أخبر عنه سبحانه بقوله: { إنا } من مقام عظيم جودنا وفضلنا { مكنا له } وقدرناه { في الأرض } تمكنا تاما وقدرة كاملة { و } ذلك { آتيناه } أعطيناه تأييدا له وتعضيدا { من كل شيء سببا } [الكهف: 84] موصلا إلى مبتغاه وما أمله؛ يعني: وفقنا وهيأنا أسبابه للوصول إلى كل مطلوب قصده وأراد الوصول { فأتبع سببا } [الكهف: 85] حتى ارتكب أمر الوثوقة واتكاله علينا، وبإنجاحنا إياه إلى مبتغاه.
ثم لما أراد أن يسير نحو المغرب، فاتبع سببه وسار { حتى إذا بلغ مغرب الشمس } أي: موضعا تغيب الشمس فيه؛ يعني: لم يبلغه حقيقة، وإنما بلغ قوما ليس وراءهم؛ أي: نهاية حد العمارة من جانب المغرب على ساحل المحيط { وجدها } أي: الشمس { تغرب } وتغيب { في عين حمئة } أي: ذات حمأة وهي الطين والماء، وقرئ: " حمية " أي: حارة. ويجوز أن يكون عينا ذات حماءة حرارة، يعني: غروبها في رأي العين على عين صفتها هذه، وإلا فلا تسع الشمس في جميع كرة الأرض، فكيف بجزء منها؛ إذ نسبه كرة الأرض إلى عظم جرم الشمس عند أهل الرصد كنسبة جزء من مائة وست وستين جزءا.
{ ووجد عندها } أي: عند العين الموصوفة { قوما } كفارا نافين للصانع الحكيم، لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما لفظ البحر بالموج من أنواع الحيوانات الميتة، فلما وصل ذو القرنين إليهم ووجدهم كفارا، خيرناه في أمرهم عناية منا بأن { قلنا } له وألهمنا عليه مناديا: { يذا القرنين } لك الخيار في شأن هؤلاء الكفار { إمآ أن تعذب } أي: تهلكهم وتستأصلهم بكفرهم؛ بيحث لا يبقى منه أحد { وإمآ أن تتخذ } وتصنع { فيهم حسنا } [الكهف: 86] شرعا ودينا كما في سائر المؤمنين.
ثم لما خير ذو القرنين في أمرهم، وفوض أمرهم إليه: { قال } على مقتضى العدل والإنصاف الذي جبله الحق عليه: ادعوهم أولا إلى الإيمان، وألق عليهم كلمة التوحيد والعرفان: { أما من ظلم } واستعلى وأبى وأصر على ما عليه من الكفر منه والهوى { فسوف نعذبه } أي: نقتله حدا بعد عرض الإسلام، ولم يقبل في دار الدنيا { ثم يرد إلى ربه } في يوم الجزاء { فيعذبه عذابا نكرا } [الكهف: 87] شديدا مجهولا لا يعرفه أهل الدنيا.
{ وأما من آمن } منهم { وعمل } على مقتضى الإيمان عملا { صالحا } فنصلح حالهم، ونراعيه في الدنيا { فله } في يوم الجزاء عند واهب العطايا { جزآء الحسنى } والمثوبة العظمى والدرجة العليا والجزاء الأوفى { وسنقول له من أمرنا } الذي أمرنا بالتخير في أمر أولئك الهالكين في تيه الغواية { يسرا } [الكهف: 88] سهلا معتدلا بين إفراط القتل والاستئصال، وتفريط الإبقاء على الكفر والضلال مداهنة.
{ ثم } بعدما وضع بين أهل المغرب الشرع بالأمر الإلهي { أتبع سببا } [الكهف: 89] آخر يوصله إلى المشرق، وسار { حتى إذا بلغ مطلع الشمسا } ومضع شروقه وإضاءته على العالم { وجدها تطلع } وتضيء أولا { على قوم لم نجعل لهم من دونها ستر } [الكهف: 90] يعني: لم نجعل لهم حائلا كثيفا وحجابا غليظا؛ ليكون سترا لهم من حر الشمس وقت طلوعها لا من الجبل ولا من الحجر والشجرة وغيرها، بل كلهم عزل عراة لا لباس لهم أصلا، وهم يحفرون الأرض، ويتخذون سراديب وأخاديد يدل الأبنية؛ لأن أرضهم لا تمسك النباء { كذلك } أي: هم أيضا كفار مثل أهل المغرب، وهم أشد الناس في الحروب والمعارك وأجرئهم على القتال والاقتحام في الوغاء، ولهم آلات واسلحة عجيبة وعدد بديعة لا كمثل سائر آلات الناس وعددهم، وهم أكثرهم أيضا عددا.
{ و } مع كثر عددهم ومركهم وخداعهم { قد أحطنا بما لديه خبرا } [الكهف: 91] يعني: أعلمنا إسكندر ومن عنده من الجند والخدمة علما بجال أعدائهم، فقاتلوا معهم وغلبوا عليهم، فوضع عليهم أيضا شعائر الإسلام مثل ما وضع لأهل المغرب { ثم أتبع سببا } [الكهف: 92] ثالثا، وسار على العرض بين المشرق والمغرب.
{ حتى إذا بلغ بين السدين } أي: بين الجبلين اللذين سد بينهما إسكندر بسد منيع، وهما جبلا يأجوج ومأجوج { وجد من دونهما } أي: عندهما { قوما } أعجميا { لا يكادون يفقهون } ويفهمون { قولا } [الكهف: 93] لغة من اللغات المتداولة.
{ قالوا } بلسان الواسطة والترجمان: { يذا القرنين } نحن أناس ضعفاء مظلومون نحتاج إلى إعانتك؛ لتنقذنا من يد الظلمة { إن يأجوج ومأجوج } علمان للقبيلتين من الترك هما { مفسدون في الأرض } أي: في أرضنا هذه بأنواع الفسادات.
قيل: كانوا يخرجون في الربيع فلا يتركون أخضر ربطا إلا أكلوه، ولا يباسا إلا حملوه، وقيل: كانوا يأكلون الناس أيضا.
صفحه نامشخص