274

{ نحن } من كمال لطفنا معك { نقص عليك } يا أكمل الرسل، تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك { أحسن القصص } استماعا وأكملها انتفاعا وأشملها عبرة وأتمها فائدة وأعمها عائدة؛ إذ الفطن اللبيب استفاد منها من العبر والتذكيرات والرموز والإشارات ما يكفي مؤونة سلوكه في أمر دينه لو كا من ذوي الرشد وأهل الخبرة والبصيرة، وإنما علمناه لك ونبهناه عليك ملتبسا { بمآ أوحينآ } أي: بأيحائنا وإنزالنا { إليك هذا القرآن } المخبر عن المغيبات المكنونة في حضرة علمنا { وإن كنت } في نفسك { من قبله } أي: قبل وحينا وألهامنا إياك { لمن الغافلين } [يوسف: 3].

اذكر يا أكم الرسل { إذ قال يوسف لأبيه } حين بلغ الحلم وترقى من الطفولية: { يأبت } ناداه تحننا إليه { إني رأيت } في المنام { أحد عشر كوكبا } من الكواكب العظام { والشمس والقمر } أيضا معهن { رأيتهم لي ساجدين } [يوسف: 4] واضعين جباههم على تراب المذلة عندي تعظيم وترحيبا - جمعها جمع العقلاء باعتبار ما يؤول إليه ويؤول به - ثم لما تفرس أبوه من الرؤيا ما تفرس، بادر إلى نهيه عن الإفشاء والانتشار لإخوته حيث { قال } له قبل أن يشتغل بتأويلها وتعبيرها: { يبني } صغره؛ تلطفا له وإشفاقا عليه وتخوفا من كبد إخوته { لا تقصص } ولا تذكر { رؤياك } التي رأيتها { على إخوتك } لئلا يحسجوا لك من ارتفاع شأنك { فيكيدوا لك كيدا } بإغواء الشيطان إياهم ويختالوا لمقتك وهلاكك، حسدا لك ولعلو شأنك { إن الشيطان } المغوي المضل { للإنسان عدو مبين } [يوسف: 5] ظاهر العداوة، محيل عظيم، يعاديهم في لباب الصدقة ويفسدهم في سورة الإصلاح.

ثم لما سارع يعقوب عليه السلام بالهي عن الانتشار والإفشاء تحذيرا وتخويفا له من كيد إخوته، اشتغل بتأويل رؤيته، فقال: { وكذلك } أي: مثل إراءتك هذه الرؤيا وتخصيصك بها { يجتبيك ربك } أي: ينتخبك من بين الناس ويخصك بالرئاسة العظمى والمرتبة العليا، وهي النبوة والنيابة الإلهية { و } بعدما يجتبيك ويصطفيك { يعلمك من تأويل الأحاديث } أي: يخصصك بعلم الرؤيا وتعبيرها إلى حيث انكشف لك حضرة الخيال انكشافا تاما { و } بالجملة: { يتم نعمته عليك و } بواسطتك { على ءال يعقوب } أي: بنيه وأحفاده ومن ينتمي إليه وإن سفل { كمآ أتمهآ على أبويك } أي: جديك { من قبل } في سالف الزمان؛ يعني { إبراهيم وإسحاق } أعطاهما من الإنعام والأفضال ما لم يعط أحدا من الخلة والإنجاء والإنقاذ والفدية والخلاص، وغير ذلك من النعم الجسام { إن ربك } الذي رباك بأنواع اللطف والكرم { عليم } بعلمه الحضوري لاستعدادات عباده على مقتضى ما ثبت في لوح قضائه إجمالا { حكيم } [يوسف: 6] في صورة تفضيه على وفق إجماله، لا يشذ عن حيطة علمه شيء.

