Tafsir al-Uthaymeen: Al-Shu'ara
تفسير العثيمين: الشعراء
ناشر
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٣٦ هـ
محل انتشار
المملكة العربية السعودية
ژانرها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّي سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا - بإِذْنِ اللهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعْلِيَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سُورة الشُّعَراء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
قال المُفَسِّر (^١) ﵀: [سُورَة الشُّعَرَاء [مَكِّيَّة إلَّا آيَة ١٩٧ و٢٢٤ إلَى آخِر السُّورَة فَمَدَنِيَّة وَآيَاتهَا ٢٢٧ آيَة نَزَلَتْ بَعْد الْوَاقِعَة].
الشُّعَرَاء: جمع شاعرٍ، وسُمِّيَتْ به لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي آخِرِها، والتَّسميةُ للسُّوَرِ منها شيْءٌ تَوْقِيفِيٌّ منَ النبيّ ﷺ ومنها شيْء اجتهادِيٌّ، فالنبيُّ ﵊ أحيانًا يذكرُ السُّورَةَ بعينها، مثلما قَالَ: "اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ؛ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ" (^٢)، وأحيانًا لا يَذْكُرُهَا ولا يُبَيِّنُ اسْمها، ولكن يَجْتَهِدُ الصَّحابةُ فِي تَسْمِيَتِها.
وتَسميةُ السُّور أيضًا قد تكون واحدة، بمَعْنى: أن تُسَمَّى السورةُ باسْمٍ واحدٍ، وقد يكونُ للسورةِ عِدَّةُ أسماء.
ومن السُّور ذوات الأسماء العدة سُورَةُ الإسراء، فهي تُسَمَّى أيضًا سُورةَ بني إِسْرَائِيلَ، لكنَّ بعض القَوْمِيِّينَ أنكروا ذلك، وحجتُّهم في هذا الإنكار: أنَّه
_________
(^١) المقصود بـ (المُفَسِّر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفي سنة (٨٦٤ هـ) رحمه الله تعالى، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
(^٢) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، رقم (٨٠٤).
1 / 7
لا يمكنُ أن تكونَ سُورَةٌ باسْم بني إِسْرَائِيل، يعني سُورة اليَهود، فأنكروا هَذَا الشَّيْء.
وقلنا: إن القومِيِّين أثبتوا أن اليَهودَ قتَلُوا عيسى بنَ مَرْيَمَ، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ [النِّساء: ١٥٧].
يقول المُفسِّرُ ﵀: [مَكِّيَّة]، والمكيُّ هُوَ الَّذِي نزلَ قبلَ الهجرةِ عَلَى القولِ الصَّحيحِ، يعني: فالمُعْتَبَر الزمنُ لا المكانُ.
قوله ﵀: [إلا ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ إِلَى آخِرِها]، وهي أربع آيات: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٤ - ٢٢٧]، وهذا الإستثناء لَيْسَ بمقبولٍ إلَّا إذا دلّ الدَّليلُ عليه، والدَّليل عليه تارَةً يكون بالنقلِ، وتارَةً يكون بالمَعْنى، والمَعْنى قد يكون واضحًا وقد يُنازَع فيه.
فهنا المُفسِّرُ استثنى هَذِهِ الآيَاتِ الأربعَ بقرينةِ السياقِ؛ لِأَنَّ قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧]، قيل: لَمّا نزلت ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٤]، تأثر لها حَسَّان ﵁ فأنزل الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧] (^١)، والإنْتِصار بعد الظُّلم كَانَ فِي المدينةِ وليسَ بمكَّةَ، ومِن ثمَّ قالوا: إن هَذِهِ الآيَات مَدَنِيَّة.
_________
(^١) تفسير الطبري (١٩/ ٤١٨).
1 / 8
قال المُفسِّر ﵀: [وهي مائتانِ وسبعٌ وعشرونَ آيةً]، وتقسيم الآيَات أيضًا توقيفيٌّ، حَتَّى النبي ﵊ لَيْسَ له شأنٌ فِي تقسيمِ الآيَاتِ، فتنزل الآيَات من عند الله مُقَسَّمةً، وأيضًا الرسول ﵊ يأمر بوضعها فِي مكانها من السورة، فهي توقيفيَّة أيضًا فِي الترتيبِ.
قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ والبَسْملَة متعلِّقة بفعل محذوف متأخِّر مناسِب لما يُسَمَّى عليه، فمثلًا: عِندَما تريد أن تقرأ تقول: بسم الله الرَّحْمن الرحيم، فالتَّقدير: "بسْم الله الرَّحْمن الرحيم أقرأُ".
