ثم لما استخلصوا منها بالإخلاص والإخبات الصاق { لهم البشرى } عند الله بالفوز العظيم { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } إذ هم تحققوا بمقام العبودية وتقرروا في مقر التوحيد، ووصلوا إلى ما أظهر الحق لأجله وهو المعرفة والشهود { لا تبديل لكلمات الله } التامات الناطقة بالكرامة والبشرى { ذلك } التبشير الشامل للنشائين { هو الفوز العظيم } [يونس: 64] واللطف الجسيم لأهل العناية من أرباب القبول.
{ و } بعدما تحققت يا أكمل الرسل بولاية الله واتصفت بولائه وفزت بما فزت { لا يحزنك قولهم } الباطل بالكفر والإشراك بالله وتكذيب كتابه، ومنه أنزل إليه، ولا تغتم بتهديدهم إياك ولا تبال مفاخرتهم وخيلاءهم بالمال والجاه عليك { إن العزة } المعتبرة العظيمة { لله } المتعزز برداء العظمة والجلال، المتوحد بنعوت الكمال والجمال { جميعا } لا يعتد بعزة هؤلاء الغواة والعصاة، وسيخذلهم الله عن قريب بالقهر والانتقام، وبنصرك عليهم بالغلبة والاستيلاء؛ إذ { هو السميع } لأقوالهم الكاذبة الباطلة { العليم } [يونس: 65] بنياتهم الفاسدة يجازيهم على مقتضى علمه، وينتقم عنهم وفق خبرته.
قل يا أيها النبي الهادي لمن يدعي ربوبية الأظلال الهالكة وألوهية التماثيل الباطلة تنبيها لهم وإيقاضا عن غفلتهم: كيف تدعون أيها الحمقى شركة المصنوع المفضول مع الصانع القديم الحكيم؟! { ألا إن لله } أي: تنبهوا أيها المسرفون الجاهلون بقدر الله المتوحد المتفرد بذاته، المتجلي في الآفاق بأسمائه وصفاته، مظاهر { من في السموت } من الملائكة { ومن في الأرض } من الثقلين، وهم من فضلهم وشرفهم وعلو شأنهم لا يستحقون الألوهية والربوبية { و } كيف يستحق أولئك الجمادات الساقطة عن درجة الاعتبار لذلك { ما يتبع } المشركون { الذين يدعون من دون الله شركآء } في ألوهيته مستحقين للعبادة كعبادته إلا الزور الباطل والزائع الزائل بل { إن يتبعون } أي: ما يتعبون هؤلاء الضالون المشركون { إلا الظن } والتخمين الناشئ من جهلهم وغفلتهم عن سر هوية الحق في المظاهر كلها؛ لذلك حقروها في مظهر دون مظهر { وإن هم إلا يخرصون } [يونس: 66] أي: ما هم في ادعائهم وحصرهم هذا إلا كاذبون آفكون إفكا عظيما، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[10.67-70]
كيف تغفلون عن الله أيها الجاهلون، وكيف تشركون معه غيره أيها المحجوبون { هو الذي جعل لكم اليل } بكمال قدرته وحكمته لباسا { لتسكنوا فيه } وتستريحوا من المتاعب { و } جعل لكم { النهار مبصرا } لتهتدوا إلى مطالبكم في أمور معاشكم { إن في ذلك } الجعل والتقدير { لآيات } عظام ودلائل جسام على كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته وتوحده في ألوهيته، وتفرده في ربوبيته واستقلاله في التصرف بلا مظاهرة أحد ومشاركة ضد وند { لقوم يسمعون } [يونس: 67] سمع تدبر وتدرب واستكشاف تام بعزيمة صادقة صافية عن شوب الغفلة والذهول.
ومن كثافة حجبهم وغشاوة قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ما قدروا الله حق قدره؛ لذلك نسبوا إليه ما هو منزه عنه سبحانه؛ حيث { قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه } وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، كيف يكون له ولد { هو الغني } بذاته عن التعدد مطلقا، ليس لغيره وجود أصلا، بل { له } مظاهر { ما في السموت وما في الأرض } ظهر عليها سبحانه حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا على مقتضى التجلي الحبي اللطفي بلا انصباغ لها بالكون والتحقق بالانعكاس؟ { إن عندكم } أي: ما عندكم أيها المجاهلون بمعرفة الله وحق قدره { من سلطان } حجة وبرهان { بهذآ } الادعاء الكاذب والقول الباطل، بل تتكلمون به افتراء ومراء { أتقولون } وتفترون أيها المفترون { على الله ما لا تعلمون } [يونس: 68] ولا تدركون لياقته لجنابه.
{ قل } يا أكمل الرسل نيابة عنا للمكذبين المفترين كلاما ناشئا عن محض الحكمة: { إن الذين يفترون } وينسبون { على الله الكذب لا يفلحون } [يونس: 69] ولا يفوزون في النشأة الأخرى بمرتبة التوحيد التي هي معراج أهل الكمال، بل يحصل لهم بافترائهم هذا { متاع } أي: تمتع قليل { في الدنيا } من الرئاسة والجاه { ثم } بعد انقضاء النشأة الأولى { إلينا مرجعهم } في النشأة الأخرى { ثم } بعد تيقنهم وكشفهم فيها { نذيقهم العذاب الشديد } بدل ما يتلذذون في النشأة الأولى { بما كانوا يكفرون } [يونس: 70] أي: بسبب كفرهم وشركهم.
[10.71-73]
{ واتل } يا أكمل الرسل { عليهم } تذكيرا وتعريضا { نبأ نوح } أي: قصته مع قومه وقت { إذ قال لقومه } حين استعظموا أمره وقصدوا إهلاكه عنادا ومكابرة: { يقوم } أضافهم إلى نفسه على مقتضى شفقة النبوة { إن كان كبر } أي: شق وعظم { عليكم مقامي } فيكم، وحياتي بينكم { وتذكيري } إياكم { بآيات الله } الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته { فعلى الله } لا على غيره؛ إذ لا غير معه لا شيء سواه { توكلت } أي: وثقت به وفوضت أمري إليه { فأجمعوا } أي: فعليكم أن تجمعوا { أمركم } وتدابيركم في قتلي وإهلاكي { و } مع ذلك اجعوا { شركآءكم } مستظهرين لهم في دفعي { ثم } بعد تدبيركم واستظهاركم بهم أظهورا علي بحيث { لا يكن أمركم } أي: لم يبق فيه { عليكم غمة } سترة تغتمو بها وتحزنون بسببها، بل رتبوا أمركم على ما تقتضيه نفوسكم وترتضيه عقولكم { ثم اقضوا إلي } واصرفوا نحوي ما هيأتم ودبرتم من الأسباب الموجبة لإهلاكي { ولا تنظرون } [يونس: 71] أي: لا تمهلوني طرفة بل امضوا على ما أنتم عليه من قتلي وإهلاكي، فإني لا أبالي بكم وبتدابيركم وظهرائكم؛ إذ الله حسبي وعليه توكلي وبه اعتمادي واعتصامي، أذكر لكم بإذنه وأعظكم بوحيه.
{ فإن توليتم } وانصرفتم عن تذكيري { فما سألتكم من أجر } أي: ليس بسبب توليكم وإعراضكم سؤالي منكم الجعل حتى يشق عليك إعطاؤه فانصرفتم وأعرضتم، بل { إن أجري } أي: ما أجري وجعلي { إلا على الله } الذي أمرني به { وأمرت } من عنده { أن أكون من المسلمين } [يونس: 72] المسلمين الأمور كلها إليه، المنقادين لحكمه وقضائه؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود.
صفحه نامشخص