾ نقول فيها: "ص" حرف هجائي ليس له معنى، لكن جيء به للإشارة إلى أن هذا القرآن الكريم الذي أعجز العرب كان من هذه الحروف التي يتركب منها كلامهم.
﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ الواو هنا: حرف قسم ولهذا جَرَّت الكلمة التي بعدها "القرآن". والواو حرف قسم لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، ولا يُذكر معها فعل القسم، بخلاف باء القسم، فإنها تدخل على الاسم الظاهر، وعلى الضمير، ويُذكر معها فعل القسم، ويحذف، وتدخل على كل اسم. قال الله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٠٩] فذكر معها فعلُ القسم. وتقول: ربي به لأفعلنَّ، أو أقسم به لأفعلن، فهنا دخلت على الضمير. أما التاء فهي أخص أدوات القسم، لا تدخل إلا على لفظ الجلالة "الله"،
1 / 13
ولا يُذكر معها فعلُ القسم. وقيل: تدخل على لفظ الجلالة "الله" وعلى "ربّ" قال ابن مالك: والتاءُ لله وربِّ، وأكثر ما يقسم اللهُ به الواو، وذلك لأنها الأكثر على الألسن، فجاءت الأكثر في القرآن. ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ ذي بمعنى صاحب، وهي مجرورة، لكنها مجرورة بالحرف نيابة عن الكسرة، وقوله: ﴿ذِي الذِّكْر﴾ قال المؤلف: [أي: البيان أو الشرف] يعني أن القرآن ذو ذكر، أي: ذو بيان للناس، يُذكِّرهم ويتذكَّرون به، أو ذو شرف لشرفه وشرف من يعمل به. قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: ٤٤] فهو ذكر: يُذْكَرُ به ما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم. وذكر: يتذكَّر به الناس ويتعظون به، وهو أعظم موعظة. وذكر: أي شرف لمن تمسك به.
قال المؤلف: [وجواب هذا القسم محذوف، إنما قال المؤلف: وجواب هذا القسم؛ لأنه ما من قسم إلا وله جواب. إذ إن القسم أركانه أربعة: مُقْسِم، ومُقْسَم به، ومُقْسَم عليه، وصيغة. فكل قَسَم لا بد فيه من هذه الأركان، والمقسم عليه هو جواب القسم إذن لا بد لكل قسمٍ من جواب، والجواب إن كان مذكورًا فهو معلوم، وإن كان محذوفًا فيعيّنه السياق. قال تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾ [النور: ٥٣] الجواب هنا مذكور ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧] مذكور، جواب القسم ﴿لَتُبْعَثُنَّ﴾.
وفي هذه الآية قد وجد المُقْسَم به والصيغة ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ والمُقْسِم هو الله ﷿. بقي المُقْسَم عليه، وهو جواب القسم.
1 / 14
يقول المؤلف: [إنه محذوف، وتقديره ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدّد الآلهة] وحسب هذا التقدير يكون جواب القسم جملة منفية: ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدّد الآلهة، لكن الأمر أن الإله واحد، وهو الله، وهذا التقدير الذي ذكره المؤلف لا يتعيَّن، يعني لو قال قائل: التقدير والقرآن ذي الذكر إن إلهكم لواحد. لو قال قائل هكذا، حصل به ما حصل من قول المؤلف: ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة.
وذهب بعض العلماء إلى أن مثل هذا القسم لا يحتاج إلى جواب؛ لأن جوابه معلوم منه كقوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ [القيامة: ١ - ٣]، وقوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: ١ - ٥]، جواب القسم محذوف، فيكون المُقْسَم به متضمنًا للجواب، كيف يكون متضمنًا للجواب في هذه الجملة القسمية ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾؟ يعني أنكم قد ذُكِّرتم بهذا القرآن الذي من جملة ما ذَكَّر به أن الله واحد، ولهذا ذهب ابن القيم ﵀ في كتابه "التبيان في أقسام القرآن" إلى أن القسم أحيانًا لا يحتاج إلى ذكر الجواب، بل ولا يحتاج إلى تقديره؛ لأنه يعلم من السياق المُقْسَم عليه.
قال الله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢)﴾ بَلِ: هنا للإضراب، والإضراب نوعان: إبطالي وانتقالي، فالإبطالي إبطال لما قد سبق كأنه مسحه وأتى ببدله، والانتقالي إقرار لما سبق لكن انتقل من شيء إلى آخر، وما قبل هذا الإضراب يبقى كما هو لا يبطل.