وقُدِّر فعلًا لِأَنَّهُ الأَصْل فِي العمل.
وقدِّر متأخرًا لإِفادة الحصر والتبركِ بتقديم اسْم الله.
وقُدِّر مناسبًا لِأَنَّهُ أخفُّ، وإلا فيجوزُ أن تقدِّر: باسْم الله أبتدئُ، ولكنّه إذا قُدِّر خاصًّا فهو أخصُّ وأدلُّ عَلَى المقصود.
* * *
1 / 9
الآية (١)
* * *
* قالَ اللهُ ﷿: ﴿طسم﴾ [الشعراء: ١].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: ﴿طسم﴾ اللهُ أعلمُ بمُراده بذلك]، ويَحتمِل قوله: [بمرادِهِ بذلكَ] أَنَّهُ يَقصد أن لهذه الكلمةِ أو لهذه الحروف معانيَ واللهُ أعلمُ بها، ويَحتمِل أن مراده (الله أعلم بذلك) أي: بالغَرَضِ الَّذِي من أجلِهِ أتَى بهذه الحروف الهِجائيَّة، وبين المعنيينِ فرقٌ، يعني: عَلَى التَّقديرِ الأوَّل تكون هَذِهِ الكَلِمَةُ لها معنًى لكن لَيْسَ معروفًا، وعلى التَّقديرِ الثَّاني يكونُ لا معنَى لها، ولكن الحِكمة فِي الإتيان غير معروفة.
أمَّا احتمال أن يكون لها معنًى فهذا بعيدٌ، ووجهُ البُعْدِ أنَّ القُرآن أتَى بلِسانٍ عربيٍّ، وأن هَذِهِ الحروف الهجائيَّة لمجرَّد كونها حروفًا لَيْسَ لها معنًى، واللهُ ﷾ لا يُنْزِل لنا حروفًا هجائيَّةً ويَقصِد بِهَا المَعْنى؛ لِأَنَّ هَذَا خِلاف أن يكون القُرآن بيانًا وخُروجًا عن مُقْتَضَى اللُّغة العربيَّة.
وأمَّا الإحتمال الثَّاني فَهُوَ أن يُقالَ: اللهُ أعلمُ بما أرادَ؛ بالغرضِ الَّذِي من أجلِهِ أتى بهذه الحروف الهجائيَّة؛ فهذا حقٌّ؛ فإذا قال الْإِنْسَانُ: أنا لا أعلم واللهُ أعلمُ فهذا حقٌّ، ولكن بعض أهل العلم أَبْدَى مناسبةً، وقال: إن منَ المناسباتِ أن القُرآنَ الكريمَ المعجِزَ للناسِ أجمعينَ أَنَّهُ لن يأتيَ بأمرٍ غريبٍ، وإنَّما أتَى بكلماتٍ من
1 / 11
هَذِهِ الحروف، الَّتِي يتَكَوَّن منها كَلام النَّاس، ومع ذلك أَعْجَزَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لو أَتَى بحروفٍ جديدةٍ غيرِ معلومةٍ للناسِ لقِيلَ: إن إعجازَه ظاهرٌ، ولا أحدَ يَقدِر، لكن وجه الإعْجاز وتمام الإعْجاز أن يأتيَ بحروفٍ هِيَ من حروفِ الكَلامِ الَّذِي يتكلَّم بِهِ النَّاس، ومع ذلك يُعجِزهم، واستأنسوا لإِثْبات هَذِهِ المناسبةِ بأنَّكَ لو تَدَبَّرْتَ هَذِهِ السُّوَرَ الَّتِي ابتُدِئت بالحروف الهجائيّة لوجدتَ أَنَّهُ يذكر بعد الحروفِ ما يَتَّصِل بالقُرآنِ:
﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ١ - ٢].
﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: ١ - ٣].
﴿المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١ - ٢].
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: ١].
﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١].
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [يوسف: ١].
﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الرعد: ١].
﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: ١].
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: ١].
﴿كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ [مريم: ١ - ٢].
﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: ١ - ٢].
﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء: ١ - ٢].
1 / 12
﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: ١].
﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [القَصَص: ١ - ٢].
﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١ - ٣].
﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ [الروم: ١ - ٣].
﴿الم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [لقمان: ١ - ٢].
﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [السجدة: ١ - ٢].
وسِيروا عَلَى هَذا.
