الفاتحة
تفسير فاتحة الكتاب ، وهي مكية كلها
[ قوله : { بسم الله الرحمن الرحيم } ] . ذكروا عن الحسن قال : هذان اسمان [ ممنوعان ] لم يستطع أحد من الخلق أن ينتحلهما : الله والرحمن . قال بعض أهل العلم : إن المشركين قالوا : أما الله فنعرفه ، وأما الرحمن فلا نعرفه ، فأنزل الله : { وهم يكفرون بالرحمن قل } ، يا محمد ، { هو ربي } [ سورة الرعد : 30 ] .
ذكروا عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله A يقول : « قال الله : أنا الرحمن . شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته » .
ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نكتب باسمك اللهم [ زمانا ] ، فلما نزلت : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } [ الإسراء :
1
1
0 ] كتبنا : { بسم الله الرحمن } فلما نزلت : { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } [ سورة النمل : 30 ] كتبنا { بسم الله الرحمن الرحيم } .
ذكروا عن سلمان الفارسي أنه قال : [ قال رسول الله A ] : « إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة منها طباقها السماوات والأرض ، فأنزل الله منها رحمة واحدة ، فبها تتراحم الخليقة حتى ترحم البهيمة بهيمتها ، والوالدة ولدها . فإذا كان يوم القيامة جاء بتلك التسع والتسعين رحمة ، ونزع تلك الرحمة من قلوب الخليقة فأكملها مائة رحمة ، ثم يضعها بينه وبين خلقه . فالخائب من خيب من تلك المائة رحمة » .
ذكروا عن الحسن أنه قال : قال رسول الله A : « والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا رحيم » ، قالوا : يا رسول الله ، كلنا رحيم ، يرحم الرجل نفسه ويرحم ولده ، ويرحم أهله . قال : « لا ، حتى يرحم الناس جميعا » .
ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله A : « إنما يضع الله رحمته على كل رحيم » .
ذكروا أن رسول الله A قال : « السبع المثاني فاتحة الكتاب » غير واحد من العلماء قال : السبع المثاني هي فاتحة الكتاب . وإنما سميت السبع المثاني لأنهن يثنين في كل قراءة ، يعني في كل ركعة .
ذكر أبو زيد قال : « كنت مع النبي A ليلة نمشي في بعض طرق المدينة ، ويدي في يده ، إذ مررنا برجل يتهجد من الليل ، وهو يقرأ فاتحة الكتاب ، فذهبت أكلم النبي عليه السلام ، فأرسل يدي من يده وقال : صه ، وجعل يستمع . فلما فرغ الرجل منها قال لي رسول الله A : ما في القرآن مثلها » .
ذكروا عن ابن عباس أن رسول الله A قال لأبي : « لأعلمنك سورة ما في القرآن مثلها ، ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها هي أعظم : هي فاتحة الكتاب » .
صفحه ۱
ذكروا عن أبي بن كعب قال : قال الله : « يا ابن آدم أنزلت عليك سبع آيات ثلاث منهن لي ، وثلاث منهن لك ، وواحدة بيني وبينك ، { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين } ، هذه لله : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ هذه بين الله وابن آدم ] . { اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . هذه لابن آدم » .
ذكروا عن الحسن قال : هذا دعاء أمر الله رسوله أن يدعو به ، وجعله سنة له وللمؤمنين .
ذكروا عن ابن عباس أنه كان يجهر ب { بسم الله الرحمن الرحيم } في الصلاة ، ويقول : من تركها فقد ترك آية من كتاب الله . وابن عباس كان يجعل { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آية واحدة .
قوله تعالى : { الحمد لله } . قال الحسن : حمد الرب نفسه ، وأمر العباد أن يحمدوه . والحمد شكر النعمة . { رب العالمين } . العالمون الخلق . يقول : الحمد لرب الخلق .
قوله : { الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } . ذكروا أن رسول الله A وأبا بكر وعمر كانوا يقرأونها : { مالك يوم الدين } . وتفسيرها على هذا المقرإ مالكه الذي يملكه ، من قبل الملك . وبعضهم يقرأونها : { ملك يوم الدين } يعنون بهذا المقرإ أنه من قبل الملك . وبعضهم يقرأها : { مالك يوم الدين } يجعلها نداء . وتفسيره على الدعاء : يا مالك يوم الدين . ويوم الدين هو يوم الحساب في تفسير مجاهد والحسن . وقال بعضهم : يوم يدين الله الناس فيه بأعمالهم . وقولهم جميعا في هذا واحد .
صفحه ۲
[ قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين ] اهدنا الصراط المستقيم } . هذا دعاء؛ سأله المؤمنون الهدى والاستقامة في كل قول وعمل . { اهدنا } أي : أرشدنا . قال بعض المفسرين : { الصراط المستقيم } ، يعني الطريق المستقيم إلى الجنة ، وهو دين الإسلام . ذكروا عن ابن مسعود وابن عمر قالا : ترك النبي عليه السلام طرف الصراط عندنا وطرفه في الجنة .
قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } . يعني بالإسلام . قال بعضهم : { الذين أنعمت عليهم } هم الأنبياء؛ وهو كقوله : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين . . . } إلى آخر الآية . [ سورة مريم :
5
8 ] والإسلام يجمعهم جميعا .
قوله : { غير المغضوب } يعني اليهود . { ولا الضالين } يعني النصارى . والمشركون كلهم مغضوب عليهم وكلهم ضالون ، ولكن اليهود والنصارى يقرأون الكتابين : التوراة والإنجيل وينتحلونهما ، ويزعمون أنهم يدينون بهما . وقد حرفوهما ، وهم على غير هدى . ذكروا عن الحسن أنه قال : المغضوب عليهم اليهود ، والضالون النصارى .
صفحه ۳
تفسير سورة (
البقرة
) . وهي مدينة كلها
{ بسم الله الرحمن الرحيم } . قوله : { الم } . كان الحسن يقول : ما أدري ما تفسير { الم و الر والمص } وأشباه ذلك [ من حروف المعجم ] . غير أن قوما من المسلمين كانوا يقولون : أسماء السور ومفاتحها .
ذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال : { الر ، حم، و ن } هو الرحمن . يقول : إنه يجعلها اسما من أسماء الله حروفا مقطعة في سور شتى ، فإذا جمعها صار اسما من أسماء الله ، وهو مبتدأ الاسم .
وكان الكبي يقول : هي الأخر المتشابهات .
قال : بلغنا أن رهطا من اليهود ، منهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، وأبو ياسر ، دخلوا على النبي A فسألوه عن { الم ذلك الكتاب } [
البقرة
:
1
-2 ] فقال حيي : إنه بلغني أنك قرأت { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } . أناشدك الله ، إنها أتتك من السماء؟ فقال رسول الله : نعم ، والله لكذلك نزلت . قال حيي : إن كنت صادقا أنها أتتك من السماء إني لأعلم أكل هذه الأمة . ثم نظر حيي إلى أصحابه فقال : كيف ندخل في دين رجل إنما ينتهي أكل أمته إلى إحدى وسبعين سنة . فقال له عمر : وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة؟ فقال لهم حيي : أما الألف فهي في الحساب واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون . فضحك رسول الله A . فقال له حيي : هل غير هذا؟ فقال نعم . قال : ما هو؟ قال : { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين } [ الأعراف :
1
-2 ] . فقال : هذا أكثر من الأول : هذا إحدى وثلاثون ومائة سنة؛ نأخذه من حساب الجمل . قال : هل غير هذا؟ قال : نعم . قال : ما هو؟ قال : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } [ هود :
1
] . قال حيي : هذه أكثر من الأولى والثانية . فنحن نشهد لئن كنت صادقا ما ملك أمتك إلا إحدى وثلاثين ومائتا سنة ، فاتق الله ولا تقل إلا حقا . فهل غير هذا؟ قال : نعم . قال : ما هو؟ قال رسول الله A : { المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [ الرعد :
1
] . قال حيي : فأنا أشهد أنا من الذين لا يؤمنون بهذا القول ، لأن هذه الآية أكثر؛ هذه إحدى وسبعون ومائتا سنة . فلا أدري بأي قولك نأخذ ، وبأي ما أنزل عليك نتبع . قال أبو ياسر : أما أنا فأشهد أن ما أنزل الله على أنبيائنا أنه الحق ، وأنهم قد بينوا على ملك هذه الأمة ولم يوقتوا كم يكون أكلهم حتى كان محمد ، فإن كان محمد صادقا كما يقول ، إني لأراه سيجمع لأمته هذا كله : إحدى وسبعين ، وإحدى وثلاثين ومائة ، وإحدى وثلاثين ومائتين ، وإحدى وسبعين ومائتين [ فهذه ] سبعمائة وأربع سنين .
صفحه ۴
فقال القوم كلهم : قد اشتبه علينا أمرك ، فلا ندري بالقليل نأخذ أم بالكثير .
فذلك قوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } [ سورة آل عمران : 7 ] هن ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام؛ أولاهن : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ الأنعام : 151-153 ] . هذا في تفسير الكلبي .
وفي تفسير غيره من السلف ، فإنه يجعل الأنعام مكية كلها . وكان هذا الأمر بالمدينة .
قال الكلبي : وأما المتشابه [ ف ] { الم والاماصاو الر } . قال الله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } لهؤلاء النفر من اليهود ، مما كانوا يحسبون من ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كم يكون أكل هذه الأمة؛ ولا يعلم ما كتب الله لهذه الأمة من الأكل ، أي : المدة ، إلا الله .
وغير الكلبي يفسر المتشابهات على وجه آخر . وسنفسر ذلك في سورة آل عمران إن شاء الله .
صفحه ۵
2
قوله : { ذلك الكتاب } أي هذا الكتاب { لا ريب فيه } أي لا شك فيه . { هدى للمتقين } يعني بيانا للمتقين الذين يتقون الشرك؛ يهتدون به إلى الجنة . وبلغنا عن ابن مسعود أنه كان يقرأها : ( لا شك فيه ) .
