تقديم السلسلة
تمهيد
1 - أصول التفكير النقدي
2 - عناصر التفكير النقدي
3 - تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه
4 - أين نذهب من هنا؟
مسرد المصطلحات
ملاحظات
مصادر إضافية
تقديم السلسلة
صفحه نامشخص
تمهيد
1 - أصول التفكير النقدي
2 - عناصر التفكير النقدي
3 - تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه
4 - أين نذهب من هنا؟
مسرد المصطلحات
ملاحظات
مصادر إضافية
التفكير النقدي
التفكير النقدي
صفحه نامشخص
تأليف
جوناثان هابر
ترجمة
إبراهيم سند أحمد
مراجعة
الزهراء سامي
أهدي هذا الكتاب إلى أمي وأبي؛
لأنهما علماني التفكير!
تقديم السلسلة
تقدم سلسلة «المعرفة الأساسية» التابعة لمؤسسة «إم آي تي بريس» كتبا سهلة وموجزة في حجم الجيب وبديعة الكتابة، تناقش الموضوعات التي تثير الاهتمام في الوقت الحالي. ولما كانت كتب هذه السلسلة من تأليف مفكرين بارزين، فإنها تقدم آراء الخبراء بشأن موضوعات تتنوع بين المجالات الثقافية والتاريخية إضافة إلى العلمية والتقنية.
صفحه نامشخص
ففي هذا العصر الحالي الذي يتسم بالإشباع الفوري من المعلومات، أصبحنا نصل بسهولة شديدة إلى الآراء السطحية والتبريرات والتوصيفات. أما الوصول إلى المعارف التأسيسية التي تمدنا بفهم مبدئي عن العالم، فهو أمر أصعب كثيرا. ولهذا؛ فإن كتب سلسلة «المعرفة الأساسية» تشبع تلك الحاجة. ومن خلال تناول الأساسيات للجمع بين عرض المواد المتخصصة في مستوى القارئ غير المتخصص وبين الموضوعات المهمة الشائقة، يقدم كل من هذه الكتب المركزة للقارئ مدخلا سهلا للأفكار المعقدة.
بروس تيدور
أستاذ الهندسة البيولوجية وعلوم الكمبيوتر
بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
تمهيد
في خطاب يركز على سياسة التعليم الوطني ألقاه الرئيس باراك أوباما عام 2009، أطلق الرئيس التحدي التالي:
إنني أدعو حكام أمتنا ومسئولي التعليم الحكومي إلى تطوير معايير ووسائل تقييم لا تقتصر على قياس قدرات الطالب في الإجابة عن أسئلة الاختبار فحسب، بل تهدف إلى قياس إذا ما كان الطالب يتمتع بالمهارات التي يتطلبها القرن الحادي والعشرون مثل حل المشكلات والتفكير النقدي وريادة الأعمال والإبداع، أم لا.
1
تمثل أحد مظاهر هذه الأولوية الوطنية في مبادرة «المعايير الحكومية للأساس المشترك»، وهي مجموعة من المعايير في اللغة والرياضيات نفذت مبدئيا في ست وأربعين ولاية أمريكية؛ وتتمثل أولويتها في «تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات والمهارات التحليلية التي يحتاج إليها الطلاب للنجاح.»
2
صفحه نامشخص
وقبل ذلك بعقدين، أعلنت إدارة الرئيس جورج إتش دبليو بوش عن مبادرة تعليمية أسمتها «أمريكا 2000»، عبرت عن الهدف التالي بصفته جزءا من «الهدف الخامس: محو أمية الكبار والتعلم مدى الحياة»، وهو: «زيادة نسبة خريجي الجامعات الذين يتمتعون بمستوى متقدم في قدرات التفكير النقدي وفاعلية التواصل وحل المشكلات زيادة كبيرة.»
3
تؤكد هذه الأولويات التعليمية الوطنية وغيرها من المبادرات والمشاريع البحثية التي يعود تاريخها إلى ما يزيد عن قرن من الزمان؛ على أهمية «التفكير النقدي»، وهو نوع من التفكير، له سماته التي تميزه عن الذكاء العام أو المناقب الفكرية؛ مثل التأمل والحكمة.
في وقتنا الحاضر، لا ينفك المعلمون والعاملون في مجال إصلاح التعليم بجميع أنحاء العالم يصرحون بضرورة التخلي عن طريقة التعليم بالتلقين، والاهتمام بدلا من ذلك بتنشئة أشخاص يتمتعون بمهارة التفكير النقدي؛ وذلك هو نوع الأشخاص الذي يجد أشد الإقبال من أصحاب الأعمال.
اتضح هذا المطلب في تقرير بحثي أجرته رابطة الكليات والجامعات الأمريكية في عام 2013، وأشار إلى أن «أكثر من 75 بالمائة من [أصحاب الأعمال] الذين اشتركوا في الدراسة الاستقصائية؛ قالوا إنهم يريدون مزيدا من التركيز على خمسة مجالات أساسية، وهي: التفكير النقدي، وحل المشكلات المعقدة، والتواصل الكتابي، والشفهي، والمعارف التطبيقية في بيئات العالم الواقعي.»
4
في عام 2018، دشنت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي - وهي هيئة دولية تعنى بالتنمية الاقتصادية وتتألف من الدول الأكثر تقدما في الميدان الاقتصادي - مشروعا لدراسة الكيفية التي يمكن تبنيها لتدريس التفكير النقدي وتقييمه؛ دعما لفكرة «الإجماع المتزايد على أن التعليم الرسمي يجب أن يصقل مهارات الإبداع والتفكير النقدي لدى الطلاب كي يساعدهم على النجاح في البيئات الاقتصادية الحديثة ذات الصبغة العالمية والقائمة على المعرفة والابتكار».
5
إضافة إلى ذلك، فإن التغيرات الاقتصادية العالمية المتمثلة في تفضيل الابتكار الفردي على الإنتاج الواسع النطاق، أثارت الاهتمام بتنمية مهارة التفكير النقدي لدى الأشخاص في بلدان مثل الصين، حيث يوجد في التعليم العالي عدد صغير - لكنه متزايد - من برامج التفكير النقدي التي تناهض نظام التعليم التقليدي القائم على سلطة المعلم في نقله لنصوص ثابتة. ومثلما أشار أحد الباحثين: «إن مصطلح التفكير النقدي يستخدم أحيانا في الدوريات الأكاديمية ووسائل الإعلام؛ للإشارة إلى استراتيجية الخلاص اللازمة لخروج الصين من نظام التعليم العتيق، القائم على التلقين والحفظ.»
6
صفحه نامشخص
وبخلاف الاقتصاد، فإن جدالاتنا السياسية بشأن «الأخبار الكاذبة» وغيرها من الموضوعات الخلافية الحساسة، تشير إلى أهمية مهارات التبرير المنطقي التي تتيح لنا معرفة الحقيقة واتخاذ قرارات واعية. فقد كان من تداعيات انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، الشعور بالأزمة فيما يتعلق بقدرة الناخبين على تحديد خياراتهم بناء على التفكير المنطقي، لا الأحكام العاطفية أو العصبية القبلية التي تسم الكثير من السياسات الأمريكية والعالمية اليوم، أو كليهما.
ومثلما توضح هذه الأمثلة، فإن «التفكير النقدي» قد اتخذ في عصرنا الحاضر دورا بارزا في النقاشات التعليمية العالمية، وأصبح الهدف المتمثل في تنشئة المفكرين النقديين من المحاور التي تشكل مبادرات بارزة على غرار مبادرات وضع المعايير الأكاديمية على مستوى الدولة. يمكن حتى الجزم بأهمية اكتساب تلك المهارة وتطبيقها للحفاظ على بقاء مجتمعنا؛ إن لم يكن للحفاظ على نوعنا البشري. وبالرغم من هذا، فلست أدري عدد الأشخاص الذين يستطيعون الإجابة عن السؤال التالي إذا طرح عليهم: ما هو التفكير النقدي؟
تستند محاولتي الخاصة في الإجابة عن هذا السؤال إلى مجموعة من الخبرات التي تتضمن التعاون مع أصحاب الأعمال لتطوير أساليب لتقييم التفكير النقدي وغيره من المهارات الإدراكية وقياسها، إضافة إلى دمج التفكير النقدي في المناهج الدراسية والتقييمات المرتبطة بمحو الأمية الرقمية. وبمرور الوقت، قادني الاهتمام بتطبيق مبادئ التفكير النقدي على نطاق أوسع إلى تأليف كتاب «الناخب النقدي»،
7
وهو منهج دراسي مرفق بمجموعة من المصادر ذات الصلة بالمدرسين، وقد اتخذ من الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2012 مثالا لتدريس العديد من مهارات التفكير النقدي الواردة في هذا الكتاب؛ مثل المنطق والمجادلة بالحجة ومهارات اللغة (بما فيها التواصل الإقناعي)، مع تحييد التحيزات.