بَقِيَ أَنَّهُ يجب أن يُرَدَّ بأنَّ الآيَاتِ: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١ - ٢]، و﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ [الروم: ١ - ٣]، و﴿كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ [مريم: ١ - ٢]، لَيْسَ فيها ذِكْرٌ للقرآنِ؟
فيُقال: فيها ذِكْر للقرآن: فـ ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ هَذَا وَحْيٌ، و﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فإنَّ قصصَ وأخبار الأوَّلِين إنَّما كانتْ بالوحيِ، و﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ إخبارٌ أيضًا عن أمرٍ مُسْتَقْبَلٍ من أمور الغيبِ لا يُعْلَم إلا بالوحيِ.
ثم لو فُرضَ أن هَذَا لَيْسَ بواضحٍ؛ فإن النادرَ لا حُكْمَ له، وهذا المَعْنى - الذي أَشرنا إليه - ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأيّده شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ ﵀ (^١).
_________
(^١) انظر تفسير القرآن العظيم (١/ ٥٢) ط دار الفكر.
1 / 13
الآية (٢)
* * *
* قالَ اللهُ ﷿: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء: ٢].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿تِلْكَ﴾ أي: هَذِهِ الآيَات ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾] وتعبيرُ القُرآن: ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾ وهناك فرق بين التعبير القُرآنيّ وتعبير المفسِّر؛ الفرقُ بينهما أن التعبيرَ القُرآنيَّ أتَى بالإشارةِ للبَعيد، والمُفسِّر أتى بالإشارة للقريبِ.
ثم قَالَ المُفَسِّر ﵀: [أي: هَذِهِ الآيَات ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾]، أيضًا لِيُبَيِّن أن آيات الكِتاب هِيَ الخبرُ.
والصَّوابُ أن نقولَ: لو قال المُفسِّر: (تلك الآيَاتُ آيات) لكَانَ أحسنَ؛ لِأَنَّ كونه يعدِل عن الإشارةِ بالبعيدِ إِلَى الإشارةِ بالقريبِ، معَ أن الله تعالى أثبتَ الإشارةَ للبعيدِ، فهذا لَيْسَ تفسيرًا، والصَّواب بلا شكّ: القُرآن هُوَ الصَّوابُ، والإشارة بالبعيدِ هنا مع قُربِ القُرآنِ الكريمِ وكَوْنه بينَ أيدينا إشارةٌ إِلَى عُلُوّ مَرْتَبَتِه، فهو للتَّعْظيمِ، وإذا صِرنا عَلَى ما قال المُفسِّر فاتنا هَذَا المَعْنى الَّذِي أُرِيدَ بالإشارة للبَعيد.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ هو القُرآن، والإضافة بمَعْنى (مِن)]، يعني: آيات من الكِتابِ.
وقوله: ﴿الْكِتَابِ﴾ بمَعْنى: المكتوب، كاللِّبَاسِ بمعنَى: المَلْبُوس، والغِرَاس:
1 / 14
بمَعْنى المَغْرُوس، والبِنَاء بمَعْنى: المَبْنِيّ، والفِرَاش: بمَعْنى المَفْرُوش. وسُمِّيَ كِتابًا لأَنَّهُ كُتِبَ فِي اللَّوْح المَحْفُوظ، وكُتِب بالصُّحُف الَّتِي بأيدي الملائكة، وكُتِبَ فِي الأرض بين النَّاس، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: ١١ - ١٦].
وقوله: ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ الآيَات جمع آيةٍ، وهي فِي اللُّغة: العَلامَة، والمُراد بِهَا هنا العَلامَةُ الدالَّةُ عَلَى منزِّل هَذَا القُرآنِ، وَهُوَ الله ﷾.
