بعد أن حدثنا الله سبحانه وتعالى عن صفات المنافقين في ثلاث عشرة آية وأعطانا أوصافهم الظاهرة، وأعطانا أمثلة لما يحدث في قلوبهم كي يعرفهم المؤمنون ظاهرا وباطنا، ويحذروهم ولا يأمنوا لهم. بين لنا كيف أن المنافقين لم يكفروا بالله كإله فقط، ويستروا وجوده، ولكن كفروا به كرب والرب عطاؤه مكفول لكل من خلق: مؤمنهم وكافرهم، فهو سبحانه وتعالى الذي استدعاهم للوجود وخلقهم. ولذلك فإنه سبحانه يضمن لهم رزقهم وحياتهم. والله سبحانه وتعالى لا يحرم خلقا من خلقه من عطاء ربوبيته في الدنيا. فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والمطر ينزل على من قال لا إله إلا الله ومن ستر وجوده تعالى، والهواء يتنفس به ذلك الذي يقيم الصلاة والذي لم يركع ركعة في حياته، والطعام يأكله الذي يحب الله والذي يكفر بنعم الله.. ذلك أن هذه عطاءات ربوبية يعطيها الله تعالى لكل خلقه في الدنيا. أما عطاءات الألوهية، فهي للمؤمنين في الدنيا والآخرة. فالله سبحانه وتعالى يلفت انتباه خلقه إلى أن عطاء الربوبية من الله سبحانه وتعالى لهم يكفي ليؤمنوا بالله ويعبدوه. والحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب الناس في القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلابد أن يكون الخطاب للناس في كل زمان ومكان منذ نزول القرآن الكريم إلى يوم القيامة. وخطاب الله سبحانه وتعالى خاص بقضية الإيمان في القمة، وهي الخضوع لإله واحد لا شريك له. وقوله تعالى { الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21] معناه أن من مقتضيات العبادة. أن الله هو خالق الناس جميعا. وليس في قضية الخلق كما قلنا شبهة لأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق نفسه، أو خلق هذا الكون، بل إن الحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم السببية المباشرة في وجودنا فالأب والأم هنا سبب في وجود الإنسان. فنجد الله سبحانه وتعالى يقول:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما
[الإسراء: 23]. وهكذا نرى أن الحق قد احترم السببية في الموجد، مع أنه سبحانه وتعالى الموجد الذي خلق كل شيء. ولكن الله يحترم عمل الإنسان. مع أنه سبب فقط، فالمال هو مال الله، يعطيه لمن يشاء. لكننا نجد الحق سبحانه وتعالى وهو يحث على الصدقة يقول:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا..
[البقرة: 245]. فكأنه سبحانه احترم عمل الإنسان في الحصول على المال، رغم أن المال مال الله. فقال وهو الخالق الأعظم:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا..
[البقرة: 245] وهكذا تتجلى رحمة الحق بالخلق.
الله يقول: { لعلكم تتقون } [البقرة: 21] نتقي ماذا؟ نتقي صفات الجلال في الله. فالله سبحانه وتعالى له صفات جلال وصفات جمال، صفات الجلال هي " الجبار والقهار والمتكبر والقوي والقادر والمقتدر والضار " وغيرها من صفات الجلال. فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية حتى لا نغضب الله، فيعاملنا بمتعلقات صفات جلاله، وأن نتمسك بصفات جمال الله: الرحيم، الودود، الغفار، التواب، فإذا نجحنا في ذلك كان لنا نجاة من النار التي هي أحد جنود الله، ومتعلقات جلاله. على أننا لابد أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول " يا أيها الناس " إنما يخاطب كل الناس، فإذا أراد الحق سبحانه وتعالى مخاطبة المؤمنين قال: " يا أيها الذين آمنوا " أي يا أيها الذين آمنتم بالله إلها، ودخلتم معه في عقد إيماني.
[2.22]
فبعد أن بين لنا الحق سبحانه وتعالى أن عطاء ربوبيته الذي يعطيه لخلقه جميعا: المؤمن والكافر، كان يكفي لكي يؤمن الناس - كل الناس -.. أخذ يبين لنا آيات من عطاء الربوبية. ويلفتنا إليها لعل من لم يؤمن عندما يقرأ هذه الآيات يدخل الإيمان في قلبه. فيلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى خلق الأرض في قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشا } [البقرة: 22]. والأرض هي المكان الذي يعيش فيه الناس ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه خلق الأرض أو أوجدها. إذن: فهي آية ربوبية لا تحتاج لكي نتنبه إليها إلى جهد عقلي لأنها بديهات محسومة لله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: " فراشا " توحي بأنه أعد الأرض إعدادا مريحا للبشر. كما تفرش على الأرض شيئا، تجلس عليه أو تنام عليه، فيكون فراشا يريحك. ونحن نتوارث الأرض جيلا بعد جيل. وهي تصلح لحياتنا جميعا. ومنذ أن خلقت الأرض إلى يوم القيامة، ستظل فراشا للإنسان. قد يقول بعض الناس: أنك إذا نمت على الأرض فقد تكون غير مريحة تحتك، فيها حصى أو غير ذلك مما يضايقك. نقول: إن الإنسان الأول كان ينام عليها مستريحا.. إذن فضرورة النوم ممكنة على الأرض. وعندما تقدمت الحضارة وزادت الرفاهية ظلت الأرض فراشا رغم ما وجد عليها من أشياء لينة. فكأن الله تعالى قد أعدها لنا إعدادا يتناسب مع كل جيل. فكل جيل رفه في العيش بسبب تقدم الحضارة كشف الله سبحانه من العلم ما يطوع له الأرض ويجعلها فراشا. ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول:
صفحه نامشخص