{ الذين يؤمنون بالغيب } أي : الذين يصدقون بالبعث وبالحساب وبالجنة وبالنار ، وكل هذا غيب عنهم .
قوله : { ويقيمون الصلاة } . يقول : ويقيمون الصلوات الخمس المفروضة عليهم ، يحافظون على وضوئها ومواقيتها ، وركوعها وسجودها على ما سن رسول الله A في كل صلاة منها .
قوله : { ومما رزقناهم ينفقون } يعني الزكاة المفروضة على ما سن رسول الله A في الذهب والفضة ، والإبل والبقر والغنم ، والبر والشعير ، والتمر والزبيب . وفي قول الحسن وغيره من أصحابنا : وما سوى ذلك فليس فيه زكاة حتى يباع فتكون فيه زكاة الأموال ، يزكيه مع ماله إذا زكى إن كان له مال . وبعض أصحابنا يجعل الذرة مع البر والشعير . وقد فسرنا ذلك في أحاديث الزكاة .
ذكروا أن رسول الله A قال : « السنة سنتان ، وما سوى ذلك فريضة : سنة في فريضة ، الأخذ بها هدى وتركها ضلالة ، وسنة في غير فريضة ، الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة » .
صفحه ۶
4
قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } أي والذين يصدقون بما أنزل إليك من القرآن { وما أنزل من قبلك } أي من التوراة والإنجيل والزبور؛ نؤمن بها ولا نعمل إلا بما في القرآن . قال : { وبالآخرة هم يوقنون } أي أنها كائنة . { أولئك } أي الذين كانت هذه صفتهم { على هدى من ربهم } أي على بيان من ربهم . { وأولئك هم المفلحون } يعني هم السعداء ، وهم أهل الجنة .
قوله : { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } فهؤلاء الذين يلقون الله بكفرهم ، لأنهم اختاروا العمى على الهدى . { ختم الله على قلوبهم } [ يعني طبع ، فهم لا يفقهون الهدى ] { [ وعلى سمعهم } فلا يسمعونه { وعلى أبصارهم غشاوة } فلا بيصرونه { ولهم عذاب عظيم ] } بفعلهم الكفر الذي استحبوه واختاروه على الإيمان ، فهؤلاء أهل الشرك .
صفحه ۷
ثم ذكر الله صنفا آخر من الناس ، يعني المنافقين فقال : { ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } يقول : أقروا لله بألسنتهم وخالفت أعمالهم . وما هم بمؤمنين ، أي : حتى يستكملوا دين الله ويوفوا بفرائضه ك { وإبراهيم الذي وفى } [ سورة النجم : 37 ] أي الذي أكمل الإيمان وأكمل الفرائض .
قوله : { يخادعون الله والذين ءامنوا } أي بما أعطوهم من الإقرار والتصديق ، وأعطوا الحقوق من الزكاة ، يخادعون بذلك رسول الله A والمؤمنين؛ فجعل الله مخادعتهم رسوله والمؤمنين كمخادعة منهم لله . وهو كقوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . والإيمان بالنبي عليه السلام إيمان بالله ، والكفر به هو كفر بالله ، وكذلك مخادعة الله . قال : { وما يخدعون إلا أنفسهم } أي : إن ذلك يرجع عليهم عذابه وثواب كفره . وتفسير خدعة الله إياهم في سورة الحديد { وما يشعرون } أي أن ذلك يصير عليهم .
ثم قال : { في قلوبهم مرض } يعني بذلك النفاق . يقول : في قلوبهم نفاق ، فنسب النفاق إلى القلب كما نسب الإثم إليه ، كقوله في الشهادة : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } [ سورة البقرة : 2
8
3 ] قال : { فزادهم الله مرضا } أي الطبع على قلوبهم بكفرهم . { ولهم عذاب أليم } يعني عذابا موجعا { بما كانوا يكذبون } مخففة؛ أي : بقولهم : إنا مؤمنون وليسوا بمؤمنين إذ لم يستكملوا فرائض الله ولم يوفوا بها . فهذا تفسير من قرأها بالتخفيف . ومن قرأها بالتثقيل : { بما كانوا يكذبون } فهو يريد : بعض العمل أيضا تكذيب؛ يقول : إن التكذيب تكذيبان : تكذيب بالقول وتكذيب بالعمل . ومثله في اللغة أن يقول القائل للرجل إذا حمل على صاحبه فلم يحقق في حملته : كذب الحملة ، وإذا حقق قالوا : صدق الحملة . فمن قرأها بالتخفيف فهو يريد الكذب على معنى ما فسرناه أولا . وأخت هذه الآية ونظيرتها التي في براءة : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } [ سورة التوبة : 77 ] . يقول : أعقبهم ، بالخلف والكذب الذي كان منهم ، نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه . ومن قرأها بالتثقيل فهو بالمعنى الآخر الذي وصفناه آخرا ، ولا يعني به جحدا ولا إنكارا ، لأن مرض النفاق غير مرض الشرك ، وكذلك كفر النفاق غير كفر الشرك .