[12.7-12]

واعلم يا أكمل الرسل أنه { لقد كان في } قصة { يوسف وإخوته } وما جرى بينهم من الحيل والمخادعات وإسقاط المروءة والخيانات، والإنابة والرجوع منها إلى الله في الخلويات، وإظهار العدم والاستحياء من الله، ومنه يوسف وأبيه { آيات } دلائل واضحات، وشواهد مفصحات عن أسرار التوحيد { للسائلين } [يوسف: 7] لو تأملوا في رموزها وإشاراتها واعتبروا منها.

اذكر لهم يا أكمل الرسل: { إذ قالوا } أي: إخوة يوسف حين بثوا الشكوى من أبيهم في خلواتهم، حاسدين على يوسف أخيهم: { ليوسف وأخوه } بنيامين، أضافره لكونه من أمه { أحب إلى أبينا منا } يؤانس معهما ويتحنن إليهما { ونحن عصبة } فرقة ذوو قوة وكفاية تستحق وتليق أن يحبنا ويلتفت إليها، وبالجملة: { إن أبانا } في تفضيل المفضول وترجيح المرجوح { لفي ضلال مبين } [يوسف: 8] ظاهر المخالفة للعقل والعرف.

فعليكم أيها الإخوان أن تتأملوا في أمر أبيكم، وتتشاوروا لمقت يوسف وهلاكه حتى لا يحلق العار عليكم { اقتلوا يوسف } حتى ييأتس أبوكم منه ويقبل إليكم بالكلية { أو اطرحوه أرضا } بعيدة عن العمران غاية البعد حتى ينساه أبوه، وحينئذ { يخل لكم وجه أبيكم } أي: يخص ويخلص لكم مواجهة أبيكم خاليا عن أغياركم، ويقتصر حينئذ التفاته وتحننه نحوكم { وتكونوا من بعده } أي: بعد فقد يوسف عن نظر أبيكم وغيبته من عنه { قوما صالحين } [يوسف: 9] لخدمته وصحبته ومؤانسته، أو المعنى بأن تتوبوا بعدما صدر عنكم هذه الجريمة، ولتكونوا من بعده قوما صالحين تائبين.

وبعدما تشاوروا في مقت يوسف وطرحه وطرده { قال قآئل منهم } وهو يهوذا وكان أ؛سنهم رأيا " { لا تقتلوا يوسف } إذ نحن من عترة الأنبياء، لا يليق بنا قتله بلا رخصة شرعية { و } إن أردتم أن تدفعوه من عند أبيكم { ألقوه في غيبت الجب } الذي على متن الطريق { يلتقطه } أي: يأخذه ويذهب { بعض السيارة } أي: بعض السائرين في أقطر الأرض، الواردين على الماء، فلا طريق لكم لطرده وطرحه سوى هذا { إن كنتم فاعلين } [يوسف: 10] قاصدين جازمين أن تفعلوا معه ما يبعده عن وجه أبيه.

وبعدما سمعوا من يهوذا ما سمعوا واستقرار رأيهم على رأيه ، فأخذوه يحتالون ويمكرون لينالوا ما قصدوا، فاجتمعوا يوما عند أبيهم تحننا عليه وتواضعا { قالوا } له على سبيل الشكوى وإظهار الحزن: { يأبانا } نحن بنوك وخادموك، ويوسف أخونا وقرة عيننا وقوة ظهرنا { ما لك } أي شيء من السوء منا عرض لك ووصل إليك { لا تأمنا } أي: لا تجعلنا أمناء مشفقين { على يوسف وإنا } في أنفسنا { له لناصحون } [يوسف: 11] مشفقون حافظون مريدون الخير له.

ثم لما تفرسوا بأن أثر كلامهم في أبيهم، ولاح منه أمارات الرضا والتسليم، أخذوا في المكر حيث قالوا متضرعين إليه متحنين نحوه: { أرسله معنا غدا } نخرج إلى الصحراء مستنشقين { يرتع } ويتفكه من أنواع الفواكه { ويلعب } بأنواع اللعب من الاستباق والانتضال؛ تفريجا له وتفريحا للقلب { و } لا تخف من أن يلحقه مكروه { إنا له لحافظون } [يوسف: 12] يجمعنا من المكروهات.

صفحه نامشخص