قبل إصدار كتاب «الناخب النقدي» إلى قاعدة أكبر من الجمهور، اختبرت مبادئه على «نماذج أولية » تتمثل في دروس تدرس لأولادي الذين كان أحدهم سيبدأ المرحلة الجامعية بحلول انتهائي من هذا الكتاب.
إن التحاق ابني بالجامعة لا يعني بالضرورة تحسنه في مهارات التفكير النقدي. فوفقا لما ذكره كل من ريتشارد أروم ويوسيبا روسكا في كتابهما الشهير الذي صدر عام 2011 بعنوان «التخبط الأكاديمي»: «إن تحسن مهارات التفكير النقدي مثل الاستدلال المعقد ومهارات الكتابة (وهي مهارات جامعية عامة) ضئيل للغاية في أول سنتين من المرحلة الجامعية، أو لا يوجد عمليا على الإطلاق بين نسبة كبيرة من الطلاب.»
8
وهذا بالرغم من أن «99 بالمائة من أعضاء هيئة التدريس يقولون إن تنمية قدرة الطلاب على التفكير النقدي هدف «بالغ الأهمية» أو «ضروري» في التعليم الجامعي»،
9
صفحه نامشخص
وذلك حسبما ورد في تقرير استشهد به المؤلفان.
لقد أوضح تأثير كتاب «التخبط الأكاديمي» على المناقشات والمناظرات التي تدور عن التعليم العالي في الصحافة الأكاديمية والعامة كلتيهما؛ وجود قبول عام لفكرة أن غياب مهارات التفكير النقدي من العالم، يولد الخوف من هذا العالم. فما الذي قد يدعو إلى ذلك؟
يندرج في صلب الحديث عن التفكير النقدي الذي يجري في الأوساط الأكاديمية وبين النطاق الأوسع من الجمهور؛ افتراض بأن المعرفة وحدها لا تساعدنا على حل المشكلات التي يواجهها الفرد أو المجتمع.
لقد شاهدنا في العقود الأخيرة الماضية تسارعا في إنشاء معرفة جديدة مصحوبة بإمكانية غير مسبوقة في الوصول إلى المعلومات عبر الأجهزة الرقمية التي أصبحت رفيقة لنا على الدوام. وعلى الرغم من ذلك، لم تزل الأخطاء في إصدار الأحكام تصيبنا على المستويين الفردي والاجتماعي.
الأسوأ من ذلك أن عدم قدرتنا على تقييم المعلومات التي تتضمنها «مكتبات الإسكندرية» الموجودة في جيوبنا، من حيث صحة المعلومات وموثوقيتها، تعني أننا معرضون لتصديق معلومات مزيفة، واستخلاص استنتاجات غير صحيحة من تلك «الحقائق» التي يرد بعضها إلينا من أناس يفهمون عيوب التفكير البشري بدرجة تتيح لهم التلاعب بنا.
لم تزل الأخطاء في إصدار الأحكام تصيبنا على المستويين الفردي والاجتماعي.
استخلصت بعض التعليقات بشأن الانتخابات الأمريكية لعام 2016 أن العديد من الأمريكيين يتخذون قراراتهم بناء على العاطفة لا التفكير المنطقي، مما يدل على أن قدرة الجمهور على التفكير النقدي منعدمة أو تعطل بسهولة. لكن المرء لا يحتاج إلى مراجعة السياسة الوطنية كي يرى المشكلات المصاحبة للافتقار إلى التفكير النقدي. كم من مرات شراء اندفاعية، واختيارات سيئة في الحياة المهنية، وجدالات غير ضرورية مع الأحباب، ومشكلات شخصية أخرى، يمكن تجنبها لو دربنا عقولنا على إيجاد البراهين وتقييمها، ووضعها في بنية للتحليل، وتأسيس خياراتنا على قواعد قد شكلت آراء سديدة منذ عصور سقراط وأرسطو؟
ولما كان تحييد أشكال التحيز من مهارات التفكير النقدي المهمة التي أتناولها على مدار هذا الكتاب، فينبغي أن أذكر في البداية اعتقادا هو الذي دفعني خلال سنوات عملي في هذا المجال، وهو أن أهم مشكلات التفكير النقدي التي تواجه العالم اليوم أن قلة من الأفراد فقط هي التي تتمتع بتلك المهارة، وهم لا يمارسونها بالدرجة الكافية، مما يفسر تركيز هذا الكتاب على إمكانية تعلم التفكير النقدي، وممارسته وتقييمه.
إن تعليم أنفسنا وتعليم الآخرين للتحلي بمهارة التفكير النقدي يتطلب إرساء مبادئ أساسية؛ لذا سأقدم للقارئ فيما يلي نبذة عن الموضوعات التي يتناولها الكتاب:
يتناول الفصل الأول «أصول التفكير النقدي»؛ فيشرح أصول المصطلح في سياق التخصصات التي يقوم التفكير النقدي عليها، مثل الفلسفة وعلم النفس والعلوم. يقدم هذا الفصل التعريفات المبكرة لمصطلح «التفكير النقدي»؛ إذ إن المشكلات المتعلقة بالتعريفات أمر يتكرر طرحه عند مناقشة الموضوع. وليس إسهامي في ذلك النقاش محاولة لدعم التعريف الذي أفضله، بل لمساعدة القارئ على فهم المصطلح فهما أفضل عن طريق تعريفه بالأصول الرائعة للتفكير النقدي.
صفحه نامشخص
في الفصل الثاني «عناصر التفكير النقدي»، نتناول موضوعات المعرفة والمهارات والسمات الشخصية التي ينبغي توفرها لاكتساب مهارة التفكير النقدي. وعلى الرغم من التنوع الكبير في خيارات المحتوى والممارسات التي وضعها معلمو التفكير النقدي، فأنا أقترح في هذا الفصل وجود إجماع بشأن المعارف التي يجب على المفكر النقدي تحصيلها، والمهارات التي ينبغي له التمكن منها.
يبدأ الفصل الثالث «تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه»، بمناقشة أعمق عن تعريف الباحثين لمصطلح «التفكير النقدي»، وكيفية استخدام المفهوم في أطر أوسع. إنني أزعم أن هذا الكتاب قد أنتج رؤية تكفي للمضي قدما في المشروع الحيوي، المتمثل في زيادة مقدار التفكير النقدي في العالم. ويتناول الجزء الباقي من هذا الفصل الكيفية التي يمكن تحقيق تلك الغاية من خلالها؛ إذ يصف البحوث والممارسات المتعلقة بطريق تعليم التفكير النقدي وتقييمه.
وبالرغم من أن المعلمين هم الفئة الأساسية التي يخاطبها هذا الكتاب، فإن هذه الفئة واسعة من وجهة نظري؛ إذ تشمل المدرسين في مؤسسات التعليم ما بعد الثانوي ممن حالفهم الحظ لتدريس تلك المادة بدوام كامل، ومدرسي التعليم الأساسي من الروضة وحتى المرحلة الثانوية، الذين يحاولون غرس مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب الذين يدرسون الرياضيات والعلوم والقراءة والكتابة، وغير ذلك من المواد التي تتطلب مهارات التفكير العليا. وهي تشمل أيضا أولياء الأمور الذين يريدون تربية أبنائهم على التفكير لأنفسهم. وأخيرا، تشمل هذه الفئة جميع الأفراد في أي رحلة تعليمية من أي نوع، في الصفوف الدراسية أو التعلم الذاتي، ممن يتوقون إلى التفكير بمزيد من الفاعلية والعيش في عالم تتخذ فيه القرارات بناء على التفكير المنطقي والمشاورات المدروسة.
