192

وهم من شدة قسوتهم وعمههم لا يتعظون بأمثال هذا، بل { فإذا جآءتهم الحسنة } الخصب والرخاء وكل ما يسرهم ويفرع نفوسهم { قالوا } مغالبين: { لنا هذه } أي: لأجلنا وسعادة طالعنا، ونحن مستحقون بها { وإن تصبهم } أحيانا { سيئة } مشقة وعناء وما يشوشهم ويملهم { يطيروا } أي: يتطيروا ويتشاءموا { بموسى ومن } آمن { معه } وقالوا: إنما عرض علينا هذا البلاء بشؤم هؤلاء { ألا } أي: تنبهوا أيها المتنبهون المتوجهون نحو الحق في السراء والضراء { إنما طائرهم } أي: ما يتطيرون به ويتشاءمون بسبه { عند الله } وفي قبضة قدرته ومشيئته؛ إذ له التصرف بالاستقلال في ملكه والقبض والبسط من عنده وبيده، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد { ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأعراف: 131] فيرون الأسباب والوسائل في البين ويسندون الحوادث الكائنة إليها عنادا ومكابرة.

{ و } من شدة شكيمتهم وغيظهم وكمال قسوتهم وبغضهم { قالوا } مستهزئين منهمكين { مهما تأتنا به من آية } أي: أي شيء تحضرنا به ليغلب علينا من سحرك الذي سميته آية نازلة { لتسحرنا بها } فأت سريعا إن استطعت { فما نحن لك بمؤمنين } [الأعراف: 132] أي: متى استبطأت وتأخرت.

{ فأرسلنا عليهم } إمدادا لموسى وانتقاما لهم { الطوفان } أي: الماء الذي طاف حولهم ودخل بيوتهم ووصل إلى تراقيهم، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل مع أنها متصلة ببيوتهم ولم يتضرروا - أي: بنو إسرئيل - من الماء أصلا، ثم لما تضرروا واضطربوا وكادوا أن يغرقوا، تضرعوا إلى موسى وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن بك، فدعا فكشف عنهم ونبت من الزرع والكلأ ما لم يعهدوا، فنكثوا عهدهم، ونسبوا دعاءه إلى السحر { و } بعد أرسلنا عليهم { الجراد } فأكلت زروعهم وثمارهم، وأخدت تأكل السقوف والأبواب والثياب، فتضرعوا إلى موسى، فدعا وانكشف وخرج إلى الصحراء مشيرا بعصاه نحو الجراد يمنة ويسرة، فتفرقت إلى النواحي والأقطار فنكثوا.

{ و } أرسلنا بعدها { القمل } دودا أصفر من الجراد، قيل: إنها حدثت من الجراد، فأخذت أيضا تأكل ما بقي من الجراد وتقع في الأطعمة وتدخل بين أثوابهم فتمص دماءهم، ففزعوا إليه فكشف عنهم، فقالوا: علمنا الآن إنك ساحر عليم { و } بعد ذلك أرسلنا { الضفادع } بحيث لا يخلو مكان منه، و تبث إلى قدورهم وأوانيهم وأفواههم حين تكلموا، ففزعوا نحوه معاهدين، فخلصوا بدعائه ثم نقصوا { و } بعد ذلك أرسلنا { الدم } حيث صار المياه كلها عليهم دماء حتى كان القبطي والإسرائيلي يجتمعنا على إناء فيصير ما يلي القبطي دما وما يلي السبطي ماء، ويمص القبطي ماء من فم السبطي فيصير دما.

وإنما أرسلت عليهم هذه البليات لتكون { آيات } آي: دلائل وعلامات دالة على كمال قدرتنا { مفصلات } مبينات واضحات مميزات بين الهداية والضلالة والحق والباطل والرشد والغي { فاستكبروا } عنها مع وضوحها وسطوعها وأعرضوا عن مدلولاتها وأصروا على ما هم عليها { وكانوا قوما مجرمين } [الأعراف: 133] مستحقين بالعذاب والعقاب، فلم ينفعهم الآيات والنذر؛ لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم.

[7.134-137]

{ و } كانوا { لما وقع عليهم الرجز } أي: حين وقع ونزل عليهم البلاء والمصيبة { قالوا } متضرعين متفزعين: { يموسى } الداعي للخلق إلى الحق { ادع لنا ربك } الذي رباك بأنواع الكرامات { بما عهد عندك } من إجابة دعواتك وقبول حاجاتك، و الله { لئن كشفت عنا الرجز } بدعائك { لنؤمنن لك } مصدقين رسالتك ونبوتك { ولنرسلن معك بني إسرآئيل } [الأعراف: 134] بلا ممانعة ولا مماطلة.

{ فلما كشفنا عنهم الرجز } بدعائه { إلى أجل هم بالغوه } عينوه لأيمانهم وإرسالهم حتى يتأملوا ويتفكروا فيها { إذا هم ينكثون } [الأعراف: 135] أي: بعدما وصل وقت الوفاء والإيفاء بالعهود والمواثيق، بادروا إلى النقض والنكث.

ثم لما بالغوا في أمر النقض والنكث وخالفوا أمرنا وكذبوا نبينا { فانتقمنا منهم } أي: أردنا انتقامهم وأخذهم { فأغرقناهم في اليم } أي: البحر العميق لانهماكهم في بحر الغفلة والطغيان { بأنهم كذبوا بآياتنا } الدالة الموصلة إلى توحيدنا الذاتي { وكانوا } بسبب استغراقهم في بحر الغفلة والضلا { عنها غافلين } [الأعراف: 136] محجوبين لا يهتدون بأهداء الرسل والإنبياء.

{ و } بعدما أغرقناهم في يك العدم واستأصلناهم عن فضاء الوجود { أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } بالقهر والغلبة بقتل الأبناء واستحياء النساء { مشارق الأرض } المعهود أي: مصر ومشارقها الشام ونواحيها { ومغاربها } الصعيد ونواحيها { التي باركنا فيها } أي: كثرنا فيهم الخير والبركة وسعة الأرزاق وطيب العيش من جميع الجهات { و } بعدما أورثناهم ما أورثناهم { تمت } أي: كملت وحقت { كلمة ربك الحسنى } يا موسى بإنجاز الوعد والنصر والظفر وإيراث الديار والأموال، وغر ذلك { على بني إسرآئيل بما صبروا } أي: بسبب ما صبروا على أذياتهم المتجاوزرة عن الحد { ودمرنا } أي: هدمنا وخربنا { ما كان يصنع فرعون وقومه } من الأبنية الرفيعة والقصور المشيدة { وما كانوا يعرشون } [الأعراف: 137] عليها متفرقين بطرين كمسرفي زماننا هذا، أحسن الله أحوالهم.

صفحه نامشخص