240

{ أولا يرون أنهم } من خباثة بواطنهم ورجاسة نفوسهم { يفتنون } يقتلون ويصابون { في كل عام مرة } بلية { أو مرتين } بليتين؛ لتلين قلوبهم بها، ويتنبهوا فيتوبوا { ثم لا يتوبون } إلى الله من كفرهم، ولا يرجعون نحوه بالإيمان؛ ليقبل عنهم { ولا هم يذكرون } [التوبة: 126] بها؛ أي: يتذكرون ويتفطنون بها، بل يصرون ويعاندون.

{ و } من جملة إصرارهم وعنادهم: إنهم { إذا مآ أنزلت سورة } مفضحة لهم، مفصحة بما عليهم من النفاق والشقاق، ونقض العهود والميثاق { نظر بعضهم إلى بعض } يتغامزون بعيونهم، ويقولون استهزاء وتهكما: { هل يراكم من أحد } من هؤلاء المؤمنين { ثم انصرفوا } من عنده مريدين النفاق الشقاق بأضعاف ما كنوا عليه؛ بسبب تفضيحهم بهذه السورة، لذلك { صرف الله } الهادي لعباده { قلوبهم } عن الإيمان وجادة التوحيد { بأنهم } أي: بسبب أنهم { قوم لا يفقهون } [التوبة: 127] أي: لا يفهمون لذة الإيمان، ولا يتخلقون على نشأة التوحيد والعرفان، مثل الموحدين.

لذلك { لقد جآءكم } أيها الأعراب { رسول } بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة، منتشئ { من أنفسكم } وجنسكم، ومن غاية شفقته ومرحمته لكم { عزيز } شاق شديد { عليه } صلى الله عليه وسلم { ما عنتم } أي: عنتكم ولقاءكم المكروه؛ إذ هي من أمارات الكفر والشرك، وعدم الإطاعة والانقياد بأوامر الله ونواهيه، مع أنه { حريص عليكم } أي: على إيمانكم وإسلامكم وإصلاح حالكم؛ إذ هو { بالمؤمنين } الموقنين، الموحدين، المخلصين { رءوف } عطوف، مشفق { رحيم } [التوبة: 128] يرحمهم ويرضى عنهم؛ لخروجهم عن ظلمة الكفر بنور الإيمان.

وكن في نفسك يا أكمل الرسل على الوجه المذكور { فإن تولوا } وأعرضوا، وانصرفوا عنك وعن الإيمان بك وبدينك وكتابك { فقل } في نفسك ملتجئا إلى ربك: { حسبي الله } الرقيب علي، يكفيني مؤنة خصومتهم عني؛ إذ { لا إله } يرجع إليه في الوقائع، ويلجأ نحوه في الخطوب { إلا هو عليه } لا على غيره؛ إذ لا غيره حق في الوجود { توكلت } فلا أرجو ولا أخاف إلا منه { و } كيف لا أتوكل عليه وأرجع إليه؛ إذ { هو } بذاته { رب العرش العظيم } [التوبة: 129] أي: مريبة، والمستوي عليه بالاستقلال والإحاطة، والاستيلاء التام؛ إذ لا شيء في الوجود سواه، وكل شيء هالك إلا وجهه.

خاتمة السورة.

عليك أيها الطالب المشمر لسلوك طريق الفناء، كي تصل إلى فضاء البقاء - شكر الله سعيك وهداك إلى غاية مبتغاك - أن تقتفي في تشمرك هذا أثر من نبهك عليها وهداك إليها، وهو الذي اختاره الله واصطفاه من بين خليقته؛ لتكميل بريته، وأظهره على صورته، وخلقه بجميع أخلاقه، لذلك اتخذه حبيبا وجعله على سائر الأنبياء إماما ونقيبا.

وتشبث بأذيال لطفه فعلا وقولا وشيمة، صارفا عنان عزمك إلى سرائر جميع ما جاء به من عند ربه؛ لإرشاد عباد الله، وما سمح به من تلقاء نفسه - صلوات الله عليه وسلامه - من الرموز والإشارات التي استنبطها من كلامه، وفاضت عليه بوحي الله وإلهامه، لصفاية استعداده الذي صار به مرآة لتجليات الحق وشئونه وتطوراته، وخليفة الله في أرضه وسمائه، وما التقط من كلماته وإشاراته الأولياء الوارثون منه، المقتفون أثره - قدس الله أرواحهم - وما ورد عليهم من تفاوت طبقاتهم في طريق التوحيد من المواجيد والملهمات الغيبية، المنتشئة من النفحات الإلهية والنفسات الرحمانية الناشئة من التجليات الجمالية والجلالية، المتفرعة على الشئون والتطورات الكمالية.

وبالجلمة: لا بدذ لك أن تفرغ هتمك عما سوى الحق مطلقا، ولا يتيسر لك هذا إلا بمتابعة المحققين بمقام الكشف والشهود، الواصلين إلى مقام المراقبة والمشاهدة، والاستفادة منهم ومن ملتقطاتهم ووارداتهم حتى يمكن لك التمكن في مكمن الفناء، والتقرب في مقر البقاء، وحنيذ يصح لك أن تقول بلسان حالك ومقالك: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.

جعلنا الله من عباده المفوضين، المتوكلين الذين يتخذون الله وقاية ووكيلا، ويجدونه وليا وحسيبا.

[10 - سورة يونس]

صفحه نامشخص