إذن كلُّ آيةٍ منْ هَذِهِ الآيَاتِ فيها إعجازٌ؛ لِأَنَّهُ لو لم يكنْ فيها إعجازٌ لم تكنْ آيةً؛ لِأَنَّ الآيةَ العَلامَةُ الفارقةُ، ولا يكون القُرآن عَلامَةً فارقةً بينه وبين كَلامِ الآدميِّين إلا إذا كَانَ مُعْجِزًا.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿الْمُبِينِ﴾ المُظْهِر الحَقّ من الباطِل]، وأحيانًا يفسِّرون المُبِينَ بالبَيِّن، قال تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩]، يعني: البيِّن الواضِح؛ وذلك لِأَنَّ أبَانَ تُستعمل قاصرةً ومُتَعَدِّيَةً، يعني: فتستعمل قاصرةً: بَانَ الشَّيْءُ وأبانَ الشَّيْءُ، وتُسْتَعْمَل مُتَعَدِّيَةً، فيُقال: أبنتُ الحقَّ، يعني: أظهرته، فالمبين إذا فُسِّرَتْ بالبَيِّن فمعناه أن السِّياق لا يَقتضي سوى ذلك، فتكون منَ اللازم، فإذا كَانَ المعنَى يَحتمِل أن تكونَ من المتعدِّي - يعني: بمَعْنى مُظْهِر - وجبَ أنْ تُفَسَّرَ به؛ لِأَنَّ تفسيرها بالمُظْهِر يَشْمَل أو يَتَضَمَّن تَفسيرها بالبَيِّن؛ إذِ المُبِين معناه: بيِّنٌ بنفسِهِ، مُبِينٌ لِغَيْرِهِ، خلاف البيِّن بنفسه فقد لا يُبين غيرَه.
إذن كلَّما جاءتْ (مُبين) فِي القُرآنِ إنْ أمكنَ أنْ تُفَسَّرَ بالإبانةِ، الَّتِي هِيَ الإظهارُ وَجَبَ؛ لِأَنَّ ذلكَ أشملُ، وإذا لم يمكنْ فُسِّرت بالبيِّن الَّذِي هُوَ اللازمُ دونَ المتعدِّي؛ كقولِهِ: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢]، فهِي بمَعْنى (بيّن)
1 / 15
منَ اللازمِ، ويمكن عَلَى بُعدٍ أن تكونَ بمَعْنى (المُبِين)، يعني: المُظهر لِضَلَالهِم، ولكن المعْنَى الأوَّل أَبينُ.
على كلِّ حالٍ نقول: ﴿الْمُبِينِ﴾ هنا بمَعْنى: المظهِر للحقِّ، ولا يكون مُظهرًا للحقِّ إلَّا وَهُوَ بيّن بنفسه.
وترك المفعول فِي قوله: ﴿الْمُبِينِ﴾ لإِفادة الْعُموم والشُّمولِ، فهو مُبينٌ لكلِّ شيْءٍ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]، وهذا يدلُّ عَلَى أنَّ القُرآن شاملٌ لكلِّ شيْءٍ، وأمّا: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨]، فليسَ المُراد بِهِ القُرآن، وإنْ كَانَ كثيرٌ منَ النَّاس تَسمعهم يَستدِلّون بهذه الآيةِ عَلَى أن القُرآن شاملٌ لكلِّ شيْءٍ، ولكن المُراد ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾: اللوح المحفوظ.
و﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ أبلغ، فهو مذكور فيه بيانُ كلِّ شيْءٍ، فالقُرآن تِبيان لكل شيْءٍ، ولا يَخفَى عَلَى أحدٍ تبيان القُرآنِ إلا لعلَّةٍ فيه ليستْ فِي القُرآن، لعلة فِي نفس الَّذِي خفِيَ عليه؛ لأنّا نَجزِم بصِدْقِ هَذِهِ القضيّة ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وما خفي عَلَى أحدٍ منَ النَّاسِ ما خفِيَ من الأحكامِ، إلا لِقُصُورٍ فِي فَهمهم، أو فِي عِلمهم، أو فِي إرادتهم، فهو إمّا قاصرٌ فِي الفهم لا يفهم، وهذا لا يَتَبَيَّن له الشَّيْء، وإما قاصِر فِي العلم لَيْسَ لديه معلوماتٌ، وإما قاصر فِي قصده، أي نِيَّته.
ولهذا قال شيخ الإسلامِ: "مَن تَدَبَّرَ القُرآنَ طالبًا الهُدَى منه تَبَيَّنَ له طريقُ الحقِّ". ذَكَرَه فِي (العقيدة الواسطية) (^١)، حينما تكلَّم عن الآيَاتِ القُرآنيَّة الدالَّة عَلَى
_________
(^١) العقيدة الواسطية: اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: ٧٤) ط. أضواء السلف.
1 / 16
الصِّفات، وهي كلمة لها معناها.
إذن فقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أي: المُبين لكلِّ شيْءٍ، وخَفاء بعضِ الأمورِ عَلَى النَّاس منَ القُرآن لَيْسَ من قصورِ القُرآنِ، ولكن من قصورهم؛ إما لقصور فِي الفهم، أو العلم، أو القصد.