1 / 15
قال المؤلف: [﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة] وتقييد المؤلف للذين كفروا بأهل مكة فيه نظر، والأولى الأخذ بالعموم، وسلوك هذه الطريق، أعني أن يُخَصَّ القرآن ببعض أفراد العام ليس بسديد ولا جيد، وذلك لأنه نقص في التفسير، إلا أن يقوم دليل على ذلك، فإذا قام دليل على ذلك وجب الأخذ بالدليل، أما إذا لم يقم دليل على ذلك فالواجب الأخذ بالعموم، لأنه أعمّ وأكثر معنىً، فالذين كفروا من أهل مكة وغيرهم إلى يوم القيامة ﴿فِي عِزَّة﴾ ولكنها ليست عزة غلبة كالعزة التي في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] وإنما هي عزة أنفه وكبرياء وعناد، ولهذا قال المؤلف: [﴿فِي عِزَّةٍ﴾ حميةٍ وتكبُّرٍ عن الإيمان] وهذه العزة مذمومة؛ لأنها عزة تمنع صاحبها من قبول الحق. وأما العزة التي هي عزة النصر فهي تأييد لصاحبها. وبينهما فرق كبير.
قوله: ﴿فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ يعني مشاقة، فالشقاق مصدر شاقّ، كقتال مصدر قاتل، والمعنى مشاقة لله ولرسوله. قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الحشر: ٤] وهنا قال المؤلف: [خلاف وعداوة للنبي ﷺ]، وهذا أيضًا فيه نظر. لأنه خصّ الشقاق بالنبي ﷺ مع أن الكافرين يشاقون الله ورسوله، فهم في أنفة وكبرياء وحمية ومشاقة لله ورسوله. يعني أنهم يجُانبون ما أمر الله به ورسولُه، كأنما يكونون في شِقّ، وما جاء به الوحي في شِقٍّ آخر، وربما يقول قائل: إنهم أيضًا في شقاق فيما بينهم، ولا سيما اليهود، فإن الله تعالى قال: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: ١٤].
1 / 16
الفوائد:
١ - من فوائدها: أن القرآن كلام الله ﷾ بحرف، تكلم به بالحروف العربية التي يتكلم الناس بها ويتركب منها كلامهم؛ لقوله: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾.
٢ - ومن فوائدها: فضيلة القرآن وشرفه، حيث أقسم الله به، ولا يقسم الله إلا بالشيء العظيم.
٣ - ومن فوائدها: جواز الإقسام بالقرآن، من أين يُؤخذ؟ هل يؤخذ من القرآن؟ هذا خطأ ليس في القرآن دليل على جواز الإقسام بالقرآن؛ لأن الله تعالى يقسم بما لا يجوز أن يقسم به المخلوق كقوله: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ [الشمس: ١]، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ [الليل: ١]، فإذا أقسم الله بشيء فإنه لا يلزم أن يجوز لنا الإقسام به؛ لأن الله يقسم بما شاء، لكننا نقسم بالقرآن بدليل آخر لا بهذه الآية، وهو أن القرآن كلام الله، فهو صفة من صفاته، والإقسام بصفات الله جائز.
٤ - ومن فوائدها: أن القرآن ذِكْر على الوجوه التي ذكرناها في معنى الذِّكْر، فهو موعظة يُتذكَّر به، وهو ذِكر يتذكَّر به الإنسان ويتعلم، وهو ذِكر يُنال به الشرف، وهو ذِكر لله يُتعبَّد لله -تعالى بتلاوته كما يُتعبَّد بغيره من الأذكار، مثل: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله.
٥ - ومن فوائدها: بيان ما في نفوس الكفار من الحمية والأنفة الباطلة؛ لقوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢)﴾.
1 / 17
٦ - ومن فوائدها: أن الكفار لا يسكتون على كفرهم ويستمرون في طغيانهم وأنفتهم، بل يحاولون أن يصدوا عباد الله عن دين الله، لأنهم في شقاق دائم، يشاقون الله ورسوله.
٧ - ومن فوائدها: أن لنا أن نقول: إنهم في عزة وشقاق مع الحق دائمًا، سواء مع الله، أو مع الرسول، أو مع ورثة الرسول وهم العلماء، أو مع أتباع الرسول عمومًا وهم المؤمنون، فهم في شقاق دائم مع الحق.
