{ ودت طآئفة من أهل الكتاب } لخباثة نفوسهم وبغضهم المرتكز في قلوبهم؛ حسدا لظهور دين الإسلام { لو يضلونكم } أي: يضلونكم ويحرفونكم عن جادة الشريعة وسبيل الإيمان والتوحيد، نزلت في اليهود لما دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية { و } الحال أنهم { ما يضلون } بهذا الضلال { إلا أنفسهم } لتضعيف العذاب عليهم بسبب هذا الإضلال { و } هم { ما يشعرون } [آل عمران: 69] بهذا الضرر والنكال.
{ يأهل الكتاب } المدعين الإيمان بموسى وعيسى - عليهما السلام - والتصديق بكتابهما { لم تكفرون بآيات الله } المنزلة فيهما الناطقة على بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { وأنتم تشهدون } [آل عمران: 70] فيهما أوصافه ونعوته، وتنتظرون إلى ظهوره وبعثته، وبعدما ظهر وبعث، لم أنكرتم عليه عنادا، وكفرتم استكبارا؟ ومع ذلك غيرتم وحرفتم كتابكم ظلما وزورا.
{ يأهل الكتاب } المحرفين لكتاب الله { لم تلبسون الحق } الظاهر البين المكشوف المنزل من عند الله { بالباطل } المموه المزخرف المفترى من عند أنفسكم { وتكتمون الحق } الذي هو بعثة سيدنا محمد عليه السلام { و } الحال أنكم { أنتم تعلمون } [آل عمران: 71] حقيته في نفوسكم ولا تظهرونه؛ حسدا وبغيا.
[3.72-74]
{ و } من غاية حسدهم ونهاية بغضهم أنهم احتالوا واستخدعوا لإضلال المسلمين حيث { قالت طآئفة من أهل الكتاب } لأصحابه وجلسائه على وجه الحيل والمخادعة: { آمنوا } استهزاء و تسفيها { بالذي } يدعون أنه { أنزل } عليه موافقة { على الذين آمنوا } به { وجه النهار } أي: أول بدو النهار؛ ليفرحوا ويسروا بموافقتكم إياه { واكفروا آخره } أي: اتركوه وأنكروا عليه في آخر النهار، معللين بأنا لم نجد محمدا على الوصف الذي ذكر في كتابنا؛ ليترددوا ويضطربوا بمخالفتكم، افعلوا كذلك دائما { لعلهم يرجعون } [آل عمران: 72] رجاء أن يرجعوا عن دينهم وإيمانهم.
{ ولا تؤمنوا } أي: لا تخلصوا عن صميم القلب، ولا تظهروا تصديقكم { إلا لمن تبع دينكم } من إخوانكم وأصحابكم المتدينين بدين آبائكم وأسلافكم { قل } لهم يا أكمل الرسل ردا لمخادعتهم ودفعا لحيلتهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة: { إن الهدى } الموصل إلى سواء السبيل { هدى الله } الهادي لعباده، يهدي من يشاء إلى طريق توحيده، ويضل عنه من يشاء، وإنما دبرتم وخادعتم { أن يؤتى } أي: لأن يؤتى { أحد مثل مآ أوتيتم } من الكفر والإنكار بمحمد صلى الله عليه وسلم { أو يحآجوكم } أي: يغلبوكم بهذا الخداع والتدبير { عند ربكم } على زعمكم الفاسد واعتقادكم الباطل { قل } يا أكمل الرسل: لا تغتروا بمزخرفات عقولكم، ولا تطمئنوا بمقتضياتها؛ إذ هو صار عن المعرفة خصوصا عند تزاحم الوهم، بل { إن الفضل } والهداية { بيد الله } بقدرته ومشيئته { يؤتيه من يشآء } بلا معاينة العقل ونصرته { والله } الهادي لعباده { واسع } في فضله وهدايته، لا حصر لطريق إلهامه وعلمه { عليم } [آل عمران: 73] باستعدادات عباده، يوصل كلا منهم إلى توحيده بطريق يناسب استعداده.
بل { يختص برحمته } الواسعة الشاملة لجميع الفضائل والكمالات { من يشآء } من خلص عباده، تفضلا عليه من عنده من استعداداتهم ما لا يدرك غوره، ولا يكتنه طوره { والله } المتجلي بجميع الكمالات { ذو الفضل العظيم } [آل عمران: 74] واللطف الجسيم على بعض مظاهره من الأنبياء والأولياء الذين فنيت هوياتهم البشرية بالكلية في بحر الوحدة، وتجردوا عن جلبابها بالمرة.
[3.75-77]
{ و } من تفاوت الاستعدادات، واختلاف القابليات الفطرية ترى { من أهل الكتب من إن تأمنه } ثقة عليه واعتمادا له { بقنطار } مال كثير مفضل مخرون { يؤده إليك } على الوجه الذي ائتمنت عليه بلا تغيير وخيانة؛ لصفاء فطرته وحسن استعداده وقابليته { ومنهم من إن تأمنه بدينار } أو أقل { لا يؤده إليك } لخباثة طينته وقبح قابليته { إلا ما دمت عليه قآئما } دائما مطالبا أمانتك منه على وجه الإلحاح والإتمام، نزلت في عبد الله بن سلام حين استودعه قريشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأداه إليه، وفنخاص بن عاذوراء استودعه أيضا قريشي آخر دينارا، أنكر عليه وجحد، مع اتفاقهما في الكفر والضلال، وأنهماكهما في الإصرار والفساد.
{ ذلك } أي: ترك البعض اليهودي { بأنهم } بسبب أنهم استحلوا مال من ليس على دينهم { قالوا ليس } في كتابنا المنزل { علينا } من ربنا { في } حق { الأميين سبيل } أي: طريق معاتبة ومؤاخذة؛ لأنهم ليسوا من أهل الكتاب { و } هم بهذا القول { يقولون } ويفترون { على الله الكذب } لأنه ليس في كتابهم هذا الباطل بل يفترونه عنادا { وهم } أيضا { يعلمون } [آل عمران: 75] أنه افتراء منهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزول هذه الآية: " كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية إلا هو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ".
صفحه نامشخص