صفحه ۸
11
قوله : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } بالعمل بالمعصية { قالوا إنما نحن مصلحون } يزعمون أنهم بمعصية الله والفساد في الأرض مصلحون . قال الله تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } أي : لا يشعرون أن الله يعذبهم في الآخرة ولا [ ينفعهم ] إقرارهم وتوحيدهم . وهذا يدل على أن المنافقين ليسوا بمشركين .
صفحه ۹
13
قوله : { وإذا قيل لهم آمنوا كما ءامن الناس } يعني : وإذا قال لهم النبي A والمؤمنون آمنوا كما آمن الناس أي : أكملوا إيمانكم بالفعل الذي ضيعتموه . كما آمن الناس أي : كما آمن المؤمنون المستكملون القول والعمل { قالوا } يقول بعضهم لبعض : { أنؤمن كما آمن السفهاء } أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان ممن آمن ووفى ، يعيبونهم بالوفاء والكمال ، ولم يعلنوا ذلك للنبي عليه السلام . قال الله : { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } أنهم سفهاء في تفسير الحسن . وفي تفسير السدي : ولا يعلمون أن الله يخبر نبيه بقولهم .
قال تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم } يعني الكفار في تفسير الحسن . وفي تفسير غيره من أصحابنا : إلى كبرائهم وقادتهم في الشر { قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون } بمحمد وأصحابه . وتفسير الاستهزاء في هذا الموضع : إنما نحن مخادعون محمدا وأصحابه . يقول الله : { الله يستهزىء بهم } أي الله يخدعهم بمخادعتهم رسوله . وقال في سورة النساء : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] .
ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله A : « يجاء بالمستهزئين يوم القيامة فيفتح لهم باب من الجنة ، فيدعون ليدخلوها ، فيجيئون ليدخلوها ، فإذا بلغوا الباب أغلق دونهم فيرجعون . ثم يدعون ليدخلوها ، فإذا بلغوا الباب أغلق دونهم فيرجعون . ثم يدعون ، حتى أنهم ليدعون فما يجيئون من الإياس » .
وهذه الرواية عن الحسن تحقق ما تأولنا عليه هذه الآية أن الاستهزاء في هذا الموضع هو الخداع؛ يخدعهم الله في الآخرة كما خدعوا النبي عليه السلام والمؤمنين في الدنيا؛ وهو قوله : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } .
صفحه ۱۰
16
قوله : { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } . قال بعضهم : في ضلالهم يلعبون . وقال بعضهم : في ضلالتهم يتمادون .
قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } يعني اختاروا الضلالة على الهدى . وقال بعضهم : استحبوا الضلالة على الهدى . قال الله : { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } .
ثم ضرب مثلهم فقال : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } . [ قال الحسن : يعني مثلهم كمثل رجل يمشي في ليلة مظلمة في يده شعلة من نار ، فهو يبصر بها موضع قدميه . فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فلم يبصر كيف يمشي ] وإن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا ، فحقن بها دمه وماله وسباء ذريته ، وناكح بها المسلمين وغازاهم ووارثهم بها ، وأخذ الحقوق ، فلما جاءه الموت ذهب ذلك النور لأنه لم يحققه بعمله ولم يكمل فرضه ، فطفىء نوره القليل الذي كان معه ، وهو التوحيد ، كما طفئت النار التي استوقدها صاحبها فأضاءت ما حوله ، فبقي في ظلمة حين طفئت النار .
ثم قال : { صم } يعني عن الهدى فلا يسمعونه { بكم } عنه فلا ينطقون به { عمي } عنه فلا يبصرونه . ثم قال : { فهم لا يرجعون } أي إلى الإيمان ، يعني أنهم لا يتوبون من نفاقهم .
صفحه ۱۱
19
ثم ضرب مثلا آخر فقال : { أو كصيب من السماء } . يقول هذا المثل أيضا مثل المنافق . والصيب المطر . ذكروا عن النبي عليه السلام أنه كان إذا استسقى قال : « اللهم صيبا هينا » وهو تفسير مجاهد : { فيه ظلمات ورعد وبرق } قال [ بعضهم ] : كان المنافقون إذا أصابوا في الإسلام رخاء وطمأنينة طابت أنفسهم في ذلك وسروا به في حال دنياهم ، وإذا أصابتهم فيه شدة لم يصبروا عليها ولم يرجوا عاقبتها . فالظلمات هي الشدة ، والرعد هو التخوف إذا تخوفوا أن تأتيهم شدة . والمطر فيه الرزق ، وتكون فيه الظلمة والرعد والبرق ، فضرب الله ذلك مثلا ، والبرق مثل نور الإسلام في تفسير الحسن . وقال ابن عباس : هو نور القرآن . وهو واحد .
{ يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من الصواعق حذر الموت } وهذا كراهية من المنافقين للجهاد لأنهم لم تكن لهم حسبة في الشهادة والجهاد في سبيل الله .