قد يقول قائل: إننا لا نجد كل شيْء فِي القُرآن؟ وأوّل ما يُعترض علينا أنَّنا لا نجد كمّ عددِ الرَّكَعَات فِي الصلاةِ، فأينَ البيانُ؟
فيُرَدُّ عليه بأنَّ القُرآنَ أتَى بتِبيانِ كلِّ شيْءٍ عَلَى الْعُمومِ، والسنَّة أنزلها اللهُ عليه ﷺ لِتُبَيِّنَ للناس موضوعَه، والرسول ﷺ قد فسَّر القُرآن، ولكن عَلَى الصِّيَغ العامَّةِ والإشارات العامَّة بالقُرآن، وأمَّا التفريعات فبينها رسول الله ﷺ.
فنقول: بيان القُرآنِ نوعانِ:
أحدهما: أنْ يُبَيِّنَ الشَّيْءَ بِعَيْنِه.
والثَّاني: أن يُبَيِّنَه بِوَسِيلَتِهِ وطَريقته. يعني: يقول: الطَّريق إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا كذا.
فتَارَةً يُبَيِّن الشَّيْء بعينِه، والغالب أن ذلك فيما لا يُمْكِن إدراكُه، وتارَةً يبيِّن الشَّيْءَ بطريقته ووسيلتِهِ، يعني: يقول الطَّريقة إِلَى كَذَا هِيَ كذا، فمثلًا: بيَّنَ لنا الطَّريق إِلَى معرفةِ عددِ الصلاةِ بقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧]، وبقوله: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء: ١١٣]، وبقوله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، وبقوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، وغير ذلك.
وقد نُقلت قصةٌ عن الشيخِ مُحَمَّد عَبْدُه معَ رجلٍ نَصرانيّ اعترضَ عليه،
1 / 17
حيث قَالَ النصرانيّ: إنَّنا لا نجد فِي القُرآنِ كيف نصنعُ هَذَا الطعام؟ فدعا الشيخُ محمَّد عبده بصاحبِ المطعمِ وقال له: كيف صنعتَ هَذَا الطعامَ؟ فقال صاحبُ المطعم: فعلت كَذَا وكذا. فقال الشيخ محمد عبده: هكذا علَّمَنا القُرآن. فقال النصرانيُّ: كيف عَلَّمَكُم القُرآن؟ قَالَ: لِأَنَّةُ قَالَ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣].
فالتِّبيان فِي القُرآنِ تارَةً يُبيِّن الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ، وتارَةً يُبين وسيلتَه الَّتِي تُظْهِرُه وتُبَيِّنه.
ومن فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
بيانُ عُلُوّ شأنِ القُرآنِ؛ للإشارةِ بقوله: ﴿تِلْكَ﴾، وأنه آياتٌ، والآيةُ هِيَ العَلامَةُ الخاصَّة أو المُعْجِزَة مثلًا؛ لِأَنَّ عَلامَة الشَّيْء معناها: ما يَخْتَصّ به، ولو كَانَ هَذَا الشَّيْءُ لا يختصُّ باللهِ ما صارَ آيةً له، فالآية هِيَ العَلامَةُ الخاصَّةُ الَّتِي لا تكونُ لغيرِ مَن كانتْ له، فالشَّمْسُ والقمرُ لا يمكِن لأحدٍ أنْ يأتيَ بِمِثْلِهِمَا، والقُرآن لا يمكن لأحدٍ أنْ يأتيَ بمثلِه.
فالعَلامَة الخاصَّة لمن كانتْ له، بحيثُ لا يستطيعُ أحدٌ أن يأتيَ بمثلِه، سواء كانت كونيَّة أو شرعيَّة، وفي هَذِهِ الآيةِ أن جميعَ آياتِ القُرآنِ معجِزات، ولو كانتْ آيةً واحدةً فإنها مُعْجِزةٌ، وقد تكون معجزةً بذاتها وقد تكون معجزةً بسياقِها؛ لِأَنَّ مثلًا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ [المدثر: ٢١]، قد لا يستطيع أحدٌ أن يقولَ: إنها معجزةٌ، وإن كل إِنْسان ممكِن أن يأتيَ بكلمة (ثُمَّ نَظَرَ)، لكنها مُعجزةٌ فِي سياقها وفي مَوْضِعها، فالآيَات حَقيقةً قلنا: إنها حروفٌ، ومن كلماتِ النَّاسِ، وهذه الحروفُ ليستْ معجزةً؛ لأنها من كَلامهم ويستطيعونها، لكن مكانها وسياقها وما تدلُّ عليه هَذَا هُوَ المعجز.