الفصل الأول
أصول التفكير النقدي
من أين نشأت الفكرة القائلة بوجود شكل من أشكال التفكير فريد بما يكفي لوصفه بمصطلح «النقدي»؟
لما أصبحت تنشئة المفكرين النقديين أولوية تعليمية، فقد حاول المعلمون وصناع السياسات والباحثون فهم التفكير النقدي بطرق مشابهة لتلك التي تفهم بها التخصصات الأكاديمية الموجودة بالفعل. إن عملية تعلم مهارات مثل القراءة والكتابة أو تخصصات مثل الرياضيات والكيمياء والأحياء، تنطوي على اكتساب القدرات تدريجيا وفهم مجال المعرفة الذي تتألف منه كل من هذه المواد الدراسية. فأي شخص يدرس الكيمياء على سبيل المثال، يتعلم تعريف المادة الدراسية (وعادة ما تكون هذه التعريفات شبيهة بالتعريفات المعجمية، مثل: «علم يتناول تركيب المواد وبنيتها وخصائصها والتغيرات التي تمر بها».)
1
يتعلم دارسو الكيمياء أيضا عن الذرات والجزيئات قبل الانتقال إلى التفاعلات الكيميائية التي تكسر الروابط بين ذرات الجزيئات وتشكلها.
بدءا من هذا الفصل، سنتطرق إلى عدد من المحاولات لتحديد المقصود بالمفكر النقدي، بينما يخصص الفصل الثاني لوصف مختلف العناصر التي تدخل ضمن بنية التفكير النقدي، ويركز الفصل الثالث على الكيفية التي يمكن استخدامها لدمج تلك العناصر معا في سياق كيفية تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه.
صفحه نامشخص
من المهارات التي يتفق الباحثون والمعلمون على ضرورة أن يتحلى بها المفكر النقدي ويمارسها: القدرة على النظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة؛ ولذا يتخذ هذا الفصل نهجا تاريخيا تأصيليا من خلال مناقشة مصدر نشأة فكرة التفكير النقدي، وكيفية نشأتها وتطورها منذ ذلك الحين.
والأمر كله يبدأ بالفلسفة. (1) الفلسفة
ثمة ثورة فكرية قد حدثت خلال الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الرابع قبل الميلاد، وحددت العديد من جوانب الحياة التي نراها من المسلمات في الوقت الحاضر. في تلك الفترة على سبيل المثال، وضع كونفوشيوس نظريات عن السلوك البشري السليم والتنظيم الاجتماعي، وهي ما نسميه اليوم بالفلسفة الأخلاقية والسياسية. في الحقبة نفسها، استكشف ممارسو تقليد الفايشيشيكا الهندي أسئلة ميتافيزيقية تتعلق بطبيعة الحقيقة.
في الغرب، وقعت ثورة فكرية مماثلة في اليونان القديمة، وهي أرض سادت فيها الدول ذات المدينة الواحدة الصغيرة مثل أثينا، حيث ولدت الفلسفة الغربية.
توجد ثلاث شخصيات أساسية في قصة نشأة الفلسفة اليونانية. أولى هذه الشخصيات هي سقراط الذي شكك في المعتقدات الثابتة، وسعى جاهدا لعيش «حياة قائمة على التجارب»، وهي الأنشطة التي أكسبته لقب أبي الفلسفة الغربية، إضافة إلى الحكم عليه بالإعدام من رفاقه الأثينيين المنزعجين منه. لم يترك سقراط أعمالا مكتوبة، لكن آخرين قد دونوا أفكاره، لا سيما تلميذه أفلاطون الذي يقدم في كتاب «المحاورات»، أفكار معلمه متداخلة مع أفكاره الخاصة. أسس أفلاطون ما يعد أول مدرسة للفلسفة في الغرب، وهي «الأكاديمية»، حيث درس الفلاسفة مثل الفيلسوف النابغ أرسطو.
إن قدرا كبيرا من الفكر الغربي يستند إلى أفكار هؤلاء المفكرين القدامى، ويتلخص ذلك في مقولة لفيلسوف شهير ورياضي عاش في القرن العشرين، هو ألفريد نورث وايتهيد، الذي وصف تراث الفلسفة الغربية بأكمله على أنه «سلسلة من الحواشي لأفكار أفلاطون.»
2
بالرغم من ذلك، فلكي نفهم أصول التفكير النقدي؛ علينا الاطلاع على الأعمال الرئيسية التي كتبها أرسطو، تلميذ أفلاطون.
بالرغم من ذلك، فلكي نفهم أصول التفكير النقدي؛ علينا الاطلاع على الأعمال الرئيسية التي كتبها أرسطو، تلميذ أفلاطون.
ولفهم فلسفة أرسطو والفلسفة الكلاسيكية بوجه عام؛ يجب مراعاة أن التفريق الحالي بين الفلسفة والعلوم لم يكن موجودا في العصور القديمة. فأعمال الفلاسفة اليونانيين القدامى (يطلق عليهم فلاسفة ما قبل سقراط) على سبيل المثال، قد ركزت على طبيعة العالم المادي. ومع أن أفكارهم، مثل أن الكون يتألف من الماء أو النار أو المغناطيس، تعد في حد ذاتها كائنات حية، تبدو ساذجة اليوم؛ فقد كان هؤلاء المفكرون بمثابة فيزيائيين مبكرين، يصوغون التفسيرات الفيزيائية للظواهر الطبيعية، بدلا من التفسيرات السحرية أو الدينية.
صفحه نامشخص
من بين الأدوار التي قام بها أرسطو، دور المنظم الكبير الذي وضع نظاما للعديد من التخصصات التي درسها هو وغيره من المفكرين. والحق أن العديد من المجالات الأكاديمية في الوقت الحاضر مثل علم الأحياء وعلم السياسة، لم تصبح تخصصات منفصلة إلا عندما حللها أرسطو ونظمها.
وقد تمثل نهجه الذي كان فريدا حينذاك، في جمع الأدلة والأمثلة، ومن ثم استخدامها لإنشاء الأنظمة التي تحدد تعريف مجال محدد. فعلى سبيل المثال، أدت دراسة أرسطو للنباتات والحيوانات (وكانت بعض العينات قد أحضرت من الأراضي التي غزاها تلميذه الإسكندر الأكبر)، إلى تطوير نظام تصنيفي يقوم على السمات المادية، وهو الذي مهد الطريق للتصنيف الأحيائي المستخدم اليوم لتصنيف الكائنات الحية. وفي كتاب «السياسة» أيضا، صنف أرسطو دساتير الكيانات السياسية المعاصرة له بصفتها «نماذج» للتنظيم السياسي، ثم دمج نظامه التصنيفي في بنية هي التي وضعت تعريفا لمجال العلوم السياسية.
إضافة إلى ذلك، كتب أرسطو أعمالا أصلية عن علم المنطق قدم فيها نظما لتصنيف المعلومات، وطرقا لتنظيم الحجج المنطقية وتحليلها، وأنواع أخطاء الاستنتاج (المغالطات)، والعديد من المفاهيم الأخرى التي نتناولها في مناقشة الفصل التالي عن موضوع التفكير المنهجي. وفي مؤلفاته عن اللغة التي تأتي تحت عنوان «البلاغة»، يوضح أرسطو أيضا إمكانية اختيار الكلمات والعبارات المستخدمة لطرح الأفكار والحجج وتنظيمها من أجل الإقناع. وسوف نناقش دور اللغة في التفكير النقدي في الفصل الثاني أيضا.
ظل العديد من أعمال أرسطو طي النسيان على مدار قرون. لكنها اكتشفت من جديد في عصور مختلفة؛ ومن ثم استخدمت هي وغيرها من الأعمال الكلاسيكية للمساعدة في تدشين عصور جديدة من الاستكشاف الفكري. ومع ذلك، فحتى حينما لم تكن كلماته المحددة محل الدراسة، فإن الأفكار التي استنبطها، لا سيما الأفكار المتعلقة بالمنطق والبلاغة، كانت هي اللبنات الأساسية للتعليم على مدار قرون.
فعلى سبيل المثال، كان التعليم لدى القدماء من اليونانيين والرومانيين يبدأ بدراسة ما يسمى ب «تريفيوم» («الفنون الثلاثة»، وهي المنطق والبلاغة والقواعد (اللغة وتراكيبها)). وحالما يتقن الطلاب تلك المواد الدراسية، كان الطلاب ينتقلون إلى دراسة «كوادريفيوم» («الفنون الأربعة» وهي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى). كانت تلك التخصصات الأربعة إضافة إلى الفنون الثلاثة تشكل الفنون الحرة السبعة في العالم القديم. وعلى الرغم من أن فني المنطق والبلاغة لم يندرجا دوما في إطار الفنون الثلاثة أو الفنون الأربعة؛ فقد ظلت تحدد تعريف «الشخص المتعلم» على مدار العصور الوسطى وحتى فترة كبيرة من العصر الحديث.
