ليس المقصود من الأخلاق - في هذا الجزء من بحثنا - هو تلك الأخلاق الشخصية التي تتعلق بطريقة سلوك العالم من حيث هو إنسان، وإنما المقصود هو الأخلاق المتصلة بعمله العلمي، سواء بطريق مباشر أم بطريق غير مباشر؛ فنحن لا يعنينا أن نبحث في الطريقة التي يدير بها العالم شئون حياته اليومية الخاصة؛ لأن هذه الشئون ملكه هو من حيث هو فرد، ولكن إذا انعكست طريقة سلوكه في حياته الخاصة هذه على عمله العلمي - حتى ولو كان ذلك على نحو غير مباشر إلى أبعد حد - فعندئذ ينبغي أن نعمل لها حسابا. وهذه التفرقة بين المسلك الشخصي والمسلك الذي يمس العلم تفرقة هامة؛ لأن الكثيرين ينسون أن العالم إنسان له كل ما للبشر من جوانب الضعف والانفعالات وربما النزوات، وقد يكون في حياته الخاصة بعيدا كل البعد عن الصورة التي يكونها عنه الناس باعتباره عالما؛ إذ يتصور الناس عادة أنه لا بد أن يسلك في أموره اليومية - أي أن يأكل ويشرب وينام ويحب - بوصفه «عالما»، ويتخيلون أن مهنته لا بد أن تنعكس على أدق تفاصيل حياته، وهذا تصور واهم، ربما أذكته في نفوس الناس بعض الأقلام السينمائية أو الأعمال الأدبية التي تميل إلى أن تجعل للناس شخصية نمطية واحدة، تسري على جميع جوانب حياتهم، ولكن الواقع - في أغلب الأحيان - يكذب هذا التصور؛ إذ إننا نادرا ما نجد العالم الذي يمر في جميع جوانب حياته باعتباره عالما، وغالبا ما نجده يسلك في أمور حياته اليومية كما يسلك سائر الناس، ويتعرض لسائر مظاهر الصواب أو الخطأ التي يتعرض لها غيره من البشر. غير أن هناك جوانب معينة من حياته تؤثر - على نحو قليل أو كثير - في عمله العلمي وتتأثر به، وهذه الجوانب هي التي تعنينا ها هنا.
في هذه الناحية بالذات - أعني في مظاهر حياة العالم التي تتصل من قريب أو بعيد بعمله العلمي - يشيع تلخيص القيمة الأخلاقية العليا التي يتميز بها العالم في كلمة واحدة هي «الموضوعية». ولكن «الموضوعية» كلمة شديدة التعقيد، تحتمل جوانب وأوجها متباينة، ومن المستحيل فهمها على حقيقتها إلا إذا حللنا معانيها وجوانبها المختلفة بمزيد من الدقة، ومن هذا التحليل نستطيع أن نلقي ضوءا مفيدا على العناصر الأخلاقية كما ينبغي أن توجد في شخصية العالم، وكما توجد بالفعل في شخصيات علماء كثيرين. (1-1) الروح النقدية
أول معنى للموضوعية هو أن تكون لدى المرء روح نقدية، ومعنى ذلك ألا يتأثر بالمسلمات الموجودة أو الشائعة، وأن ينقد نفسه ويتقبل النقد من الآخرين. (أ)
فأهم ما يميز العالم قدرته على أن يختبر الآراء السائدة - سواء على المستوى الشعبي العادي أو في الأوساط العلمية أو كليهما معا - بذهن ناقد، لا ينقاد وراء سلطة القدم أو الانتشار أو الشهرة، ولا يقبل إلا ما يبدو له مقنعا على أسس عقلية وعلمية سليمة، ولا يعني ذلك أن يقف المرء موقف العناد المتعمد من كل ما هو شائع، بل يعني اختبار الآراء الشائعة وإخضاعها للفحص العقلي الدقيق، وربما عاد إلى قبولها آخر الأمر بعد أن يكون قد اطمأن إلى أنها اجتازت هذا الاختبار. أما لو تبين له ضعف أو تناقض أو تفكك في هذه الآراء، فإنه يتمسك بموقفه الجديد بكل ما يملك من تصميم وإصرار، مهما كانت التضحيات التي يعانيها في سبيل هذا الموقف.