1 / 18
ومنَ المذاهب الباطلةِ: (مَذْهَب أهل الصرفة) وَهُوَ مذهب لَيْسَ بصحيحٍ؛ ومعناه أن باستطاعةِ الْإِنْسَان أن يفعلَ لولا المانعُ، يقولون: إن النَّاس مَصْرُوفون عن معارضةِ القُرآنِ، لا عاجزون، وفَرْق بين مَن يكون باستطاعته أن يفعلَ لولا المانعُ، ومن يقول: لَيْسَ باستطاعته أن يفعله، فالأخير أبلغ. ولهذا (مذهب أهل الصرفة) يقولُ العلماء: مذهبٌ باطلٌ، وإنه لَيْسَ باستطاعةِ أحدٍ أن يفعلَ أبدًا.
فَإِنْ قِيلَ: يأتي بكَلامٍ رَكيكٍ.
قلنا: بل أتى بكَلامٍ يَضْحَك منه النَّاسُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَلام بعضِ البشرِ، هل يُنقَل فِي القُرآنِ عَلَى حقيقتهِ أم حكايةً؟
فالجَواب: لَيْسَ هُوَ لفظه الحقيقيّ، ولهذا مثلًا: كَلام مُوسَى باللُّغة العِبْرِيَّة، وكَلام فِرْعَوْن باللُّغة القِبْطِيَّة، وما أشبهَ ذلك، ثم إن الكَلِمات أيضًا تختلف، يعني: نفس الآيَات تُنْقَل مرةً كَذَا ومرةً كذا، فالله يعبّر، ويكون السياق هُوَ الَّذِي يقتضي هَذَا التعبيرَ دون ذاك.
* * *
1 / 19
الآية (٣)
* * *
* قالَ اللهُ ﷿: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿لَعَلَّكَ﴾ يا محمدُ ﴿بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ قاتِلُها غَمًّا من أجلِ ﴿أَلَّا يَكُونُوا﴾ أي: أهل مكة ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ (ولعلَّ) هنا للإشفاقِ، أي: أَشْفِقْ عليها بتخفيفِ هَذَا الغَمِّ].
(لعل) للإشفاق، وتكون للتعليلِ وتكون للتَّرجِّي. فإذا تعلقتْ بمكروهٍ فهي للإشفاقِ، وإذا تعلَّقت بمحبوبٍ تكونُ للترجِّي، وإذا تعلقتْ بعلَّةٍ مِنَ العِلَلِ فهي للتعليلِ، وهي هنا للإشفاقِ، مثل أن تقول: (لعلَّ الحبيبَ هالِكٌ) فلا يمكن أن يكون قَصْدُك ترجِّيَ أنْ يَهْلَكَ حَبِيبُك، لكنَّك تُشفِق.
والله تعالى أشفقَ عَلَى نبيِّه ﷺ من أن يُهلِك نفسَه - يَقْتُلها منَ الغمِّ - بسببِ عدمِ إيمانهم، والرسول ﵊ يعاني من عدمِ إيمانهم، ومنَ المشقَّة الشديدةِ، ويحزن، ويضيق صدرُه ولكن الله تعالى يُسَلِّيهِ بمثل هَذِهِ الآية: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النمل: ٧٠]، وهنا يقول: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ مهلكها ﴿أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ ففي هَذَا دَليل عَلَى أن الْإِنْسَان الداعيَة لا يَنبغي أنْ يُهْلِكَ نفسَه فِي الهَمِّ والغَمِّ لعدم قَبُولِ النَّاسِ للحقِّ؛ لأَنَّهُ إذا أتَى بما يَجِبُ عليه انشرحَ صدرُه، وكفى. فأنت أتيت بما يجب عليك من الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ، ثم إنِ
1 / 20
امتثلَ النَّاس فهو نِعمةٌ عَلَى الجميعِ، وإنْ لم يَمتثِلوا فلا تَغْتَمَّ؛ لأنك إذا اغتممتَ اشتغلتَ بغيرِكَ عن نفسِكَ، وصار هَمُّكَ وَلاء النَّاس، وهذا يُفسِد عليك أنت عباداتِكَ الخاصَّةَ، فاشتغِلْ بنفسِكَ، وغيرك أدِّ ما أوجبَ اللهُ عليك لهم، ثم إنِ اهتدوا، وإلَّا لستَ عليهم بِمُسَيْطِر. وبهذا يَستريح الْإِنْسَان راحةً عظيمةً ويكون مُقْبِلًا عَلَى عبادتِهِ، مُحْسِنًا لها.