عندما كنت في المرحلة الجامعية في ثمانينيات القرن العشرين، كان أحد الأساتذة يقدم دورة دراسية بعنوان «الفنون الأربعة» وكانت بمثابة نهج حديث لتدريس المجموعة الثانية من مواد الفنون الحرة السبعة. وعلى الرغم من وجود تجارب مماثلة في العديد من مدارس الفنون الحرة، فإن الاهتمام بالتعلم على طريقة الفنون الثلاثة، يتضح بالدرجة الكبرى في العصر الحالي في بعض شرائح حركة التعليم المنزلي بالولايات المتحدة؛ إذ يمكن الجمع بين التعليم الكلاسيكي والتعليم الديني بحرية. تلك الإشارات الصغيرة إلى عناصر الفكر القديم، إضافة إلى دور المنطق في كل مناقشة عن التفكير النقدي، توضح جاذبية «حب الحكمة» أو الفلسفة لدى من يسعون إلى غرس ما هو أكبر من المعرفة لدى المتعلمين. (2) عصر النهضة والثورة العلمية وعصر التنوير
اندلعت سلسلة أخرى من الاضطرابات السياسية والفكرية في أوروبا، بدءا من القرن الرابع عشر، وأدت إلى مزيد من الثورات في التفكير قد أسهمت بعناصر أساسية فيما سيعرف بعد ذلك بالتفكير النقدي.
تعرف النهضة الأوروبية التي امتدت من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر بأنها فترة من ازدهار الفن والعمارة والهندسة. في تلك الحقبة، لم يقتصر ابتكار «رجال النهضة» أمثال مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي على الروائع الفنية فحسب، بل توصلوا أيضا إلى إنجازات هندسية عظيمة؛ مثل التحصينات الحضرية والتصاميم المبكرة لآلات الطيران. إن مصطلح النهضة «رينيسانس» يعني «إعادة الإحياء»، وقد كان أحد المحفزات الأساسية لبعث هذا الاستقلال الفكري هو إعادة اكتشاف كتب الفلسفة الكلاسيكية اليونانية والرومانية التي اكتشفت في الأديرة الأوروبية، أو هربت إلى الغرب من الإمبراطورية البيزنطية المتداعية.
3
ويشير مصطلح «الثورة العلمية» إلى الفترة التي بدأت في القرن الخامس عشر حين أدت التطورات المذهلة في الرياضيات والعلوم الطبيعية، التي اكتشفت من خلال تبني مناهج جديدة في البحث، إلى اكتشافات عظيمة ومثيرة للجدل؛ مثل اكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون.
صفحه نامشخص
تصف النسخة المختصرة الشهيرة من هذا التاريخ كيف انتهت في أوروبا «العصور المظلمة»، التي سيطرت فيها الكنيسة الكاثوليكية على عقول الناس، حين أصر علماء شجعان أمثال كوبرنيكوس وجاليليو على أن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، وأثبتوا ذلك من خلال الحسابات الرياضية والملاحظات العلمية. إن نجاح هذا النوع من التفكير العلمي قد ألهم آخرين بالتخلص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرق عقلانية وعلمية.
إن نجاح هذا النوع من التفكير العلمي قد ألهم آخرين بالتخلص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرق عقلانية وعلمية.
وكما هي العادة، لا يكون التاريخ الحقيقي بهذه البساطة. فالعقيدة الكنسية التي حاربها العلماء الأوائل على سبيل المثال، كانت ترتبط بالعلوم اليونانية القديمة والفلسفة، بقدر ما كانت ترتبط بنصوص الكتاب المقدس. فالفكرة المتمثلة في أن الإله غير محدود القدرة ولا المعرفة ولا الخير، أو أن الجنة هي مكان الكمال المنفصل عن عالمنا المادي، لا تجد سوى تأييد واه من الكتاب المقدس العبري أو العهد الجديد. غير أن الأفكار عن «القوالب» المثالية قد ازدهرت في الفلسفة اليونانية، لا سيما في أعمال أفلاطون.
4
وعندما تحولت الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع بعد الميلاد، دخلت العديد من المعتقدات الرومانية الموجودة بالفعل والتي يستند الكثير منها إلى الفلسفة اليونانية، في الشريان الفكري المسيحي. وبالمثل أيضا، وجدت العلوم القديمة ملتجأ في التفكير الكنسي بالقرن الثالث عشر حينما دمج توما الأكويني أعمال أرسطو التي أعيد اكتشافها حديثا في علم اللاهوت المسيحي، وقدم بذلك أساسا فلسفيا وعلميا لما أصبح فيما بعد هو المعتقدات الكنسية المقبولة بشأن كيفية عمل الكون.
من سوء الحظ أن إنتاج أرسطو في العلوم التطبيقية ورؤية الطبيعة التي كان يمثلها، لم يكن بالمتانة نفسها التي اتسمت بها أعماله في علم المنطق. ففي عصر أرسطو، كانت طريقته في استنتاج الحقائق بناء على ما تدركه حواس الإنسان بدلا من تفسير الظواهر الطبيعية على أنها من أفعال الآلهة، إنجازا فكريا هائلا. لكن هذه الطريقة لا تصيب في بعض الأحيان، فالتجربة الحسية تخبرنا على سبيل المثال أن الأرض ثابتة بينما تدور الشمس والقمر والنجوم من حولها. وقد كان هذا ما أنتج نظرية نظام مركزية الأرض التي وضعها بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، بما يتفق تماما مع الإدراك الحسي؛ ومن ثم كانت صالحة وفقا لعلوم زمانه وحتى القرن الخامس عشر بعد الميلاد.
لكن فرضية مركزية الأرض التي وضعها بطليموس لم تشرح كل الظواهر المرصودة. فالمسارات الشاذة التي تتخذها الكواكب في سماء الليل على سبيل المثال، لم تكن تتلاءم مع هذه النظرة للكون. وقد ألهمت مثل هذه التباينات علماء مثل كيبلر وكوبرنيكوس وجاليليو باقتراح نظرية بديلة، وهي مركزية الشمس، التي تتلاءم على نحو أفضل مع كل الملاحظات والبيانات. غير أن قيامهم بهذا يعني أن المعتقدات التي تحدوها كانت أرسطية وبطلمية بقدر ما كانت دينية كنسية. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الثورة العلمية لا باعتبارها هدما للخرافات، وإنما هي تبديل نموذج علمي بنموذج آخر، وهو ما شهدناه في القرن الماضي حين غيرت نظرية أينشتاين في النسبية وعلوم ميكانيكا الكم رؤية نيوتن الميكانيكية للكون، أو أوضحت على الأقل ضرورة تبني نهج مختلفة عند البحث فيما يتعلق بالسرعات العالية للغاية (النسبية) والأحجام البالغة الصغر (ميكانيكا الكم).
5
تجدر الإشارة إلى أن فرضية مركزية الشمس لم تحل محل فرضية مركزية الأرض في الكون تلقائيا حتى بين العلماء. كانت النظرية تحتاج إلى تفسير، وهو ما قدمه إسحاق نيوتن في النهاية عندما اكتشف أن الجاذبية تنطبق على جميع الأجسام بما فيها الشمس والكواكب، وقدم صيغا رياضية يمكن تطبيقها على حركة الأجسام السماوية. ساعدت القوة التفسيرية لنظام نيوتن في صقل فرضية مركزية الشمس حتى بات أبسط من تفسير نظام بطليموس، كما أنه كان تفسيرا أدق للظواهر المرصودة. إن الحاجة إلى تأكيد الأفكار بالأدلة، وإيجاد آليات تشكل حججا يمكن أن تتفق مع الأدلة (مثل ميكانيكا نيوتن)، وكذلك تفضيل التفسيرات الأبسط على التفسيرات الأعقد، كل ذلك قد وضع نهجا جديدا في العلم امتد تأثيره إلى ما هو أبعد من تبني نظرية محددة أو التخلي عنها.
أدت الفلسفة دورا مهما في ظهور هذا النهج الجديد في العلوم. إذا كانت الفروق بين العلم والدين هشة في الفترة ما بين عصر النهضة حتى الثورة العلمية وعصر التنوير،
صفحه نامشخص
6
فإن الفروق بين العلم والفلسفة لم تكن موجودة على الإطلاق في تلك الفترة. فعلى مدار جزء كبير من التاريخ الحديث، ظل المشتغلون في المجالات العلمية يوصفون بأنهم من «فلاسفة الطبيعة» لا من «العلماء».