قال الله : { والله محيط بالكافرين } . يقول : والله محيط بالمنافقين ، وهو كفر دون كفر الشرك . يقول : هو من وراء المنافقين حتى يخزيهم بنفاقهم وكفرهم .
قوله : { يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه } أي مضوا فيه { وإذا أظلم عليهم قاموا } [ أي بقوا لا يبصرون ] ، يعني بذلك المنافقين يقول : إن المنافقين إذا رأوا في الإسلام رخاء وطمأنينة طابت أنفسهم بذلك وسروا به في حال الدنيا ، وإذا أصابتهم شدة قطع بهم عند ذلك فلم يصبروا على بلائها ، ولم يحتسبوا أجرها ، ولم يرجوا عاقبتها . قال : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } حين أقروا ولم يوفوا . { إن الله على كل شيء قدير } .
صفحه ۱۲
21
قوله : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } أي لا تشركوا به شيئا { الذي خلقكم والذين من قبلكم } أي وخلق الذين من قبلكم { لعلكم تتقون } أي لكي تتقوا .
قوله : { الذي جعل لكم الأرض فراشا } فرشكموها ثم جعلكم عليها . وهو مثل قوله : { بساطا } [ نوح : 19 ] و { مهدا } [ طه : 53 ، والزخرف : 10 ] قال : { والسماء بناء } . ذكروا عن الحسن أن الرسول A « قال يوما لأصحابه : ما تسمون هذه؟ أو قال : هذا ، يعني السماء » قالوا : السماء . قال : « هذا الرقيع ، موج مكفوف . غلظها مسيرة خمسمائة عام ، وبينها وبين السماء الثانية مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام . وبينها وبين السماء الثالثة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام . وبينها وبين السماء الرابعة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام . وبينها وبين السماء الخامسة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام . وبينها وبين السماء السادسة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام . وبينها وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام ، وغلظها مسيرة خمسمائة عام . وبين السماء السابعة وبين العرش كما بين سماءين . وغلظ هذه الأرض مسيرة خمسمائة عام . وبينها وبين الثانية مسيرة خمسمائة عام وغلظها مسيرة خمسمائة عام . وبينها وبين الثالثة مسيرة خمسمائة عام ، وبين الرابعة إلى الخامسة مثل ذلك وبين الخامسة إلى السادسة مثل ذلك . وبين السادسة إلى السابعة مثل ذلك » .
ذكروا أن رسول الله A [ بينما كان ] في مسير له في يوم شديد الحر ، إذ نزل منزلا فجعل رجل ينتعل ثوبه من شدة الحر ، فقال رسول الله A : « إني أراكم تجزعون من حر الشمس وبينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام ، فوالذي نفسي بيده لو أن بابا من أبواب جهنم فتح بالمشرق ورجل بالمغرب لغلا منه دماغه حتى يسيل من منخريه » .
قوله : { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا } يعني أعدالا ، تعدلونهم بالله وتعبدونهم ، وهو الله لا شريك له . { وأنتم تعلمون } أنه خلقكم وخلق السماوات والأرض وأنه رازقكم؛ كقوله : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } [ الزخرف : 87 ] ، وكقوله : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] . وقال في آية أخرى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } [ العنكبوت : 61 ] .
صفحه ۱۳
23
قوله : { وإن كنتم في ريب } أي في شك { مما نزلنا على عبدنا } على نبينا محمد { فأتوا بسورة من مثله } أي : من مثل هذا القرآن { وادعوا شهدآءكم من دون الله } فيشهدوا أنه مثله { إن كنتم صادقين } بأن هذا القرآن ليس من كلام الوحي ، وذلك أن اليهود قالت : إن هذا ليس من كلام الوحي .
قال : { فإن لم تفعلوا } أي : فإن لم تستطيعوا { ولن تفعلوا } أي ولن تقدروا على ذلك ولا تفعلونه ، أي ولا تستطيعونه . وهذا الحرف يثبت أن الاستطاعة مع الفعل ، كقول الحواريين : { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } [ المائدة : 112 ] أي : هل يفعل ربك . ثم قال : { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } ؛ من كافر مشرك ، أو كافر منافق . وهو كفر فوق كفر ، وكفر دون كفر . والحجارة من كبريت يفور دخانه ونتنه ، فلا يزالون في نتن وغم .
قوله : { وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } . ذكروا عن أنس بن مالك خادم رسول الله قال : أنهار الجنة تجري في غير أخدود : الماء واللبن والعسل والخمر . وهو أبيض كله؛ فطينة النهر مسك أذفر ، وضراضه الدر والياقوت ، وحافاته قباب اللؤلؤ .
قوله : { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } أي في الدنيا ، يعرفونه بأسمائه . وقال بعضهم : كلما أتوا منه بشيء فأكلوه ، ثم أتوا بعد بغيره : قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، أي : يشبهونه به في طعمه ولونه ورائحته .
قوله : { وأتوا به متشابها } ، قالوا : خيارا كله ، لا رذل فيه . وقال الكلبي : متشابها في المنظر مختلفا في المطعم .