* * *
قال تعالى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ قال المؤلف: [﴿كَمْ﴾ أي: كثيرًا ﴿أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ أي: أمّة من الأمم الماضية] قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ قدره المؤلف بقوله: كثيرًا، وعلى هذا تكون كم تكثيرية، وهي في محل نصب على أنها مفعول مقدم لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾ و﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾، و﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ تمييز لـ ﴿كَمْ﴾، لأن كم اسم مبهم تحتاج إلى تمييز، أي: إلى شيء يبينها ويميزها، فلو قيل: كم أهلكنا من قبلهم، لم يتبين الكلام، ماذا أهلك؟ فإذا قال: ﴿مِنْ قَرْن﴾، تبين الكلام، ولهذا نقول: إن ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ تمييز لـ ﴿كَمْ﴾ مجرور بـ ﴿مِنْ﴾.
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: من قبل الكفار الذين كانوا في عهد النبي ﷺ وقوله: ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ أي: من أمة. والمعنى أن الله أهلك كثيرًا من الأمم قبل هؤلاء، ومَن أهلك كثيرًا من الأمم قبل هؤلاء فإنه حَرِيّ أن يهُلك هؤلاء، لكن إهلاك الأمم السابقة كان بعذاب من الله، وإهلاك المكذبين لرسول الله ﷺ كان بأيدي المؤمنين،
1 / 18
فالحروب والقتال الذي وقع بينهم وبين الرسول ﷺ كان عذابًا لهؤلاء المكذبين، وكان على يدي النبي ﷺ وأصحابه، كما قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ١٤ - ١٥] ولا شك أن عذاب الأعداء على يد النبي ﷺ وأصحابه أشفى لصدورهم مما لو كان العذاب من الله ﷾. وهذا شيء مشاهد. إذا كانت غلبة عدوك على يدك، كان ذلك أشفى لصدرك، وأحيا لنفسك وأقوى وأعز، مما لو أهلكه الله بعذاب من عنده. فلهذا كان هلاك المكذبين لرسول الله ﷺ على يد الرسول ﷺ وأصحابه.
قوله تعالى: ﴿مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا﴾، الضمائر تعود على الألفاظ باعتبار لفظها، ويجوز أن تعود على الألفاظ باعتبار معناها. ألم تروا إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩]، قال: ﴿اقْتَتَلُوا﴾ ولم يقل: اقتتلا، لو قال: اقتتلا لكان الضمير عائدًا على اللفظ ﴿طَائِفَتَانِ﴾، ولما قال: ﴿اقْتَتَلُوا﴾ صار عائدًا على المعنى، لأن الطائفة جماعة. إذًا قوله: ﴿فَنَادَوْا﴾ أي: القرن، فأعاد الضمير عليها باعتبار المعنى.
وقوله: ﴿فَنَادَوْا﴾ يقول المؤلف: [حين نزول العذاب بهم] ولكن نادوا مَنْ؟ هل المعنى نادى بعضهم بعضًا؟ يستغيث بعضهم ببعض، أو المعنى أنهم نادوا الله، أي: دعوه أن يغيثهم، أو المعنى أنه حصل منهم الأمران؟
1 / 19
القاعدة عندنا في التفسير متى كان اللفظ صالحًا لمعنيين فأكثر فإنه يحمل عليهما جميعًا. وعلى هذا يكون (نادوا) محذوف المفعول من أجل العموم، أي: أن بعضهم ينادي بعضًا: يا فلان أغثني أغثني، وكذلك ينادون الله، لأن الله يقول: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [غافر: ٨٤].
ولكن قال الله تعالى: ﴿فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣)﴾ لات: (لا) النافية زيدت عليها تاء التأنيث لتأنيث اللفظ، كما زيدت تاء التأنيث في "رُبَّتَ" وفي "ثُمَّتَ" لتأنيث اللفظ. تقول: رُبّ رجل لقيته، وتقول: رُبَّتَ رجل لقيته، وتقول: قام زيد ثمَّ قام عمرو، وتقول: قام زيد ثُمَّتَ قام عمرو. فإذًا هي (لا) النافية زيدت عليها تاء التأنيث، لتأنيث اللفظ فتصبح "لات"،و(لا) النافية تعمل عمل ليس، واسمها محذوف في هذه الآية، وخبرها: ﴿حِينَ مَنَاصٍ﴾ والتقدير: [أي: ليس الحينُ حينَ فرار] فسره المؤلف بالمعنى، فعليه تكون "لا" بمعنى "ليس" واسمها محذوف تقديره الحينُ، وخبرها موجود، وهو قوله: ﴿حِينَ مَنَاصٍ﴾ والغالب أن خبر "لا" يكون زمانًا نحو: لات حين، ولات أوان، قال الشاعر.