من بين هؤلاء رينيه ديكارت، وهو فيلسوف وعالم رياضيات قدم إسهامات كبيرة في الجبر والهندسة، وكلاهما من أساسيات الرياضيات والعلوم في العصر الحاضر، كما أنه أسس علم الفلسفة الحديثة من خلال تجاربه العقلية القائمة على «الشك الجذري». بدأت تلك التساؤلات بالتشكيك في حقيقة كل شيء، بما في ذلك إدراكه الحسي؛ وذلك لتحديد ما يمكن أن يتبقى ويطلق عليه حقيقة لا شك فيها. استندت إجابته بأنه كائن مفكر (التي أدت إلى مبدأ «الكوجيتو» الشهير: «أنا أفكر، إذن أنا موجود»)، إلى حجة أنه لكي ينخرط في التفكير أصلا، فلا بد من أنه موجود بصفته كائنا مفكرا. امتدت أفكار ديكارت إلى مجال العلوم في أعمال مثل «مقال عن الطريقة الصحيحة في توجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم»، الذي حاول فيه أن يؤسس العلم على نوع اليقين المرتبط بالبراهين الرياضية.
على مدار جزء كبير من التاريخ الحديث، ظل المشتغلون في المجالات العلمية يوصفون بأنهم من «فلاسفة الطبيعة» لا من «العلماء».
ثمة فلاسفة آخرون مثل فرانسيس بيكون وديفيد هيوم، قد اتخذوا نهجا آخر يركز على الأدلة التجريبية أكثر من الاستنتاج المجرد، ويعتبرها مصدر المعرفة الحقيقية. ردد السجال بين المثاليين مثل ديكارت والتجريبيين مثل هيوم، أصداء الجدالات القديمة بين أتباع أفلاطون الذين رأوا أن العقل هو مصدر الحقيقة، واتخذوا من الرياضيات مثالا أعلى، وأتباع أرسطو الذين اتخذوا مجال علم الأحياء القائم على البراهين نموذجا لهم.
لا يتسع المقام في هذا الكتاب لتوضيح كيف أن الفلاسفة المتأخرين مثل إيمانويل كانط ساعدوا في رأب الصدع بين الفريقين (انظر «المصادر الإضافية» للمزيد من المعلومات عن تاريخ العلوم وكذلك عصر النهضة وعصر التنوير)، لكن الأمثلة المذكورة بالفعل توضح كيف أن المفاهيم المنبثقة من الفلسفة: مثل الدور الأساسي للبراهين، والحاجة إلى التفسير (في شكل آليات ونماذج)، ومبدأ الشك باعتباره وسيلة للوصول إلى المعرفة، قد ساعدت في ميلاد شكل جديد من البحث العلمي.
في العصر الحاضر، يتعلم الطلاب على مستوى العالم منهجا تولد من تلك الجدالات يسمى «الطريقة العلمية». يتمثل استخدام هذه الطريقة في طرح سؤال ما، ثم اقتراح إجابة للسؤال (تسمى «الفرضية»)، وتعد هذه الفرضية فكرة مبدئية في أثناء جمع البراهين لإثباتها أو دحضها. وتصبح الفرضيات التي تصمد أمام هذا التدقيق «نظريات» لا يزعم بأنها حقيقة أبدية ولا شك فيها، لكنها تعتبر أساسا قويا يمكن استخدامه قاعدة للأبحاث في المستقبل.
إن العلوم الحديثة التي تستخدم التجارب المدروسة والمصممة بعناية لاختبار الفرضيات، ومراجعات الأقران الرسمية التي يدرس فيها العلماء البراهين التجريبية التي استخرجها علماء آخرون، والتي يحاول علماؤها تكرار تجاربهم ونتائجهم، التي تتسم أيضا بتبني الشك البناء في دراسة التفسيرات والنماذج، هي المجال الذي يجسد الشكل الأكثر تقدما من هذا النوع من التفكير. وبالرغم من أننا قد نتشكك فيما إن كانت الطريقة العلمية التي نعلمها لأطفال المدارس تجسد «الموقف العلمي»
7
الذي يدفع إلى الاستكشافات والتعمق أكثر في الأسئلة التي يطرحها فلاسفة العلم المعاصرون عن قيود النهج العلمية الحالية،
صفحه نامشخص
8
فلكي تفهم التفكير النقدي، يمكننا استخدام الفهم الشائع للطريقة العلمية؛ لمعرفة الكيفية التي تساعدنا بها تلك الطريقة لتحقيق فهم يتجاوز نطاق العلم.
هل نتعلم أو ننشأ على تبني معتقدات مشروطة، وإخضاعها لاختبارات صادقة، وعلى أن نكون مستعدين لرفضها إذا لم تتفق مع الحقائق والملاحظات، بغض النظر عن الموضوع قيد الدراسة؟ فبالرغم من كل شيء، لا يتطلب قرار اختيار المرشح الذي ندلي له بصوتنا معدات مكلفة ومعقدة مثلما أن قرار اختيار السيارة التي نشتريها لا يتطلب عملية مراجعة الأقران. لكن اتباع منهج التفكير النقدي في هذه الموضوعات يستلزم منك عدم القفز إلى إجابة مباشرة، بل اقتراح إجابة واختبار وجاهتها، ثم الوصول إلى استنتاج بناء على نتائج تلك الاختبارات. ويمكن وصف ذلك النهج بعبارة «التفكير بعقلية العالم»، لكن الأدق أن نقول إن كل المفكرين النقديين، بمن فيهم العلماء، يعتمدون على طرق مستلهمة من تطور العلوم الحديثة، لكنها في الوقت نفسه وثيقة الصلة بجميع مناحي الحياة.
بحلول القرن التاسع عشر، تأسست على الممارسات العلمية التي تطورت على مدار القرون الأربعة السابقة عليه، تخصصات جديدة، ومنها علم النفس المعني بدراسة العقل البشري. شهد القرن التاسع عشر أيضا ميلاد مدرسة فلسفية جديدة تسمى «البراجماتية»، ولكل من المجالين دور مهم في تشكيل مفهوم التفكير النقدي. (3) علم النفس والبراجماتية
من خلال الاستشهاد بأعمال آر جيه ستينبرج، قارنت الباحثة في التفكير النقدي إيميلي آر لاي بين دور علم النفس في تطوير نماذج التفكير النقدي، وبين دور كل من الفلسفة والعلوم، وأشارت إلى أن علماء النفس «يميلون إلى التركيز على الطريقة التي يفكر بها الناس بالفعل، مقارنة بالطريقة التي يمكن أن يفكروا بها أو ينبغي لهم أن يفكروا بها في الظروف المثالية».
9
ظهر علم النفس بصفته مجالا مستقلا في أواخر القرن التاسع عشر، وهي فترة شهدت - كما ذكرنا - ظهور العديد من التخصصات الأكاديمية الجديدة ووضع تعريفات محددة لها على أسس علمية. في تلك الفترة، نشر سيجموند فرويد فكرة أن العقل البشري ينقسم بين العاطفة والغريزة الحيوانية التي تتصارع مع ذواتنا المفكرة دوما على السيادة. وقد قوبل الكثير من أعمال فرويد بالتشكك، بل بالهجوم الشرس أيضا باعتبارها غير علمية ولا حتى أخلاقية، لكن العديد من أفكاره المستمدة من النصوص الأدبية والفلسفية والدينية، لا تزال تلقي الضوء على الجوانب العقلانية وغير العقلانية في تركيبنا العقلي.
وعلى الرغم من أن العالم الألماني فيلهيلم فونت لا يرتقي إلى شهرة فرويد في الثقافة العامة بالعصر الحاضر، فإنه هو من يعد مؤسس علم النفس العلمي الحديث؛ إذ أكمل التنظير الفلسفي التقليدي عن تكوين الوعي البشري بطرق تجريبية مستمدة من مجالات علمية؛ مثل علم وظائف الأعضاء. فمن خلال الدمج بين قياسات لاستجابات الأشخاص على المحفزات والتعليقات التي جمعت من هؤلاء الأشخاص في حوارات أجريت معهم بعناية، أنشأ طرقا منهجية لا تزال تشكل الأساس للأبحاث المعاصرة في علم النفس. وقد كان لبيير جانيت الفرنسي دور مماثل في استخدام الطرق العلمية لدراسة العقل. ومن أهم إسهاماته تشكيل تسلسل هرمي للميول الذهنية التي تنوعت في نظره ما بين أنشطة لا تتطلب سوى مستوى معرفي منخفض، يشترك فيها كل من الحيوان والإنسان، وبين الملكات العالية المستوى التي يختص بها الإنسان، مثل اللغة والتفكير الرمزي.
