قال سعيد: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم، قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟، قلت: لا، وأنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت ذلك له، فقال: أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة، لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم لينقص منها شيئا، ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده، فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك. قلت: أجل، وأولى.
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصى ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكى إلى الله سبحانه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا جميعا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا: إنا رسولا ربك، قال: فمن ربكما؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن، قال: فما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت/، قال: أريد أن تؤمن بالله، وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال ائت بآية إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل ثم أخرج يده من جيبه، فرآها بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص - ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له: هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلى - يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش - فأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب، وقالوا له: اجمع لهما السحرة، فإنهم بأرضك كثير، حتى يغلب سحرك سحرهما، فأرسل في المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات، والجبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟، قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم. فتواعدوا يوم الزينة، وأن يحشر الناس ضحى. قال سعيد: فحدثني ابن عباس: أن يوم الزينة، اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، هو يوم عاشوراء.
فلما اجتمعوا في صعيد، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين - يعنون موسى وهارون استهزاء بهما -، فقالوا: يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقين، قال: بل ألقوا،
فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون
[الشعراء: 44]. فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها/، فجعلت العصا تلبس بالحبال حتى صارت جرزا على الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك، قالوا: لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكنه أمر من الله، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه. فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأتباعه، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون
فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين
[الأعراف: 119] وامرأة فرعون بارزة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون، ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى. فلما طال مكث موسى بمواعد فرعون الكاذبة، كلما جاءه بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله عز وجل على قومه
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات
[الأعراف: 133]، كل ذلك يشكوا إلى موسى، ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه، أخلف موعده، ونكث عهده. حتى أمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون، فرأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله تعالى إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثنتي عشرة فرقة، حتى يجاوز موسى ومن معه، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا، فانتهى إلى البحر، وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه، وهو غافل، فيصير عاصيا لله.
فلما تراءى الجمعان تقاربا، قال قوم موسى: إنا لمدركون، افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب/ ولم تكذب، قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة، حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا هلاكه، ثم مروا بعد ذلك
صفحه نامشخص