قوله : { ولهم فيها أزواج مطهرة } ذكر الحسن عن رسول الله A أنه قال في نساء أهل الجنة : « يدخلنها عربا أترابا لا يحضن ولا يلدن ولا يمتخطن ولا يقضين حاجة فيها قذر » وقال بعضهم : مطهرة من الإثم والأذى ، قال : ومن مساوىء الأخلاق . { وهم فيها خالدون } لا يموتون ولا يخرجون منها .
صفحه ۱۴
26
قوله : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } . وما هاهنا كلمة عربية ليس لها معنى؛ زيادة في الكلام . وهو في كلام العرب سواء : بعوضة فما فوقها وما بعوضة فما فوقها . وذلك أن الله لما ذكر في كتابه العنكبوت والنملة والذباب قال المشركون : ماذا أراد الله بذكر هذا في كتابه ، وليس يقرون أن الله أنزله ، ولكن يقولون للنبي عليه السلام : إن كنت صادقا فماذا أراد الله بهذا مثلا . فأنزل الله : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } .
{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا } قال الله : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين } أي : إلا المشركين . وهذا فسق الشرك ، وهو فسق فوق فسق ، وفسق دون فسق . والمعاصي كلها فسق .
ثم قال : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } وهو الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم . وتفسيره في سورة الأعراف .
قال : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } قال ابن عباس : ما أمر الله به من الإيمان بالأنبياء كلهم ، لا نفرق بين أحد منهم . وقال بعضهم : ما أمر الله به من صلة القرابة .
قال : { ويفسدون في الأرض } والفساد فيها العمل بمعاصي الله ، وأعظم المعاصي الشرك . { أولئك هم الخاسرون } ؛ أي : خسروا أنفسهم أن يغنموها فيصيروا في الجنة فصاروا في النار ، وخسروا أنفسهم من الحور العين . وتفسيره في سورة الزمر .
ثم قال : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } يعني كنتم أمواتا في أصلاب آبائكم ، نطفا في تفسير بعضهم ، وفي تفسير الكلبي : نطفا وعلقا ومضغا وعظاما ، ثم أحياهم فأخرجهم إلى الدنيا ، ثم أماتهم ، ثم يحييهم يوم القيامة . وهو قوله : { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } [ غافر : 11 ] . وعلى هذا أمر العامة . فأما خواص من الناس فقد أميتوا عقوبة؛ صعق بهم ، ثم بعثوا حتى استوفوا بقية آجالهم ، وليس ببعث النشور . منهم السبعون الذين كانوا مع موسى ، وتفسيره في سورة الأعرف ، وعزير ، و { الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } [ البقرة : 243 ] ، وتفسير ذلك في غير هذا الموضع بعد هذا . وقد أحيى الله أقواما عبرة للناس وليس بحياة النشور؛ منهم أصحاب الكهف ، وصاحب بقرة بني إسرائيل ، ومن كان يحيي عيسى عليه السلام بإذن الله ، ثم أماتهم الله مكانهم ، فلم يعيشوا ولم يأكلوا ولم يشربوا .
صفحه ۱۵
قوله : { هو الذي خلق لكم } أي سخر لكم { ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } . في تفسير بعض أهل العلم أن الله خلق السماوات قبل الأرض ، ثم خلق الأرض ثم استوى إلى السماء .
وفي تفسير الحسن أنه كان بدء خلق الله الأرض قبل أن يبسطها؛ كانت في موضع واحد ، موضع بيت المقدس ، ثم خلق السماوات ، ثم بسط الأرض فقال لها : انبسطي أنت كذا ، وانبسطي أنت كذا .
ذكروا عن عطاء أنه قال : بلغني أن الأرض دحيت دحيا من تحت الكعبة . وقال بعضهم : من مكة دحيت الأرض . ذكروا عن مجاهد قال : كان البيت قبل الأرض بألفي عام ، ومدت الأرض من تحته .
ذكروا عن ابن عباس في قوله : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } [ البقرة :
29
] وعن قوله : { ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 27-30 ] قال : إنه خلق الأرض ثم خلق السماوات ، ثم عاد فدحا الأرض وخلق فيها جبالها وأنهارها وأشجارها ومرعاها ، ثم استوى إلى السماء . وقوله هنا : ثم استوى إلى السماء صلة : يقول : خلق الأرض ثم خلق السماء .
وذكروا عن الحسن أنه قال : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فلما رأت ذلك ملائكة الله قالوا : ربنا هذه الأرض لا يقر لك على ظهرها خلق؛ فأصبح وقد وتدها بالجبال . فلما رأت ملائكة الله ما أرسيت به الأرض قالوا : ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال : نعم ، الحديد . قالوا : ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد؟ قال : نعم ، النار . قالوا : ربنا هل خلقت خلقا هو أشد من النار؟ قال : نعم ، الماء . قالوا : ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء؟ قال : نعم ، الريح . قالوا : ربنا هل خلقت خلقا هو أشد من الريح؟ قال : نعم ، ابن آدم .
