وأما الطبيعة العدمية قد كانت ساكنة في زاوية العدم بلا امتداد ظل الوجود عليها، { ففتقناهما } بالتجليات الحبية المنتشئة من الأسماء الذاتية والصفات الكمالية الفعلية، المقتضية للظهور والانجلاء لحكم، ومصالح قد استأثرنا بها، وبالقبول والتأثر من أشعة التجليات { و } إن أردتم أن تنكشف لكم كيفية انتشاء الأشياء الكثيرة من الذات الواحدة المتصفة بالصفات والأسماء المتماثلة والمتقابلة، فانظروا كيف { جعلنا من المآء } الواحد بالذات، والمشتمل على الأوصاف الكثيرة بحسب الآثار الصادرة منه { كل شيء حي } أي: خلقنا، وصيرنا كل شيء له إحساس وتغذية وتنمية وازدياد وانتقاص من الماء؛ إذ هو أقوى أسباب التبدلات والتشكلات، وأقبل إلى قبول التصرفات والامتزاجات { أفلا يؤمنون } [الأنبياء: 30] ويصدقون بهذا، مع أنه من أجلى البديهات، وأظهر المحسوسات.
ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على خلص عباده امتنانا عليهم وتنبيها لهم كي يتفطنوا منها بوحدة ذاته، وكمال قدرته وبسطته فقال: { وجعلنا في الأرض } التي هي الكرة الحقيقية، المائلة بالطبع إلى التدور والانقلاب { رواسي } شامخات مخافة { أن تميد } تتحرك وتضطرب وتضر { بهم وجعلنا فيها } أي: في تلك الرواسي { فجاجا } شقوقا وأدوية لتكون { سبلا } ومسالك متسعة وطرقا واسعة عناية منا إياهم { لعلهم يهتدون } [الأنبياء: 31] من تلك الطرق إلى ما يرومون من الأمكان البعيدة والبلدان النائية، فيتجرون ويتبعون منها مطالبهم ومصالحهم.
{ و } أيضا قد { جعلنا السمآء } المرفوع فوقهم { سقفا محفوظا } لهم فيها أوقات مزارعهم ومتاجرهم، وسائر مصالحهم في البر والبحر، إذ هي من أقوى أسباب معاشهم { وهم عن آياتها } الدالة على وحدة مبدعها وكمال قدرة مخترعها وموجودها { معرضون } [الأنبياء: 32] منصرفون منكرون، لا يتفكرون فيها كي تصلوا إلى زلال توحيدنا، وإلى كمال قدرتنا وأرادتنا.
{ و } كيف لا يتفكرون في خلق السماوات، ولا يتدبرون في الآيات الدالة على وحدة صانعها وبالجملة كيف ينكرون أولئك المنكرون المسرفون وجود موجدها مع أنه سبحانه { هو الذي خلق } وقدر لهم { الليل } سببا ووقتا لاستراحتهم ورقودهم { والنهار } لمعاشهم واكتسابهم { و } جعل { الشمس والقمر } سببين لإنضاج ما يتقوتون ويتفكهون و { كل } من الشمس والقمر وسائر السيارات { في فلك } من الأفلاك السبعة { يسبحون } [الأنبياء: 33] يسيرون ويدورون بسرعة تامة دائما بلا قرار وسكون؛ لتدبير مصالحهم، وإصلاح معايشهم، وهم لا يعلمون، ولا يشكرون.
ثم قال سبحانه: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } يعني: إن النصارى ادعوا خلود عيسى وبقاءه بلا طريان موت عليه دائما كما كان الآن، وكذا خلود جميع من لحق بالملائكة من البشر، رد الله عليهم على أبلغ وجه وآكده حيث قال: ما جعلنا وقدرنا لبشر من بني نوعك يا أكمل الرسل الخلد والبقاء السرمدي، لا من الذين مضوا قبلك، ولا من الذين يأتون بعدك، إذ هم بشر محدث مركب، وكل مركب محدث لا بد أن ينهدم امتزاجه وتنحل أجزاؤه ومزاجه، ولو كان فرد من أفراد المحدث البشر قديما لكنت أنت يا أكمل الرسل ألبتة { أ } تزعم وتردد يا أكمل الرسل { فإن مت } وعدمت عن الدنيا { فهم } الذين ادعى الجاهلون خلودهم { الخالدون } [الأنبياء: 34] المقصرون على الخلود بلا لحوق عدم عليهم، كلا وحاشا لا يكون الأمر كذلك.