نَدِمَ البغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ ... والبغيُ مَرْتَعُ مبتغيه وَخيمُ
يعني وليست الساعةُ ساعةَ مَنْدَم.
وقوله: ﴿مَنَاصٍ﴾ المناص: الفرار والنجاة. يعني ليس الحينُ حينَ فرار ونجاة، لأنه بعد نزول العذاب لا ينفع نفس إيمانها. قال
1 / 20
المؤلف -رحمه الله تعالى-: [أي: ليس الحينُ حينَ فرار، والتاء زائدة لتأنيث اللفظ، والجملة حال من فاعل "نادوا"] وعلى هذا تكون في محل نصب؛ لأن الجملة الحالية دائمًا في محل نصب. يعني نادوا في حال لا مناص لهم مما نزل بهم، ولهذا قدّر المؤلف: [أي: استغاثوا والحالُ أن لا مهربَ ولا منجى]. هذا ما قدّره المؤلف في جملة ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ أي: أنها حالية، فتكون مقيدة بحال مناداتهم، ولكن يجوز أن تكون استئنافية، فنادوا، ثم يخبر الله ﷿ أن هذا الوقت ليس وقت مفر، والفرق بين قولنا استئنافية أو حالية: أنه إذا كانت حالية صارت قيدًا للمناداة. يعني نادوا في حال لا ينفعهم فيه النداء، وإذا كانت استئنافية تكون منفصلة من حيث القيدية عما قبلها، فيكون الله قد أخبر بأنهم نادوا، ثم أخبر بأنهم في حال ليسوا متمكنين من الفرار.
قال المؤلف: [وما اعتبر بهم كفار مكة] وهذه الثمرة من ذكر أن الله أهلك قرونًا كثيرة فيما سبق، ومع هذا لم يعتبر بذلك أهل مكة، بل كذبوا الرسول ﷺ وآذوه وقالوا: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه كذاب، وإنه شاعر، وإنه كاهن، وكل وصف ينفّر الناسَ عنه وصفوه به ﷺ، ولم يعتبروا بمن سبق، بل زادوا على هذا.
الفوائد:
١ - من فوائد هذه الآية: تسلية الرسول ﵊ في أن الله تعالى أهلك المكذبين قبلهم فحَرِيّ أن يهلك هؤلاء. وقد بينا أثناء التفسير أن الله تعالى أهلك هؤلاء لكن على يد الرسول ﷺ
1 / 21
وأصحابه في الغزوات التي انتصر فيها، وقلنا: إن هذا النصر والتأييد أبلغ من النصر الذي يأتي به الله من عنده؛ لأن الله يعذب هؤلاء بأيدي عباده المؤمنين وحزبه.
٢ - ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحذير هؤلاء المكذبين، وأنهم لن يعجزوا الله في شيء كما لم يعجزه من سبقهم ممن كان قبلهم من الأمم التي أُهلكت ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾.
٣ - ومن فوائد الآية الكريمة: أن التكذيب للرسل كان كثيرًا، لأن إهلاك القرون إنما كان بسبب تكذيبهم، فإذا كثرت القرون فلازم ذلك أن يكثر التكذيب، أي: إذا كثرت القرون المهلكة، كان لازم ذلك أن يكثر التكذيب.
٤ - ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قوة الله وعظمته، حيث أهلك أممًا كثيرة وقرونًا عظيمة، قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)﴾ فبين الله ﷿ أن الذي خلقهم أشدّ منهم قوة، وأنه عذبهم بما هو من ألطف الأشياء، وهي الريح.
٥ - ومن فوائد هذه الآية: أن الأمم الهلَكة إذا نزل بهم العذاب لم يستفيدوا من الاستغاثة بالله ولا بأنفسهم؛ لقوله: ﴿فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣)﴾ يعني ليس هناك فرار من هذا العذاب الذي نزل بهم.
* * *
1 / 22
قال الله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ العجب يكون له سببان: السبب الأول: الإنكار، والسبب الثاني: الاستحسان، يعني يقال: عجب من كذا، أي: استحسنه، وعجب من كذا، أي: أنكره، فهو شبيه بأفعال الأضداد، لأن في اللغة العربية كلماتٍ تدل على المعنى وضده، تسمى عند علماء العربية: الأضداد في اللغة.
فالعجب تارة يكون استحسانًا، وتارة يكون استنكارًا، فقول عائشة ﵂: كان النبيّ ﷺ يعجبه التيامن في تنعله وترجله (^١). المراد بالإعجاب هنا الاستحسان، وفي قوله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ﴾ هذا عجب استنكار وردٍّ، وليس عجب رضًا واستحسان، وهذا نظير قوله تعالى في سورة قَ: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [ق: ٢].