ولو تناولنا بعض الأمثلة المشهورة في هذا الصدد؛ لوجدنا هذه الصفة مشتركة بينها جميعا؛ فحين وقف جاليليو - وهو شيخ عجوز في أواخر مراحل عمره - أمام محكمة التفتيش في روما مدافعا عن رأيه الجديد - الذي كان امتدادا لرأي كبرنيكوس - في نظام العالم ودوران الأرض حول الشمس، وحين وقف باستير وحده أمام علماء عصره مدافعا عن وجود تلك الكائنات الدقيقة التي تسبب التلوث والتعفن والأمراض - أعني الميكروبات - وحين وقف فرويد أمام عواصف الاستنكار مؤكدا أن الدوافع الحقيقية لسلوك الإنسان قد تكون بعيدة كل البعد عن الدوافع الظاهرية التي يعلنها الإنسان على الملأ أو يعلنها المجتمع من خلال الإنسان؛ في كل هذه الحالات - التي يحفل تاريخ العلم بأمثالها - كان هناك إدراك من جانب العالم لحقيقة جديدة تتصادم بعنف مع الحقائق الشائعة، وتلقى مقاومة مستميتة من أوساط قوية ومسيطرة، وكان العالم يقف وحده في مبدأ الأمر على الأقل، لا يملك ما يدافع به عن نفسه سوى قوة الإقناع التي تتسم بها حقيقته الجديدة، ومع ذلك فقد استطاع - آخر الأمر - أن ينتزع الاعتراف بأفكاره، ويحول مجرى العلم في اتجاه جديد. وكم من كشف علمي تحقق لمجرد أن عالما تجرأ على أن ينقد المسلمات الشائعة، ولا ينحني أمام طغيان الانتشار أو جبروت القوى التي تدافع عن هذه المسلمات، أو أمام تلك القوة التي تكتسبها الآراء السائدة نتيجة اعتياد الناس عليها زمنا طويلا.
وفي كثير من الأحيان كان نقد هذه المسلمات يصدم الناس صدمة عنيفة، ولكن العالم لم يكن يأبه إلا للرأي الذي اقتنع به. وهكذا رأينا كشوفا عظيمة الأهمية تتحقق - منذ القرن التاسع عشر - لأن عالما تجاسر على ألا يتقيد بالمسلمة القائلة إن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، وإن مجموع زوايا المثلث بالتالي ينبغي أن يكون قائمتين، أو لأن عالما آخر تحدى النظرة السائدة إلى المكان والزمان، والتي تجعل كلا منهما حقيقة مطلقة، فتجرأ على الربط بينهما في وحدة واحدة ينكمش فيها الزمان إذا عبر المكان بسرعة هائلة، أو لأن عالما ثالثا لم يقتنع بأن الضوء ينبغي أن يكون «إما» جسيمات دقيقة و«إما» تموجات، فجمع بين هذين المفهومين اللذين يبدو من المستحيل الجمع بينهما، وقال بنظرية جسيمية - تموجية في آن واحد. وهكذا أكدت فكرة «تحدي البديهيات والمسلمات» قيمتها في مجال العلم إلى الحد الذي شجع الكثيرين على نقلها إلى مجال الفكر الفلسفي والاجتماعي والنفسي والسياسي، وأصبحت هذه الفكرة من أهم السمات المميزة لعصرنا الحاضر. (ب)
على أن العالم مثلما يعيد اختبار الأمور المسلم بها في الأوساط العلمية أو الشعبية، ويخضعها لمحكمة العقل وحده، لا يعفي نفسه من النقد؛ فمن الجائز أنه هو نفسه قد وقع في خطأ، وفي هذه الحالة يتعين على العالم الحقيقي أن يبادر إلى الاعتراف بهذا الخطأ، وكثيرا ما يكون هذا الاعتراف أليما؛ وذلك لأسباب واضحة؛ فمن السهل أن ينقد المرء الآخرين، أما نقده لنفسه فمن أصعب الأمور، ولا يرجع ذلك إلى أسباب نفسية أو إلى الاعتزاز بالذات فحسب، بل يرجع أيضا إلى صعوبة عملية النقد التي يمارسها المرء نحو ذاته. فحين يكون النقد موجها إلى الآخرين، يكون ذهن الناقد ذهنا جديدا «أضيف» إلى ذهن صاحب الرأي الذي ينقده، وكل ذهن جديد يستطيع أن يتأمل الموضوع من زاوية جديدة، ويرى فيه جوانب ربما لم يكن صاحب الرأي الأصلي قدرها أو أضفى عليها الأهمية التي تستحقها. أما في حالة «النقد الذاتي» فإن الذهن الواحد هو الذي يضع الرأي الأصلي، وهو نفسه الذي ينبغي أن يتأمل هذا الرأي الأصلي بنظرة ناقدة، ومثل هذا التأمل النقدي يغدو عسيرا في هذه الحالة، والأرجح أن يظل المرء متمسكا بنفس وجهة النظر القديمة؛ لأن عاداته الفكرية وتكوينه الخاص يؤديان به - غالبا - إلى نفس النتائج التي انتهى إليها من قبل، ولأن من الصعب أن ينسلخ المرء تماما عن طريقته السابقة في النظر، ويتأمل موضوعه بأعين جديدة.