بل { كل نفس } ذات أجواء وتركيب خيرة كانت أو شريرة، طويلة مدة عمرها، أو قصيرة، باقية في أهل الأرض، أو ملحقة بالملأ الأعلى { ذآئقة } كأس { الموت } المدركعة مرارتها، والمحتملة أهوال السكرات وأفزاعها، لا ينجو من الموت أحد، وإن علت رتبته وارتفعت مكانته، بل كلكم هلكى في حين ظهوركم ووجودكم المعاد المستعاد { و } إنما { نبلوكم } ونختبركم في وجودكم هذا، ونشأتكم هذه { بالشر } الغير المرتضى عندنا { والخير } المرضي، ليكون ابتلاؤنا إياكم { فتنة } لكم واختبارا منا إياكم لحكمة ومصلحة لنا فيها { و } بعدما اختبرناكم وابتليناكم في النشأة الأولى { إلينا } لا إلى غيرنا؛ إذ لا غير في الوجود { ترجعون } [الأنبياء: 35] في النشأة الأخرى ورجوع الظل إلى ذي الظل، والعكوس إلى الصور، فنجازيكم بها، ونعامل بكم على مقتضى اختبارنا وابتلائنا إياكم في النشأة الأولى.
[21.36-41]
ثم قال سبحانه امتنانا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: { و } اذكر { إذا رآك الذين كفروا } حين اشتغالك بقراءة القرآن أو بتذكير الأصحاب وعظة أولي الألباب، المشمرين نحو الحق أذيال همهم، المستفيدين المسترشدين منك قصارى مقاصدهم هي التوحيد الإلهي { إن يتخذونك } أي: ما يتخذونك حين التفاتهم نحوك { إلا هزوا } أي: محل اسهتزاء وسخرية قائلين حين بعضهم لبعض مستحقرين شأنك: { أهذا } الرجل الحقير الفقير الملحق بالأراذل والضعفاء { الذي يذكر آلهتكم } بالسوء، وينكر على شفعائكم ويسيء الأدب مع غاية حقارتهم وضعفهم، وهم من غاية عمههم وسكرتهم، ونهاية غيهم وغفلتهم { وهم بذكر الرحمن } المنزه عن شوب الشك وريب التردد { هم كافرون } [الأنبياء: 36] منكرون وجوده وتحققه مع كما ظهوره واستحقاقه بالألوهية والربوبية بالأصالة بخلاف معبوداتهم الباطلة الزائغة؛ إذ هم مقهورون تحت قدرته، مجبورون جنب إرادته واختياره، لا قدرة لهم من أنفسهم أصلا، فهم بالاستهزاء أحق، وبالاستهانة والسخرية أحرى وأليق.
ثم لما استعجل المنهمكون في بحر الضلال والإنكار، التائهون في تيه العتو والاستكبار نزول العذاب وقيام الساعة وجميع الوعيدات الواردة فيها على سبيل الاستهزاء والتهكم، رد الله عليهم إنكارهم واستعجالهم بأبلغ وجه فقال: { خلق الإنسان } أي: هذا النوع من الحيوان { من عجل } يعني: من غاية استعجاله ف يالخير والشر كأنه مصنوع منه، قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا: إلى متى تستعجلون أيها المسرفون المغرورون { سأوريكم } عن قريب في هذه النشأة { آياتي } أي: بعضها من نقماتي التي هي من مقدمات عذاب الآخرة، قيل هي وقعة بدر، إذ المستعجلون هم قريش، وسيأتي عذاب الساعة، وعذابها بعدما { فلا تستعجلون } [الأنبياء: 37] أيها الضالون المسرفون.
{ و } بعدما سمعوا من الرسول وأصحابه ما سمعا { يقولون متى هذا الوعد } الموعود، والوقت المعهود، عينوا لنا وقت نزول العذاب وقيام الساعة { إن كنتم صادقين } [الأنبياء: 38] في دعواكم.
صفحه نامشخص