نزل به الروح الأمين
[الشعراء: 193]. ويقول سبحانه:
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل..
[الإسراء: 105]. وكان بعض من المشركين قد تساءلوا لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة؟. وانظر إلى الدقة في الهيئة التي أراد الله بها نزول القرآن فقد قال الحق:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا
[الفرقان: 32]. وعندما نتأمل قول الحق: " كذلك " فهي تعني أنه سبحانه أنزل القرآن على الهيئة التي نزل بها لزوما لتثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولو نزل مرة واحدة لكان تكليفا واحدا، وأحداث الدعوة شتى وكل لحظة تحتاج إلى تثبيت. فحين يأتي الحدث ينزل نجم قرآني فيعطي به الحق تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأضرب مثلا بسيطا - ولله المثل الأعلى والمنزه عن كل تشبيه - أن ابنا لك يريد حلة جديدة أتحضرها له مرة واحدة، فتصادفه فرحة واحدة، أم تحضر له في يوم ربطة العنق واليوم الذي يليه تحضر له القميص الجديد، ثم تحضر له " البدلة "؟، إذن فكل شيء يأتي له وقع وفرحة. والحق ينزل القرآن منجما لماذا؟ " لنثبت به فؤادك " ومعنى " لنثبت به فؤادك " أي أنك ستتعرض لمنغصات شتى، وهذه المنغصات الشتى كل منها يحتاج إلى تربيت عليك وتهدئة لك، فيأتي القسط القرآني ليفعل ذلك وينير أمامك الطريق.
كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا
[الفرقان: 32] أي لم نأت به مرة واحدة بل جعلناه مرتبا على حسب ما يقتضيه من أحداث. حتى يتم العمل بكل قسط، ويهضمه المؤمن ثم نأتي بقسط آخر. ولنلحظ دقة الحق في قوله عن القرآن:
ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا
[الفرقان: 33]. إن الكفار لهم اعتراضات، ويحتاجون إلى أمثلة، فلو أنه نزل جملة واحدة لأهدرت هذه القضية، وكذلك حين يسأل المؤمنون يقول القرآن: يسألونك عن كذا وعن كذا، ولو شاء الله أن ينزل القرآن دفعة واحدة، فكيف كان يغطي هذه المسألة؟ فما داموا سوف يسألون فلينتظر حتى يسألوا ثم تأتي الإجابة بعد ذلك. إذن فهذا هو معنى " أنزل " أي أنه أنزل من اللوح المحفوظ، ليباشر مهمته في الوجود، وبعد ذلك نزل به جبريل، أو تتنزل به الملائكة على حسب الأحداث التي جاء القرآن ليغطيها. ويقول الحق: { أنزل فيه القرآن هدى للناس }. ونعرف أن كلمة { هدى } معناها: الشيء الموصل للغاية بأقصر طريق، فحين تضع إشارات في الطريق الملتبسة، فمعنى ذلك أننا نريد للسالك أن يصل إلى الطريق بأيسر جهد، و " هدى " تدل على علامات لنهتدي بها يضعها الخالق سبحانه، لأنه لو تركها للخلق ليضعوها لاختلفت الأهواء، وعلى فرض أننا سنسلم بأنهم لا هوى لهم ويلتمسون الحق، وعقولهم ناضجة، سنسلم بكل ذلك، ونتركهم كي يضعوا المعالم، ونتساءل: وماذا عن الذي يضع تلك العلامات، وبماذا يهتدي؟.
صفحه نامشخص