{ والذين } لم يرتبقوا الرجوع، ونسوا ما هم عليه في الجنة ولم يلتفتوا إلى الهدى المؤتى، و { كفروا } به وأنكروا له { وكذبوا } رسلنا الذين أتوا إياهم { بآيتنآ } دلائلنا الدالة على صدقهم من المعجزات الظاهرة، والآثار الباهرة { أولئك } الهابطون الناسون والموطن الأصلي والمقام الحقيقي، المستبدلون عن الجنة بعرض هذا الأدنى، والكافرون بطريق الحق، والمكذبون بمن يهديهم { أصحب النار } التي هي معدن البعد والخذلان، ومنزل الطرد والحرمان { هم } بسبب نسيانهم وتكذيبهم { فيها خلدون } [البقرة: 39] إلى ما شاء الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
ثم لما بين سبحانه وتعالى طريق الهداية والضلال، ونبه على جزاء كل منهما إجمالا، أشار إلى تفصيله وتوضيحه من قصص القرون الماضية والأمم السالفة، ليتيقن المؤمنين منها ومن جملتها قصة ندائه تعالى بني إسرائيل أولاد يعقوب إسرائيل الله، مخاطبا لهم أمر تذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم؛ ليكونوا من الشاكرين لنعمه، الموفين بعهده بقوله:
{ يبني إسرائيل } المتنعمين بالنعم الكثيرة { اذكروا } واشكروا { نعمتي التي أنعمت عليكم } وعلى من استخفلكم من أسلافكم { وأوفوا } بعد اعتدادكم النعم على أنفسكم { بعهدي } الذي عاهدتم معي من متابعة الهدى النازل مني على لسان الأنبياء { أوف بعهدكم } من إرجاعهم إلى المقام الأصلي الذي أنتم فيه قبل هبوطكم إلى طار المحن، وبعد رجوعكم إليه في النشأة الأخرى، لا يبقى لكم خوف من الأغيار، بل رهبة من سطوة سلطنتي { و } عند عروجها { إيي } لا إلى غيري { فارهبون } [البقرة: 40] فارجعون؛ لأوانس معكم وأزيل رهبتكم.
{ و } علامة وفائكم بعهدي هي الإيمان { آمنوا } على وجه الإخلاص والإيقان { بمآ أنزلت } من فضلي على كل واحد من رسلي بالقرآن المنزل على الحضرة الختمية الخاتمية، المؤيد بالدلائل القاطعة والحجج الساطعة والمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة مع كونه { مصدقا لما معكم } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين، مشتملا على ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ والحقائق مع لطائف أخر خلت عنها جميعها، وبعد ظهور المنزل به وادعاء من أنزل عليه الرسالة والإهداء { ولا تكونوا أول كافر به } أي: لا تكونوا مبادرين على الكفر بالمهدي وما هدى به، بل كونوا أول من آمن به وصدق بما جاء به من عند ربه، فانتهزوا الفرصة للإيمان ولا تغفلوا عنه { و } بعد نزوله وظهوره { لا تشتروا } ولا تستبدلوا { بآيتي } المنزلة على أنبيائي { ثمنا قليلا } من المزخرفات الفانية { و } إن عسر عليكم ترك هذا الاستبدالا لميل نفوسكم إليه بالطبع { إيي } عند عروض ذلك { فاتقون } [البقرة: 41] لأحفظكم عنه وأسهله عليكم.
{ ولا تلبسوا الحق } الظاهر الثابت { بالبطل } الموهوم الزخرف للضعفاء الذين تمييز لهم { و } لا { تكتموا الحق } أيضا في نفوسكم { وأنتم تعلمون } [البقرة: 42] حقيقته عقلا وسمعا.
[2.43-48]
{ و } بعدما آمنتم بالله وكتبه المنزلة على رسله ذهبتم عما نهيتم { أقيموا الصلوة } أديموا الميل والتقرب إلى جنابه، وتوجهوا نحو بابه بجميع الأعضاء والجوارح، قاصدين فيه تخلية الظاهر والباطن عن الشواغل النفسية، والعوائق البدنية المانعة من الميل الحقيقي { وآتوا الزكوة } المطهرة لنفوسهم عن العلائق الخارجية، والعوارض اللاحقة المثمرة لأنواع الأمراض في الباطن في البخل والحسد والحقد و غير ذلك { و } إن قصدتم التقرب والتوجه على الوجه الأتم الأكمل { اركعوا } تذللوا وتضرعوا إليه سبحانه { مع الركعين } [البقرة: 43] الذين خرجوا عن هوياتهم بالموت الإرادي، ووصلوا إلى ما وصلوا بل اتصلوا، لا مع الذين يراءون الناس، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، لذلك خاطبهم الحق سبحانه على سبيل التوبيخ، فقال:
{ أتأمرون } أيها المراءون المدعون لليقين والعرفان { الناس } على سبيل النص والتذكير { بالبر } المقرب إلى الله { وتنسون } أنتم { أنفسكم } من امتثال ما قلتم { و } الحال أنكم { أنتم تتلون الكتب } المشتمل على الأوامر والنواهي، فحقكم أن تمتثلوا بها أولا { أ } تلتزمون تذكير الغير، وأنتم في الغفلة { فلا تعقلون } [البقرة: 44] ثبيح صنيعكم هذا.
ولما أمرتم بعد الإيحاء بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المطهرين لنفوسكم ظاهرا وباطنا، فعليكم الإتيان بالمأمور على الوجه الأتم، ولا يتيسر لكم الإتيان بها على الوجه الذي ذكر بإدامة الاستعانة { و } المظاهرة من الخصلتين؛ لذلك أمر سبحانه باستعانتهما { استعينوا } في التوجيه والتقرب إلى الله { بالصبر } عن المستلذات الجسمانية والمشتهيات المزينة { والصلوة } الميل والإعراض عما سوى الحق ولا تسهلوا أمر الاستعانة ولا تخففوها { وإنها لكبيرة } ثقيلة شاقة على كل واحد { إلا على الخشعين } [البقرة: 45] الخاضعين.
صفحه نامشخص