على الرغم من أن العالم الألماني فيلهيلم فونت لا يرتقي إلى شهرة فرويد في الثقافة العامة بالعصر الحاضر، فإنه هو من يعد مؤسس علم النفس العلمي الحديث.
في الولايات المتحدة عام 1890، ألف البروفيسور الأمريكي ويليام جيمس، أخو المؤلف هنري جيمس، كتاب «مبادئ علم النفس»، وهو أحد أهم كتب علم النفس في عصره، وكان جيمس أيضا أول من درس علم النفس في جامعة هارفارد.
صفحه نامشخص
إضافة إلى أهمية دور جيمس في دراسة علم النفس بناء على مبادئ علمية، فقد كان أيضا شخصية محورية في الفلسفة الأمريكية؛ إذ نشر مدرسة فكرية تسمى البراجماتية، وتعد المدرسة الفلسفية البارزة الوحيدة التي نشأت بكاملها في الولايات المتحدة، وينسب هذا التطور إلى البارع الغريب الأطوار تشارلز ساندرز بيرس.
ترى البراجماتية أن الأشياء تعرف بآثارها العملية لا بخصائصها التجريبية ولا الميتافيزيقية. فالسكين على سبيل المثال حاد، لكن ذلك ليس بسبب عرض حافته القاطعة، ولا لأنه جزء من أحد قوالب الحدة الأفلاطونية. وإنما لأن استخدامنا العملي للسكين (مثل قطع شيء ما)، هو وحده ما يحدد أن السكين حاد. ينطبق الأمر نفسه على الرسومات؛ إذ توصف بالجمال لتأثيرها في الناس، وليس بسبب أي صفات جوهرية فيها.
يستمد الدور الذي أدته الفلسفة البراجماتية في أصول التفكير النقدي من تحليل بيرس البراجماتي للتفكير ذاته؛ إذ لم يكن يراه خاصية للعقل أو الروح، بل وسيلة تؤدي إلى غاية.
وضع بيرس تلك الأفكار في أحد أعماله القليلة المنشورة، وهو مقال نشر عام 1877 في مجلة «بوبيولار ساينس مانثلي» بعنوان «رسوخ المعتقدات»،
10
الذي اقترح فيه أن الشك يحفز تفكيرنا بأكمله، وأننا جميعا لا ننفك عن توليد معتقدات كبيرة وصغيرة لتبديد الانزعاج من الشك. وبعد افتراض هذه المقدمة المنطقية، ذكر الكاتب أربع طرق تترسخ بها تلك المعتقدات في عقولنا.
من هذه الطرق «الاعتقاد المسبق»، التي تتمثل ببساطة في الاستمرار في الإيمان بالأشياء التي يعتقدها المرء مسبقا بالفعل أو الأشياء التي تشعره بالراحة. وتوجد طريقة أخرى تترسخ بها المعتقدات لدى الفرد وهي «السلطة»، مثل سلطة الكهنوت أو أعراف المجتمع التي تحدد المعتقدات والأفكار المحللة والمحرمة. وتلك السلطة غالبا ما تناهضها الأرواح الحرة؛ فالعديد من هؤلاء الأشخاص يشكلون معتقداتهم من خلال «التشبث» الذي يتضمن الركون إلى نظام عقدي والتشبث به بشجاعة، مهما كلف الأمر، وبغض النظر عما إذا كان صحيحا أو خاطئا.
وعلى الرغم من أن هذه الطرق الثلاثة لترسيخ المعتقد (الاعتقاد المسبق والسلطة والتشبث) تتسم بشيء يزكيها، فلا يعد أي منها خيارا ممتازا باعتبارها طرقا حصرية للوصول إلى الحقيقة . إذا كان الهدف الوصول إلى الحقيقة، فإن بيرس يقترح تبني نموذج العلوم؛ لأنها تتعامل مع المعتقدات بصفتها حالات شرطية حتى إن أجري عليها المزيد والمزيد من التجارب، ثم تجمع البراهين كي تقربنا أكثر وأكثر من الأفكار التي يحتمل أنها حقيقة.
وعلى الرغم من الدور المهم الذي أداه كل من بيرس وجيمس في التاريخ الفكري الأمريكي، فإن فيلسوفا براجماتيا آخر يعمل في مجال التعليم يدعى جون ديوي؛ هو من وضع تلك الأفكار في أول بناء ملموس للتفكير النقدي. (4) جون ديوي
درس جون ديوي في جامعة شيكاغو وجامعة كولومبيا بنيويورك منذ تسعينيات القرن التاسع عشر حتى عام 1930، ويعتبر من أهم المفكرين المشهورين في القرن العشرين. وعلى غرار ويليام جيمس، كان ديوي فيلسوفا براجماتيا، ومسهما أساسيا في النظريات المبكرة عن علم النفس البشري.
صفحه نامشخص
وبالرغم من ذلك، فأكثر ما يشتهر به ديوي الآن، هي إسهاماته في مجال التعليم. ذلك أن نموذجه التعليمي التقدمي يركز على ضرورة تعلم الطلاب من خلال الأنشطة القائمة على الاكتشاف، بدلا من شرح المعلم والتدريبات القائمة على الحفظ والتلقين، مما وضعه بين صفوف رواد التعليم الآخرين أمثال ماريا مونتيسوري الإيطالية ورودولف شتاينر النمساوي اللذين تؤثر أفكارهما حتى الآن في المدارس التي تتبع طريقة مونتيسوري، وتلك التي تتبع طريقة والدورف في جميع أنحاء العالم.
لا تزال الجدالات بين مؤيدي النموذج التقدمي في تعليم الأطفال وأنصار الطرق التقليدية مستمرة منذ وقت ديوي وحتى وقتنا هذا.
11
وعلى الرغم من اختلاف المفكرين أمثال ديوي ومونتيسوري وشتاينر في قضايا مثل العمر الذي ينبغي أن يتعلم فيه الطلاب القراءة، فإن ما يجمع بين أصحاب النموذج التقدمي هو الاعتقاد بضرورة عدم التعامل مع عقول الأطفال كأنها صفحات بيضاء يمكن أن تكتب عليها الشخصيات التي تمثل السلطة. وبدلا من ذلك، ينبغي التعامل معها على أنها محركات فضولية قادرة على تكوين فهمها الخاص إذا قدم المعلمون التوجيه بدلا من تقديم كل الإجابات.
يعكس الكثير من أعمال ديوي، بما فيها دوره الكبير في السياسة على مدار القرن العشرين، إيمانه العميق بالديمقراطية الذي كاد أن يقترب من الإيمان الديني. غير أن المجتمع الديمقراطي يستلزم أن يتمتع مواطنوه بالقدرة على تولي أدوار ريادية في حياتهم الخاصة وفي حكومتهم، وهو ما يتحقق بعوامل كثيرة؛ من بينها التحلي بالوعي والمعرفة اللازمين لحل المشكلات بطريقة منهجية ومنطقية.
أوضح كتاب ديوي الأشهر «الديمقراطية والتعليم»
12
كيف يمكن تأسيس منظومة التعليم الأمريكية لتنشئة مواطنين ديمقراطيين. لكن لكي نفهم ما كان يتوقعه ديوي من هؤلاء المواطنين، علينا أن نطلع أولا على كتابه الأسبق الذي صدر عام 1910 بعنوان «كيف نفكر».
13
يستند كتاب «كيف نفكر» إلى رؤية نفسية مستمدة من الأفكار البراجماتية التي كان بيرس أول من عبر عنها، وهي تصور التفكير على أنه وسيلة تؤدي إلى غاية تبديد الشك الذي هو حالة عقلية تخلق ألما داخليا يدفع المرء إلى فعل أي شيء كي يتخلص منه.
صفحه نامشخص
إن رغبة المرء في التخلص من الشك تفسر سلوك الأطفال وصغار السن وقدرتهم التي لا تضاهى في التعلم؛ إذ يقودهم فضولهم الطبيعي إلى استخدام أي ملكة متاحة، مثل اللمس أو الحركة أو اللغة، كي يفهموا العالم المحيط بهم.
بالرغم من ذلك، فمثلما أشار بيرس في كتاب «ترسيخ الاعتقاد»، يمكن تبديد الشك بطرق كثيرة، وبعضها أقل إيجابية ونفعا من البعض الآخر. يمكن على سبيل المثال تبديد الشك بتصديق أول تفسير يتلقاه الإنسان، أو باعتناق أفكار يطمئن إليها الفرد بالفعل، أو بقبول إجابات تقدمها رموز السلطة.
