وعليكم أن تحافظوا على النهي بعد الورود، ولا تخافوا عما قبله؛ إذ { عفا الله عما سلف } أي: محا عن الديوان، وأسقط عن الحساب ما اكتسبتم من الجرائم حين كونكم تائيهن في بيداء الغفلة { ومن عاد } عليها بعدما نبه وتنبه { فينتقم الله منه } ويؤاخذه عليه ويحاسبه عنه، ويجازيه على مقتضى حسابه { و } لا تغتروا بحلمه وإمهاله ومجاملته؛ إذ { الله } المستغني في ذاته عن جميع الشؤون والنشأة { عزيز } غالب غيور، متكبر، قهور { ذو انتقام } [المائدة: 95] عظيم، وبطش شديد على من تخلف عن حكمه، وأصر عليه.
نعوذ بفضلك من عذابك يا ذا القوة المتين.
{ أحل لكم } أيها المحرمون { صيد البحر } مائي المولد مظلقا إلا ما تستكرهه طباعكم { وطعامه } أكله { متاعا لكم } يمتعون بها مجانا { و } كذا { للسيارة } للتجارة والزيارة وغيرها تتزودون منها { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } أي: من أول مدة إحرامكم إلى أول الحل { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } [المائدة: 96] وتساقون أيها المؤمنون.
وعليكم الحذر والاتقاء عن التعرض بمصنوعاته بقهر وغلبة في جميع حالاتكم سيما عد لبس الإحرام الذي هو كفن الفناء المعنوي، والموت الحقيقي عند أولي الألباب الناظرين إلى لب الأحكام وزبدته.
وكما أن في الموت الصوري لا يبقى للقوى والأوصاف الظاهرة آثار وأفعال، بل تعطلت، وانمحت، وتلاشت بحيث لا يتوقع منها ذلك أصلا، كذلك في الموت الإرادي الذي هو عبارة عن حج العارف لا بد من إحرامه، وتعطيله أعضاءه وجوارحه عن مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الحيوانية، وعن جميع التعينات الجمسانية والرحانية، والغيبية والشهادية، والظاهرية والباطنية، وبالجلمة: عن جميع الإضافات والكثرات الحاجبة لصرافة الوحدة الذاتية، المستهلكة عنها جميع ما يتوهم من الأضلال والعكوس.
لذلك صار الموت الإرادي أشد في الانمحاء، وأغرق في الفناء من الموت الصوري؛ إذ ينتهي الأمر في الموت الإرادي إلى العدم والصرف والفناء المطلق الذي ما شم رائحة الوجود أصلا، فكيف تخلل الموت والحياة، والوجود والعدم، وتاهت في بيداء ألوهيته أنظار العقل وآرائه؟.
[5.97-100]
إنما { جعل } وصير { الله } المستغني بذاته عن الأمكنة والحلول فيها مطلقا { الكعبة } الكعبة المعيننة في أرض الحجاز { البيت الحرام } أي: المكان الذي يحرم فيه أكثر ما يحل في غيرها من الأمكنة، بل جميعها عند العارف؛ ليكون { قيما للناس } يقومون بها ويتيقظون بأركانها ومناسكها، وآدابها ومشاعرها عن منام الغفلة ورقود النسيان { و } كذا صير { الشهر الحرام } ميقاتا لزيارتها وطوافها؛ ليقوموا فيها بتهيئة أسباب الفناء، وتخلية الضمير عن الميل إلى الغير والسوى.
{ و } صير سبحانه أيضا { الهدي والقلائد } جبرا لما انكسر من رعاية نسكه، وأراد به؛ لئلا يتقاعدوا عن إتمامها { ذلك } أي : جعلها وتصييرها مرجعا لقاطبة الأنام، وقبلة لهم بحيث يجب عليهم التوجه نحوه من كل مرمى سحيق، وفج عميق، إنما هو { لتعلموا أن الله } المحيط بذرائر الأكوان { يعلم } بالعلم الحضوري جميع { ما في السموت } أي: العلويات والأعيان الثابتة { وما في الأرض } السفليات التي هي الهويات الباطلة { و } ليعلموا { أن الله } المنزه، المتعالي عن أن يحاط بمجلاه وتجلياته { بكل شيء } مما استأثر باطلاعه، وما يعلم جنوده إلا هو { عليم } [المائدة: 97] لا يعزب عن علمه وحضوره شيء، كلت الألسن عن تفسير صفتك، وانحسرت العقول عن كنه معرفتك، فكيف يعرف كنه صفتك يا رب؟.
وبالجملة: { اعلموا } أيها المتوجهون نحو الحق وزيارة بيته { أن الله شديد العقاب } لا تغتروا بإمهاله له بمقتضى لطفه وجماله، بل احذروا، وخافوا عن سطوة سلطنة قهره وجلاله { و } اعلموا أيضا { أن الله غفور } ستار لذنوب عباده المخلصين { رحيم } [المائدة: 98] لهم، يرحمهم بمقتضى جماله ونواله، عين عليكم أن تكونوا مقتصدين، معتدلين بين طرفي الخوف والرجاء؛ لتكونوا من زمرة عباده الشاكرين.
صفحه نامشخص