صفحه ۱۶
30
قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } . في تفسير الحسن أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة ، وأن من ولده من يسفك الدماء فيها ، فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ أي : نصلي لك في تفسير بعضهم ] { قال إني أعلم ما لا تعلمون } .
وفي تفسير بعض أهل العلم أن الملائكة قد علمت من علم الله أنه ليس شيء أكره إليه من سفك الدماء والفساد في الأرض والمعاصي ، { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } . قال علم الله أنه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون يسكنون الجنة . وقال مجاهد : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وفي تفسير الكلبي قال : خلق الله كل شيء قبل ءادم عليه السلام؛ فجعل الملائكة هم عمار السماوات . وفي كل سماء ملائكة . ولكل أهل سماء دعاء وتسبيح وصلاة . وكل أهل سماء فوق سماء أشد عبادة وأكثر دعاء وتسبيحا وصلاة من الذين تحتهم . فكان إبليس في جند من الملائكة في السماء الدنيا . وفي تفسير بعضهم كان إبليس مع الخزنة في السماء الدينا : قال : وكانوا أهون أهل السماوات عملا . وكان الجن بنو الجان الذي خلقه الله من مارج من نار عمار الأرض؛ وهو عند الحسن إبليس .
وقال الكلبي فلما وقع بينهم التحاسد والفتن اقتتلوا . فبعث الله جندا من السماء الدنيا فيهم إبليس ، وهو رأسهم . فأمروا أن يهبطوا إلى الأرض فيجلوا منها الجن بني الجان . فهبطوا فأجلوهم عن وجه الأرض ، فألحقوهم بجزائر البحور . وسكن إبليس والجند الذين كانوا معه الأرض ، فهان عليهم العمل فيها ، وأحبوا المكث فيها . ثم أحب الله تبارك وتعالى أن يخلق ءادم عليه السلام وذريته ، فيكونوا هم عمار الأرض ، فقال للملائكة الذين كانوا في الأرض ، يعني إبليس وأصحابه ، إني جاعل في الأرض خليفة ورافعكم منها . فوجدوا من ذلك وقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ، ويسفك الدماء كما سفكوا ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال : { إني أعلم ما لا تعلمون } . وقد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدس له ويطيع أمره . فخلق آدم وصوره جسدا ينظرون إليه ويعجبون منه ، ولم يكونوا رأوا فيما خلق الله شيئا يشبهه .
ذكروا أن إبليس جعل يطوف بآدم قبل أن ينفخ فيه الروح ، فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك . ذكر بعضهم أنه جعل يطوف به ويقول : إن كنت أجوف فلي إليك سبيل ، وإن لم تكن أجوف فمالي إليك سبيل .
صفحه ۱۷
ذكر بعضهم قال : أول ما خلق الله في الأرض طير وحوت؛ فجعل الطير يخبر الحوت خبر السماء ، وجعل الحوت يخبر الطير خبر الأرض . فلما خلق الله آدم جاء الطير إلى الحوت فقال : لقد خلق الله اليوم خلقا كذا وكذا . فقال الحوت للطير : فإن كنت صادقا ليستنزلنك من السماء وليستخرجني من الماء . قال الكلبي : فأشفق إبليس عدو الله منه وقال : إني لأرى صورة مخلوق سيكون له نبأ . فقال لأصحابه : أرأيتم هذا الذي تروا على خلقه شيئا من الخلق إن فضل عليكم ما تفعلون؟ قالوا : نطيع ربنا ونفعل ما يأمرنا به . قال إبليس في نفسه : إن فضل علي لا أطيعه ، وإن فضلت عليه لأهلكنه . فلما نفخ الله الروح في آدم جلس فعطس فقال : الحمد لله رب العالمين . فكان أول شيء تكلم به . فرد الله عليه عند ذلك : يرحمك الله ، لهذا خلقتك؛ لكي تسبح باسمي وتقدس لي . ذكر بعضهم قال : لما نفخ في آدم الروح فعطس فحمد ربه قال الله له : يرحمك ربك ، فكانت هي الرحمة التي سبقت لآدم عليه السلام .
صفحه ۱۸
31
قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } . [ قال مجاهد ] : خلق الله آدم آخر ساعة النهار ، من يوم الجمعة ، من بعد ما خلق الخلق كلهم . قال الكلبي : ثم علمه الأسماء كلها ، أسماء الخلق . ثم إن الله حشر عليه الدواب كلها والسباع والطيور وما ذرأ في الأرض ثم قال للملائكة : { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } . قال بعضهم : إن كنتم صادقين أني أجعل فيها من يفسد فيها؛ أي : إن منهم من يعمل بطاعتي . علمه أسماءهم باللغة السريانية سرا من الملائكة .
{ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } ثم { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم } فقال آدم : هذا كذا وهذا كذا ، فسمى كل نوع باسمه : هذا هكذا ، وهذا هكذا . قال بعضهم : سمى كل شيء باسمه وألجأه إلى جنسه .