كانت مشكلة ديوي مع التعليم بنموذج المصنع الذي شهده في زمانه (ونشهده نحن في زماننا)، ويتمثل في أن المدرسين يقدمون الإجابات ويحرصون على أن يتعلمها الطلاب من خلال الشرح والتلقين، ولا يتعلمون غيرها؛ هي أن هذا النموذج في التعليم يكبت مهارة الاكتشاف الذي رأى أنه ينبغي تقديمه للطلاب من خلال أنشطة التعلم التي تتسم ب «الوضوح والفعالية». كانت المشكلة من وجهة نظر ديوي كما قال في كتاب «كيف نفكر» هي أنه «إذا أدخلت الأنشطة أصلا إلى المدرسة [التقليدية]، فإن دخولها يكون خضوعا مكروها للحاجة المتمثلة في توفير استراحة حينية من الإجهاد الناتج عن العمل الفكري المستمر، أو لصخب المطالب النفعية المفروضة على المدرسة من الخارج.»
14
في الوقت ذاته، انتقد ديوي المعلمين التقدميين ممن يرون أن الأنشطة القائمة على الاكتشاف غاية في حد ذاتها؛ إذ أشار إلى أنه: «على النقيض من ذلك، ثمة إيمان حماسي بوجود فاعلية تربوية هائلة لأي نوع من الأنشطة، ما دام نشاطا وليس استيعابا سلبيا للمواد الأكاديمية والنظرية.»
15
وأجاب ديوي على انتقادات من يرون أن التعليم القائم على الأنشطة يفتقر إلى النظام والمنهجية؛ من خلال تحديد سمات الأنشطة التي تؤدي إلى التعلم الفعال، على خلاف التطبيقات غير المدروسة بما يكفي للمبادئ التقدمية التي تفترض أن الأفضلية متأصلة في أي نشاط يلغي عناصر الفصل الدراسي التقليدي القائم على وجود المعلم.
16
ووفقا لديوي، تبدأ الأنشطة التعليمية الفعالة بتوفير أمثلة للطلاب تحفز الشك في عقولهم، مثل المسائل التي ليس لها حل واضح، خاصة في الموضوعات التي تهم كل طفل على حدة. وفور غرس ذلك الشك، تصبح مسئولية المعلم هي توجيه محاولات الطالب إلى تبديد ذلك الشك بطرق منطقية.
لم يستخدم ديوي كلمة «منطق» لوصف النماذج الشكلية المنطقية التي طورها المفكرون منذ أرسطو وحتى الفلاسفة الذين عاصروا ديوي. وبدلا من ذلك، استخدم المصطلح في كتاب «كيف نفكر»؛ للإشارة إلى طريقة الاستنتاج المستلهمة من العلوم، التي تتمثل في اقتراح حل لكنه يظل حلا مبدئيا إلى أن تجمع البراهين وتجرى الاختبارات كي تؤكد محاولة الحل الأولى أو تدحضها. وفي حالة دحض محاولة الحل، تستمر سلسلة من التجارب العقلية المماثلة؛ مما يؤدي في النهاية إلى تعلم عميق ودائم.
صفحه نامشخص
أطلق ديوي على هذا النموذج اسم «التفكير التأملي»، وأعطاه التعريف التالي: «إمعان النظر الدءوب والمستمر والدقيق في أي معتقد أو شكل مفترض من أشكال المعرفة، في ضوء المسوغات التي تدعمه، والاستنتاجات الإضافية التي يفضي إليها.»
17
وعلى الرغم من أن مؤلفين آخرين استعاضوا في النهاية بمصطلح «النقدي» عن مصطلح «التأملي»، فقد كان ديوي هو من وضع أول تعريف للتفكير النقدي، من بين التعريفات الكثيرة التي سترد في هذا الكتاب، ويمكن رؤية جميع المؤلفات اللاحقة عن هذا الموضوع باعتبارها حوارا مع الأفكار التي طرحت للمرة الأولى في كتاب «كيف نفكر». (5) تطور فهم التعليم والتنمية البشرية والسلوك.
طبق ديوي أفكاره عمليا (أو لنقل إنه أخضعها للاختبار لنكون أكثر تماشيا مع منظومة معتقداته) في «المدرسة النموذجية» بجامعة شيكاغو، وهي مؤسسة ساعد في تأسيسها ولا تزال قائمة حتى الآن، وتضم جميع المراحل قبل الجامعية، من الروضة وحتى المرحلة الثانوية.
على غرار المدارس التي تتبع منهج «مونتيسوري» ومنهج «والدورف»، فإن مدارس التعليم قبل الجامعي مثل «المدرسة النموذجية»، التي تأسست على الممارسات التعليمية التقدمية، قد أثرت في أنظمة التعليم العام التي كانت تتبنى نموذج المصنع، لكنها لم تحل محلها قط خلال القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت توسع أنظمة المدارس العامة على مستوى العالم؛ لاستيعاب عدد أكبر من طلاب ينتمون إلى بيئات كثيرة ومتنوعة. وبالرغم من ذلك، فمثلما انتشرت أفكار ديوي بين المعلمين في القرن التالي، استمرت المفاهيم الواردة في كتاب «كيف نفكر» في التطور، وأضافت إليها إسهامات من مجالات مختلفة تؤثر في تعريفات التفكير النقدي ونهجه السائدة اليوم.
أنتج بعض هذه الأعمال أكاديميون آخرون يعملون في مجال التعليم. ومن بين هؤلاء إدوارد جليسر الذي جاءت أطروحته لكلية المعلمين بكولومبيا عام 1941 بعنوان «تجربة في تطوير التفكير النقدي»، وقدمت الأطروحة أول تعريفات متعددة الأوجه للتفكير النقدي. وقد تضمن تعريف جليسر ثلاثة عناصر؛ هي: «(1) النزعة إلى التفكير المتعمق في المشكلات والموضوعات التي تقع في نطاق تجارب الفرد، (2) معرفة طرق الاستقصاء المنطقي والاستنتاج، (3) التحلي بقدر من المهارة في تطبيق هذه الطرق».
18
وفي العام ذاته، نشر جليسر وأحد أساتذة كلية المعلمين يدعى جودوين واتسون، اختبارات «واتسون-جليسر» للتفكير النقدي (وهو اختبار لا يزال موجودا إلى اليوم باسم تقييم «واتسون-جليسر» للتفكير النقدي)، وقد اعتمد هذا التقييم على أعمال واتسون السابقة في تقييم السمات العقلية المعقدة.
19
ومن الأدوات الأخرى التي صممت لتطبيق المبادئ العلمية على طريقة تفكيرنا: «تصنيف بلوم» الذي نشر عام 1956، ونظم الأهداف التعليمية في تسلسل هرمي يعبر عن مستويات التعقيد العقلي.
صفحه نامشخص
20
وقد ابتكرت هذه الأداة في الأساس لدعم المعلمين العاملين في منظومة التعليم العالي بالولايات المتحدة في إدارة التوسع السريع الذي أعقب الحرب، وقد استخدم التصنيف على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة وخارجها على جميع مستويات المراحل التعليمية.
مثلما يتضح في
1-1 ، بدأت النسخة الأصلية من تصنيف بلوم بعنصر «المعرفة» في قاعدة التسلسل الهرمي، ثم «الفهم» متبوعا ب «التطبيق» و«التحليل» و«التركيب» و«التقييم». وفي النسخة المحدثة عام 2001 والموضحة أيضا فيما سبق، يأتي «الابتكار» (أو «ابتكر») على رأس القائمة، مع إجراء بعض الإضافات والتعديلات التي عبرت عن التفكير الجديد بشأن كيفية تطوير الإنسان للمعلومات وتعلمها ومعالجتها.
شكل 1-1:
Courtesy of Leslie Owen Wilson (2001).
https://thesecondprinciple.com/teaching-essentials/beyond-bloom- cognitive-taxonomy-revised/ .
إذا كان نموذج الصفحة البيضاء للعقل البشري قد بدأ ينهار مع بداية القرن العشرين، فقد اندثر تماما بحلول منتصف القرن حينما توصل علماء النفس إلى معلومات جديدة بشأن طريقة نمو الدماغ وعمله.
في مجال علم نفس النمو على سبيل المثال، كان باحثون من أمثال جين بياجيه السويسري يتعلمون من خلال الدراسة الطويلة المدى على الأطفال أن النمو الجسدي والعاطفي والعقلي يحدث في مراحل منفصلة، مما يوضح فائدة تنمية قدرات محددة لدى الصغار في المرحلة المناسبة من نموهم.