فإن قالَ قائلٌ: بعض النَّاس الَّذين لا يَدْعون النَّاس لهم حُجَّةٌ فِي ذلك، ويقولون حديثًا عن الرسول ﷺ: "إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدعِ العَوَامَّ" (^١).
فالجَواب: قال "عَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ" فمِن خاصَّةِ نفسِكَ أن تأمرَ بالمعروفِ وتَنهَى عنِ المنكَر: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]. فلا تَدَعْ نفسَكَ فِي ملاحقةِ النَّاسِ والإشتغال بهم عن دِينك.
ويُستفاد من الآية الكريمة: تَسلِيَة الرسول ﷺ لعدم إيمان قومه.
* * *
_________
(^١) أخرجه أبو داود: كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم (٤٣٤١)، والترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، رقم (٣٠٥٨)، وابن ماجه: كتاب الفتن، باب قوله تعالى: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ١٠٥]، رقم (٤٠١٤).
1 / 21
الآية (٤)
* * *
* قالَ اللهُ ﷿: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ﴾ بمَعْنى المضارعِ، أي: تَظَلّ، أي: تَدُوم ﴿أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ فيؤمنون].
قوله: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ﴾ جملة شَرطيَّة، فِعل الشَّرط: (نَشَأْ) وجَوابه: (نُنَزِّلْ)، وفي الإتيانِ بهذه الصيغةِ: ﴿نَشَأْ نُنَزِّلْ﴾ من تعظيمِ اللهِ ﷾ لِنَفْسِهِ ما لا يَخْفَى؛ لِأَنَّهُ جعلَ الأمرَ هنا يَسيرًا عليه إذا شاءه، وأنه ﷾ بإرادته لم يفعلْ، ثم الإتيان بنونِ العظمةِ هُوَ تَعظيمٌ آخرُ أيضًا، فالله تعالى ما قَالَ: إذا شِئنا نَزَّلْنَا، قَالَ: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ﴾.
وقوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ﴾ أي: عَلامَة، وهذه العَلامَة لا شكَّ أَنَّهُ لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يأتيَ بمثلها - كما أشرنا إليه قريبًا - ثم إنها عَلامَة أيضًا ليستْ عَلَى قُدرة مَن هِيَ له، أو عَلَى انفرادِهِ بالخلقِ، ولكنها آيةٌ أيضًا عَلَى أَنَّهُم لم يُؤمِنوا، وعلى تهديدهم بالوعيدِ، ولهذا قَالَ: ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ فلا تستطيع أن تمثّل هَذِهِ الآية لِأَنَّ الله ﷾ نكّرها، فهي آيةٌ ليستْ معلومةً لنا؛ لِأَنَّ الله لم يُنْزِلْها، لكنها آيةٌ تُخْضِعُهم، ولهذا قَالَ: ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾.
1 / 22
وقوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ هل المُراد بِهَا السَّقْف أم المُراد بِهَا العُلُوّ؟ مُحْتَمَلٌ هَذَا وهذا، يَحتمِل أَنَّهَا بمَعْنى العلوِّ، ويَحتمِل أن المُرادَ بِها السَّقف الَّذِي هُوَ عَلَى الأرضِ. وأيًّا كَانَ فإن إتيانَ الشَّيْءِ من فوق أبلغُ فِي التهديدِ؛ لِأَنَّ مَن فوقَكَ فقد علاكَ، ومَن علاك فلا طاقةَ لك به، بخِلاف مَن كَانَ بحذائِكَ فقد تفرّ وقد تناضِل، ولكن المشكِل إذا جاء الأمر من فوق.
وقوله: ﴿فَظَلَّتْ﴾ يقول المُفسِّر ﵀: (بمَعْنى المضارع، أي: تَظَلّ)، وإنَّما قال المُفسِّر: (بمَعْنى المضارع) لِأَنَّ قوله: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ﴾ مضارع، فناسبَ أن يكون ﴿فَظَلَّتْ﴾ مضارعًا، لكنه عدلَ عنه لبيانِ أَنَّهُ كالأمرِ الواقعِ، مثل قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١]، مع أَنَّهُ سيأتي، فالمَعْنى: فإذا نزلتْ بهم ظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ.