قوله: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ أنْ مصدرية على تقدير مِنْ، أي عجبوا مِنْ أن جاءهم، وقلنا: إنها مصدرية؛ لأن ما بعدها يُحوَّل إلى مصدر، أي عجبوا من مجيء المنذر منهم، وقوله: ﴿مُنْذِرٌ﴾ المنذر: هو المخبر بالخبر للتخويف، ولهذا نقول: إن الإنذار خبر مقرون بتخويف، والنبي ﷺ كان منذرًا، وكان مبشرًا، ولكن الكفار يليق بحالهم الإنذار، قال تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ﴾ [الكهف: ٢] والتبشير يكون للمؤمنين. وهنا قال: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ لأن هذا هو اللائق
_________
(^١) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل (١٦٨)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره (٢٦٨).
1 / 23
بحالهم، وقوله: ﴿مِّنهُم﴾ نسبًا وجنسًا، فهو منهم جنسًا؛ لأنه بشر، ولم يُنزِل الله رسولًا على البشر من الملائكة. ونسبًا؛ لأنه من قريش فهو منهم جنسًا ونسبًا، ومع ذلك عجبوا.
قال المؤلف: [رسولٌ من أنفسهم ينذرهم ويخوِّفهم النارَ بعد البعث] أي: بعد أن يبعثوا [وهو النبي ﷺ]، عجبوا عجب استنكار ورفض ورَدٍّ مع أنهم كانوا يصفون الرسول ﷺ بالصادق الأمين، ولما جاءهم بالرسالة صار كاذبًا خائنًا -والعياذ بالله- إذًا معاداتهم له ليس لشخصه، ولكن لِمَا جاء به.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ﴾ فيه وَضْعُ الظاهر موضع المضمر، ويكون الكلام لو أُتيَ بالمضمر، وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقالوا: هذا ساحر كذاب، لكن قال: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ﴾ والفائدة من الإظهار في موضع الإضمار:
أولًا: تنبيه المخاطب، لأن الكلام إذا تغير نسقُه أوجب للسامع أن ينتبه بخلاف ما إذا كان على نسق واحد، فقد يأتيه النوم، لكن إذا اختلف انتبه.
ثانيًا: التسجيل على هؤلاء بالكفر لأنه لو قال: وقالوا هذا ساحر كذاب، لم نعرف حكمهم، أما إذا قال: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ﴾ عرفنا أنهم كافرون.
ثالثًا: أن الحامل لهم على هذا هو الكفر، فلا يبعد أن يأتي مِن غيرهم مثل ما أتى منهم، لأن العلة واحدة، فمتى وجدت هذه العلة
1 / 24
حصل المعلول من أي شخص كان، فهذه فوائد الإظهار في مواضع الإضمار.
﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤)﴾ يشيرون إلى المنذر منهم، وهو الرسول ﷺ ﴿سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ جمعوا بين وصفين ذميمين: ساحر؛ لأنه يسبي عقول الناس، وكذاب، لأن ما جاء به كذب غير مطابق للواقع، فصار الرسول ﵊ الذي هو أصدق الخلق، صار عندهم كذابًا، ولم يقولوا: كاذبًا، لأن كذابًا تكون صفة للمتصف بصفة الكذب، كما تقول: نجار وحداد وما أشبه ذلك مما يكون صفة لازمة، فهم قالوا: إنه ساحر لقوة تأثيره على سامعه، فإن الرسول ﷺ كان إذا سمع الناسُ قراءتَه تأثروا بها تأثرًا عظيمًا، وكانت النساء والصبيان يجتمعون إلى بيت الرسول ﷺ ليسمعوا قراءته، وكانوا يتأثرون بهذه القراءة، فكان كفار قريش يقولون: إن محمدًا سحر أبناءنا ونساءنا، وأنه ساحر، لقوة تأثيره فيهم، وكذاب، يعني أن ما جاء به فهو كذب لا حقيقة له. والكاذب هو المخبر بخلاف الواقع. فكل من أخبرك بخلاف الواقع فقد كذبك.
الفوائد:
١ - في هذا دليل على سفه قريش الذين كذبوا الرسول ﷺ، واستنكروا ما جاء به. ووجه ذلك أنه لم يأتهم أحد غريب عليهم لا في جنسه، ولا في نسبه، فالذي جاءهم جنسه بشر مثلهم، ونسبه منهم من قريش، ومع ذلك يعجبون استنكارًا مما جاءهم.
1 / 25