ومما يزيد من صعوبة هذا النقد الذاتي، أنه كثيرا ما يعني هدم حصيلة عمل بذل فيه العالم جهدا شاقا، ومراجعة شاملة لخطواته السابقة من جديد، فلو تبين أن هذا الهدم ضروري لأن الآخرين قد اكتشفوا في هذا العمل نقاط ضعف واضحة أو نقصا ظاهرا، فعندئذ لا يكون أمام العالم مفر من مراجعة عمله السابق، أما أن يقوم هو ذاته بالنقد الذي يؤدي به إلى تفنيد عمله الخاص وتبديد الوقت والجهد الذي بذله فيه، فهذا - بلا شك - أمر شاق من الوجهة النفسية والأخلاقية، ومن المؤكد أن القليلين هم الذين تتوافر لديهم القدرة على مراجعة النفس بأمانة، وإعادة النظر في أعمالهم السابقة بحيث يستغنون عنها استغناء تاما إذا اقتنعوا بأن ذلك ضروري ، فهذه المراجعة تحتاج إلى مستوى أخلاقي رفيع، وإلى إنكار للذات لا يقدر عليه معظم الناس، الذين لا يقبلون بسهولة أن يقتطعوا من حياتهم ومن ثمار جهدهم ويتنكرون لها بمحض إرادتهم وكأنها لم تكن. ولكن هؤلاء القليلين الذين يصلون إلى هذا المستوى الرفيع، هم الذين ينهض العلم على أيديهم، وفي معظم الأحيان تثبت الأيام أن جهدهم السابق - الذي تنازلوا عنه - لم يضع هباء، وأن عملية النقد الذاتي هذه قد تكون نقطة البداية في كشف علمي أهم بكثير من ذلك الذي كانوا يعتزمون الوصول إليه من قبل.
ولسنا نود أن نترك موضوع النقد الذاتي قبل أن نشير إلى استخدام شائع لهذا التعبير في أيامنا هذه، وهو استخدام سياسي في المحل الأول، والمفروض فيه أن يعيد المرء النظر في مواقف سابقة له - في المجال السياسي - وينقدها نقدا موضوعيا، ولكن ظروف العالم الذي نعيش فيه، وطبيعة الصراع بين الأفكار في هذا العصر، تؤدي - في كثير من الأحيان - إلى ابتذال معنى النقد الذاتي؛ إذ إنه كثيرا ما يصبح تعبيرا عن انتهازية رخيصة، يحاول فيها المرء أن يتنصل من مواقفه السابقة لأن التيار السياسي قد تغير، ولأن اتجاها جديدا وأشخاصا جددا قد قفزوا إلى السلطة، فيغير الأذناب جلودهم، تمشيا مع العهد الجديد، باسم «النقد الذاتي». كما أن هذا التعبير قد يستخدم نتيجة لوجود قهر شديد، يضطر معه المرء - إذا كان قد أعرب من قبل عن آراء معارضة أو رافضة - إلى سحب آرائه هذه والتنصل منها باسم «النقد الذاتي»؛ خوفا من بطش السلطة أو خضوعا لضغطها. وفي كل هذه الحالات لا تكون لهذا النوع من «النقد الذاتي» المزيف أية صلة بما نقوله ها هنا عن النقد الذاتي في المجال العلمي؛ لسبب بسيط هو أن النوع الأول لم يصدر بدوافع موضوعية، أو لم يكن تعبيرا عن إرادة حرة. (ج)
وأخيرا فإن تقبل النقد من الآخرين صفة أساسية ينبغي أن يتحلى بها العالم؛ ذلك لأن لكل منا عاداته الفكرية الخاصة، وطريقته الشخصية في معالجة الأمور ، وتكوينه الفردي المميز، وهذا كله ينعكس حتما على عمله العلمي، بحيث يعجز في أحيان كثيرة عن رؤية جوانب الضعف أو النقص فيه، ويحتاج إلى من يتأمل هذا العمل بعيون أخرى لكي يرى فيه ما لم يره صاحبه. وعلى الرغم من أن الحقيقة العلمية - عندما تثبت وتستقر - تكون حقيقة واحدة يتفق عليها الجميع، فإنها في مرحلة تكوينها تحتاج إلى تضافر عقول كثيرة وإلى «حوار» بينها، وهو ما أدركه قدماء الفلاسفة حين أكدوا أن «الجدل» - بمعنى مشاركة أكثر من عقل واحد في السعي إلى بلوغ الحقيقة - هو طريق المعرفة.
صفحه نامشخص