وقوله: ﴿أَعْنَاقُهُمْ لَهَا﴾ أي: لهذه الآية، فيَحتمِل أن تكونَ اللامُ هنا للتعدِّيَةِ، أي: خاضعينَ لها، أو للتعريف، أي: من أجلها. وقوله: ﴿خَاضِعِينَ﴾: أي ذَلِيلِينَ. قَالَ المُفَسِّر ﵀: [ولَمّا وُصِفَتِ الأعناقُ بالخضوعِ الَّذِي هُوَ لأربابها، جُمعتِ الصِّفَةُ منه جمعَ العُقَلَاء]، المُراد بـ (الصِّفَة منه) هنا الخبر ﴿خَاضِعِينَ﴾، والخبر صفة فِي المَعْنى، وإن كَانَ فِي الإعرابِ لا يُسَمَّى صفةً، لكنَّه فِي المَعْنى صفةٌ. وهنا ﴿أَعْنَاقُهُمْ﴾ المعروف الكثير فِي اللُّغة العربيَّة أن تكون (خاضعة): (أعناقهم لها خاضعة)، مثل: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ [القلم: ٤٣]، لكنَّه لما كَانَ الخُضُوع من أوصافِ العُقَلاء لا من أوصافِ غيرِ العاقلِ جُمع جَمعَ عاقلٍ؛ لِأَنَّ جمع المذكر السالم يَختَصّ بالعقلاء، فجمعت جمع العاقلِ لهذا السَّبَبِ.
ولا يُمْكِن أن نقولَ: ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا﴾ (لَهَا) هِيَ الخبر، وتكون (خَاضِعِينَ)
1 / 23
حالًا من الضَّميرِ المُسْتَتِر فِي الخبر، نقول: هَذَا بعيد، لِأَنَّهُ لا مَعْنى لـ ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا﴾، فإذا قال إِنْسان: ربما يكون التَّقديرُ: ناظرةً لها؛ أي: ظلتْ أعناقهم ناظرةً لها، فرَدُّ هَذَا بأنْ يُقالَ: إن المتعلّق إذا كَانَ خاصًّا فَإِنَّهُ لا يُحذَف، وإنَّما يُحذَف إذا كَانَ عامًّا، يعني: تقديره كائن أو مستقِرّ، هَذَا الَّذِي يُحذَف، أمّا إذا كَانَ خاصًّا كراكبٍ وجالسٍ، وما أشبهَ ذلك؛ فَإِنَّهُ لا يُحذَف.
فَوَائِدُ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: إِثْباتُ المشيئةِ للهِ ﷿؛ لقوله: ﴿إِنْ نَشَأْ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْباتُ القُدْرَة؛ لِقوله: ﴿نُنَزِّلْ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: التهديد لهَؤُلَاءِ المكذَّبين؛ لقوله: ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فيها دليلٌ عَلَى أن الأسْبابَ مؤثِّرة؛ لأَنَّهُ إذا نزلتِ الآيةُ خَضَعوا، وهذا دليلٌ عَلَى ثُبُوت الأسْباب، وأنها مؤثِّرةٌ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: فيها دَليل عَلَى إِثْبات الحكمةِ؛ لِأَنَّ الله لم ينزلْ هَذِهِ الآيةَ؛ لِأَنَّهُ لو أَنزَلَها لكانَ الإيمان اضطراريًّا، والإيمانُ الإضطراريُّ لا مَدْحَ فيه ولا ثناء، بل لا يَنفَع صاحبَه، فلهذا إذا آمنَ الْإِنْسَان عند ملاقاةِ الموتِ ما نَفَعَهُ، وبعد طلوعِ الشَّمْسِ من مَغْرِبها ما نَفَعَه، نعم، لا ينفع إلا إذا كَانَ الإيمانُ اختياريًّا، ولمّا نَتَقَ اللهُ الجبلَ فوق بني إِسْرَائِيل آمنوا، ولكن هَذَا الإيمان لا شك أَنَّهُ ضعيفٌ؛ لِأَنَّهُ إيمان اضطراريٌّ، فمِن حِكمة الله ﷾ أَنَّهُ لم يُنَزِّل هَذِهِ الآية ليكونَ الإيمانُ عنِ اختيارٍ، لا عن اضطرارٍ.
1 / 24
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هل تَدُلُّ الآيةُ عَلَى أنَّ الله فِي السَّمَاءِ؟
فالجَواب: لا، فنزول الآيةِ منَ السَّمَاءِ لا يُستدَلّ بِهِ عَلَى أن الله فوقُ.
وإن قيل: هل يدل تنكيرُ الآيةِ عَلَى عَظَمَتِها؟
قلنا: نعم، يدلُّ عَلَى عظمةِ مَن هِيَ له، وعلى تعظيمِ الآيةِ نفسِها، ولهذا تظلُّ أعناقهم لها خاضعينَ.
* * *
1 / 25