شهد القرن العشرون أيضا تطورات في تقنيات الجراحة وتكنولوجيا الطب مما سهل التعرف المباشر على كيفية عمل العضو المسئول عن كل أنواع التفكير؛ نقديا كان أو غير نقدي، ألا وهو الدماغ البشري. فعلى سبيل المثال، ساعدت قدرة الجراحين على إنقاذ حياة المرضى بإصابات حادة في الدماغ، في تحديد وظائف مناطق معينة في الدماغ؛ مما أتاح للعلماء دراسة السلوكيات والقدرات لدى من تعطلت لديهم الوظائف في منطقة أو أكثر من تلك المناطق في الدماغ. إضافة إلى ذلك، فإن التطورات التي سمحت للأطباء بالحفاظ على سلامة المريض مدة أطول، وفرت الفرص لرصد نشاط الدماغ في أثناء خضوع المريض للعملية الجراحية.
صفحه نامشخص
على مدار عقود، تطورت تقنيات طبية غير جراحية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي وتحليل تخطيط كهربية الدماغ؛ فمنحت الباحثين القدرة على «رؤية» النشاط الفيزيائي والكهربي في الدماغ في أثناء تنفيذه للمهام. ومثلما هو الحال في علم نفس النمو، قدم مجال علوم الدماغ الجديد أفكارا أساسية، مثل العمليات الفيزيائية المعنية بتشفير الذكريات واسترجاعها، وكان لهذه الأفكار دور مهم في فهمنا لطريقة التفكير.
أسهمت الأبحاث التي أجريت بشأن كيفية عمل الدماغ أيضا في وضع طرق تدريس، مبنية على الأدلة التي جمعت بشأن الطريقة التي يبدو أن الدماغ يعمل بها. فعلى سبيل المثال، بينما رأى ديوي نجاحا كبيرا في الأنشطة التي كانت تستلزم من الطلاب استخدام المعلومات والأفكار التي فهموها مسبقا، قدمت الأبحاث في مجال تكوين الذاكرة أدلة علمية على فاعلية البناء على معرفة سابقة.
21
أسهم رائدان آخران بأفكار قيمة عن كيفية عمل العقل البشري؛ وهما عالما النفس الإسرائيليان دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي، اللذان شككت أبحاثهما المبتكرة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته في فاعلية التفكير المنطقي ذاته واستقراره.
منذ زمن أرسطو ساد الافتراض بأن التفكير المنطقي هو ما يميز الإنسان عن باقي الحيوانات. وبناء على هذا الفهم، كان السلوك البشري غير العقلاني يعزى إلى غلبة العواطف أو الغرائز الحيوانية البدائية على التفكير المنطقي. بالرغم من ذلك، فحسبما أوضح كانمان وتفيرسكي من خلال سلسلة من التجارب المثيرة للاهتمام، فإن تفكيرنا المنطقي معيب من عدة مناح مهمة.
يتضح أن العقل البشري لا يستخدم قوته الكاملة من التفكير المنطقي في كل المواقف، بل يتخذ طرقا مختصرة كي يزيد من كفاءة إدارة المعلومات المتدفقة من حواسنا، ومن ثم تحويل تلك المعلومات إلى فهم تبنى عليه القرارات. تسمى تلك الطرق المختصرة «الحدس المهني» ومن المحتمل أنها نتجت عن الانتقاء الطبيعي. إذا آمن إنسان بدائي من دون أدلة مقنعة أن صوت الحفيف في الأدغال على سبيل المثال، يدل على اقتراب حيوان مفترس، فقد كان سيحظى بميزة تطورية يتفوق بها على من قرروا أن الموقف يحتاج إلى مزيد من الدراسة قبل اختيار الفرار أو البقاء.
يتضح أن العقل البشري لا يستخدم قوته الكاملة من التفكير المنطقي في كل المواقف، بل يتخذ طرقا مختصرة كي يزيد من كفاءة إدارة المعلومات المتدفقة من حواسنا، ومن ثم تحويل تلك المعلومات إلى فهم تبنى عليه القرارات.
لكن هذه الطرق المختصرة نفسها تخلق تحيزات قد تتسبب في فشل التفكير المنطقي. على سبيل المثال، يذكر كانمان في كتابه الأكثر مبيعا «التفكير السريع والبطيء»، إحدى هذه التحيزات ويسمى «تأثير الارتساء».
يحدث هذا التأثير عندما يضع الناس قيمة معينة لكمية مجهولة قبل تقدير تلك الكمية ... إذا سئلت عما إذا كان عمر غاندي عند موته 114 سنة، فسينتهي بك الأمر إلى تقدير عمره عند موته بقيمة أعلى كثيرا مما لو كان سؤال الارتساء يشير إلى موته في سن الخامسة والثلاثين. وإذا فكرت في الثمن الذي ينبغي دفعه لشراء منزل ما، فستتأثر بالسعر المطلوب. إذا كان السعر المدرج مرتفعا، فستبدو قيمة المنزل ذاته أعلى مما لو كان السعر منخفضا، حتى وإن كنت عازما على مقاومة تأثير هذا الرقم ... إن أي رقم يطلب منك اعتباره حلا محتملا لإحدى مسائل التقدير سيحفز تأثير الارتساء.
22
صفحه نامشخص
من الأمثلة الأخرى على هذه التحيزات، «التوافر الإرشادي» الذي قد يجعل البشر متحيزين إلى اتخاذ خيارات بناء على المقارنات التي تخطر على بالهم بسهولة. فعلى سبيل المثال، قد يتأثر اختيار أحد الأشخاص للكلية التي يلتحق بها بمحادثة قريبة أجراها مع صديق عن تجاربه في تلك الكلية، أكثر مما يتأثر بالمقارنات التفصيلية التي أجراها سابقا. يوجد مثال آخر أيضا على هذه التحيزات، وهو «الاستدلال العاطفي» الذي يربط التجارب بالحالات العاطفية، وغالبا ما تكون هذه الحالات العاطفية لا تمت بصلة إلى التجربة ذاتها. فقد تزيد نزعة الشخص مثلا إلى شراء بطاقة يانصيب بناء على تجارب سعيدة أو تعيسة مر بها مؤخرا، لا احتمالات المكسب والخسارة في ذلك اليوم بعينه.
إن التحيزات الناتجة من هذه الأنواع من الاستدلال، بمثابة نظائر عقلية للخدع البصرية،
23
لكنها ليست بالخدع البريئة على الإطلاق حين يتعلق الأمر بالتفكير النقدي. فلنتناول المثال الأكثر وضوحا وهو «التحيز التأكيدي»، الذي يتمثل في ميل الإنسان إلى قبول المعلومات التي تؤكد معتقداته الحالية، ونبذ المعلومات التي تتعارض مع تلك المعتقدات، ويمكن اعتباره سببا أساسيا في العديد من السلوكيات غير العقلانية والتصرفات الهمجية المتفشية في الكوكب في عصرنا الحاضر.
إن وجود التحيزات يعني أن القدرة على التفكير النقدي تستلزم ما هو أكثر من فهم الأدوات العقلية مثل المنطق والمهارات التي تتطور بتطبيق تلك الأدوات. وإنما يستلزم أيضا فهم عوامل التعصب التي يتعرض لها تفكيرنا المنطقي، وتدريب أنفسنا على التفكير في تلك النقائص والتحكم فيها. (6) نقطة تحول
وقعت «لحظة فارقة» عام 1983 في تدريس مهارات التفكير النقدي لطلاب التعليم العالي حين ألزم نظام جامعة ولاية كاليفورنيا جميع الطلاب بإكمال دورة تدريبية عن التفكير النقدي قبل التخرج، وكان من شأن تلك الدورة أن تساعدهم في «فهم العلاقة بين اللغة والمنطق؛ مما يؤدي إلى قدرتهم على تحليل الأفكار ونقدها ومناصرتها، والتفكير بالطرق الاستقرائية والاستنباطية، ثم الوصول إلى استنتاجات بشأن الحقائق أو الآراء بناء على استدلالات صحيحة مستمدة من ادعاءات غير غامضة من المعرفة أو الاعتقاد.»
24
كان هذا الشرط ينطوي على افتراضات كثيرة بشأن العناصر التي تشكل مهارات التفكير السديد، مع افتراض إمكانية تدريس تلك المهارات.
كان مؤيدو تشريع ولاية كاليفورنيا، وهم مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة التي شكلت «حركة التفكير النقدي»،
25
صفحه نامشخص