قال : { فلما أنبأهم } آدم { بأسمائهم قال } الله للملائكة { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } أما الذي أبدوا فحين قال إبليس لأصحابه : أرأيتم إن فضل عليكم ما أنتم فاعلون؟ قالوا : نطيع أمر ربنا . فهذا الذي أبدوا . وأما الذي كتموا فالذي أسر إبليس في خاصة نفسه من المعصية .
وتفسير الحسن وغيره في هذا الحرف : { وما كنتم تكتمون } : أنهم لما قال الله : { إني جاعل في الأرض خليفة } قالوا فيما بينهم : ما الله بخالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ، فهو الذي كتموا . قال : فابتلوا بخلق آدم . وكل شيء مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض فقال : { ائتيا طوعا أو كرها } [ فصلت : 11 ] .
قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } . يعني إن الطاعة كانت لله والسجدة كانت لآدم . [ قال بعضهم ] : أكرم الله آدم بأن أسجد له ملائكته فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين .
تفسير الحسن أنه لم يكن كافر قبله ، كما أن آدم كان من الإنس ولم يكن إنسي قبله . وقال بعضهم : خلق الله الخلق شقيا وسعيدا : فكان إبليس ممن خلق الله شقيا ، فلما أمر بالسجود له أبى واستكبر وكان من الكافرين . أي كان ممن خلقه الله شقيا بفعله الذي شقي به إذ ترك السجود لآدم .
وقال بعضهم : تفسير كان في هذا الموضع صار؛ يقول : أبى إبليس واستكبر وصار بإبائه السجود واستكباره كافرا . وهذا أولى كل تأويل تأولوه بالحق .
وتفسير آدم أن الله خلقه من أديم الأرض . وتفسير المرأة أنها خلقت من المر .
ذكر عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله A : « خلق الله آدم من طينة من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ منهم الأبيض والأحمر والأسود ، والسهل والحزن ، والحسن والقبيح . والخبيث والطيب » ذكروا عن ابن عباس قال : خلق الله آدم من طينة بيضاء وحمراء وسوداء .
صفحه ۱۹
35
قوله : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما } أي لا حساب عليكما فيه . { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } لأنفسكما بخطيئتكما . وقال في آية أخرى : { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 120 ] .
ذكروا عن ابن عباس أنه قال : الشجرة التي نهى عنها آدم وحواء هي السنبلة وقال بعضهم : هي التينة .
قوله : { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } . قال بعضهم : بلغنا أن إبليس دخل في الحية فكلمهما منها . وكانت أحسن الدواب فمسخها الله ، ورد قوائمها في جوفها وأمشاها على بطنها .
وقال الكلبي : دعا حواء من باب الجنة فناداها ، فدعاها إلى أكل الشجرة ، وقال : أيكما أكل منها قبل صاحبه كان هو المسلط على صاحبه .
وتفسير الحسن أنه وسوس إليهما من الأرض . قال : ولم يكن له أن يلبث فيها بعد قول الله : { فاخرج منها فإنك رجيم } [ الحجر : 34 ] .
قال الكلبي : فابتدرا الشجرة ، فسبقته حواء ، وأعجبهما حسن الشجرة وثمرتها ، فأكلت منها وأطعمت آدم . فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما . وكانا كسيا الظفر ، فبدت سوءاتهما وأبصر كل واحد منهما ما كان ووري عنه من سوأته فاستحييا { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } [ الأعراف : 22 ] يرقعانه كهيئة الثوب ليواريا سوءاتهما . ثم { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } [ الأعراف : 22 ] أي : بين العداوة . فاعتل آدم بحواء وقال : هي أطعمتني فأكلته .
ذكروا أن رسول الله A قال : « لولا بنو إسرائيل ما خنز لحم وما أنتن طعام ، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها » .
ذكر بعضهم أن حواء هي التي كانت دلت الشيطان على ما كان نهى عنه آدم في الجنة .
ذكر الحسن عن النبي عليه السلام أن آدم كان رجلا طويلا كأنه نخلة سحوق ، جعد الشعر . فلما وقع بما وقع بدت له عورته ، وكان لا يراها قبل ذلك ، فانطلق هاربا ، فأخذت شجرة من الجنة برأسه ، فقال لها : أرسليني . فقالت : لست بمرسلتك . فناداه ربه : يا آدم ، أمني تفر؟ فقال رب إني استحييتك .
قوله : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } . يعني آدم معه حواء وإبليس . والحية التي دخل فيها إبليس لا تقدر على ابن آدم في موضع إلا لدغته ، ولا يقدر عليها في موضع إلا شدخها . وقال في رواية أخرى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } [ الكهف : 50 ] قال بعضهم : من قتل حية فقد قتل كافرا .
قوله : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } المستقر من يوم يولد إلى يوم يموت . وهو مثل قوله : { فيها تحيون وفيها تموتون } [ الأعراف : 25 ] ويعني بالمتاع معايشهم في الدنيا ، يستمتعون بها . وقوله : إلى حين ، يعني الموت .
صفحه ۲۰