ولقد كانت دوافع العلماء الذين بدءوا هذا المشروع إنسانية خالصة؛ إذ كان الهدف الأصلي للمشتغلين في هذا المشروع - كما ذكرنا في الفصل السابق - هو الحيلولة دون قيام هتلر بفرض مبادئه الإرهابية والعنصرية على العالم عن طريق هذا السلاح الرهيب، ولكن الذي حدث بالفعل هو أن هزيمة هتلر قد تمت دون الحاجة إلى استخدام هذا السلاح، وقبل أن يتمكن العلماء الألمان من تطويره. وإذا كانت اليابان قد ظلت تحارب بعد ألمانيا فقد كان العالم كله يعرف أن أيامها معدودة، وأنها أخذت تنسحب من موقع تلو الآخر، لم يكن في إمكانها مواجهة الحلفاء الذين تفرغوا لها بعد هزيمة حلفائها الألمان. ومن هنا فقد كان العلماء الذين شاركوا في صنع القنبلة هم أشد الناس ذهولا حين فوجئوا بنبأ إلقاء القنبلتين الذريتين - الأوليين والأخيرتين حتى الآن - على المدينتين اليابانيتين، وكان الدمار الذي أحدثته القنبلتان، وعدد الأرواح التي أزهقت ومعظمها من المدنيين، وكذلك عدد المصابين بحروق وإشعاعات وتشويهات؛ كان ذلك كله شيئا يفوق في بشاعته كل ما عرفناه من مجازر الحروب. ولم يجد هؤلاء العلماء مبررا معقولا لاستخدام اكتشافهم على هذا النحو الوحشي، وإذا كان أصحاب القرار السياسي قد أكدوا أن القنبلتين أنقذتا أرواح ألوف كثيرة من الجنود الأمريكيين الذين كانوا سيقتلون لو لم تستسلم اليابان، فإن تقديرات الخبراء كانت تذهب كلها إلى أن اليابان كانت في حكم المهزومة، وكانت تفاوض سرا للاستسلام قبل إلقاء القنبلتين، فما الداعي إذن لكل هذه الآلام البشرية التي لحقت بمدنيين أبرياء؟ الواقع أن عددا من المحللين السياسيين قد ذهبوا إلى أن المقصود من إلقاء القنبلتين لم يكن الإسراع بهزيمة اليابان، بل كان قبل ذلك تأكيد سيادة الولايات المتحدة بوصفها الدولة العالمية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وإرهاب العالم وخاصة الاتحاد السوفيتي الذي كان قد بدأ يؤلف «معسكرا اشتراكيا» بعد هذه الحرب؛ حتى لا تحاول أية دولة - أو أي نظام مضاد - منافسة القوة العسكرية والاقتصادية الهائلة للولايات المتحدة.
على أن أمثال هذه المبررات - إذا كانت تقنع بعض السياسيين ممن لا يفكرون إلا من خلال مصالحهم - لا يمكن أن تقنع علماء يضعون نصب أعينهم - قبل كل شيء - الأهداف الإنسانية. ومن هنا فقد انتابت العلماء الذين شاركوا في صنع القنبلة الذرية «أزمة ضمير» حادة، وشعروا بأن جهودهم قد أدت إلى إدخال الإنسانية عصرا جديدا، هو عصر أسلحة «الدمار الشامل»، التي لا تفرق بين الجنود المحاربين وبين النساء والأطفال، التي تهدد الحياة على سطح هذا الكوكب بالفناء التام.
ولقد كانت أزمة الضمير هذه هي التي دفعت عددا غير قليل من هؤلاء العلماء - ومنهم أينشتين نفسه - إلى أن يكرسوا بقية حياتهم من أجل الدعوة إلى السلام. بل إن منهم من أصبح محاطا بالشبهات، مثل روبرت أوبنهيمر
R. Oppenheimer
الذي وصل به الندم حدا جعل سلطات الأمن في بلاده تراقبه عن كثب، ثم تبعده عن مواقع المسئولية في عمله، من أن يعمل على تسريب أسرار الأسلحة الجديدة إلى المعسكر الآخر. وكان من هؤلاء العلماء فريق قام بالفعل بنقل هذه الأسرار إلى الطرف المعادي للولايات المتحدة، لا من أجل المال، بل لدوافع يعتقد أنها إنسانية؛ إذ إن امتلاك طرفي النزاع الدولي للقنبلة الذرية هو الكفيل بإيجاد حالة من التوازن يمتنع فيها كل من الطرفين عن استخدامها خوفا من الآخر. ومن المؤكد أن عمل هؤلاء العلماء يعد - بالمقاييس الأخلاقية الخالصة - عملا إنسانيا جليلا، ولكنه بمقاييس القوانين العادية خيانة للوطن.
ومنذ ذلك الحين طرأ تطور هائل على القوة التدميرية للأسلحة النووية، حتى أصبحت قنبلتا هيروشيما ونجازاكي أشبه «بلعب الأطفال» بالقياس إلى القنابل الهيدروجينية الحالية، كما طورت الصواريخ بحيث تستطيع أن تحمل رءوسا نووية وتصيب أي مكان في العالم، سواء من قواعد ثابتة أم من قواعد متحركة (كالغواصات النووية). وكانت هذه التطورات كلها مرتبطة ارتباطا أساسيا بالعلم؛ إذ إن علماء فترة «الحرب الباردة» لم يكونوا على نفس القدر من الحساسية الذي كان عليه رواد القنبلة الذرية، ربما لأن هؤلاء الأخيرين كانوا قد خرجوا لتوهم من أهوال الحرب العالمية الثانية، وربما لأن أسلحة الدمار الشامل قد أصبحت بعد ذلك شيئا مألوفا، تحسب قدرته التدميرية بحسابات رياضية باردة لا تؤخذ فيها آلام الإنسانية بعين الاعتبار.
ونتيجة ذلك كله هي أن العالم يعيش الآن على طرفي «توازن الرعب» الذي تقوم فيه الدولتان العظيمتان؛ أمريكا والاتحاد السوفيتي، بتكديس كميات من الأسلحة تكفي لقتل العالم كله «عدة مرات» (ولست أدري لماذا؟!)
وتقف فيها الصواريخ ذات الرءوس النووية على أهبة الاستعداد في انتظار ضغطة زر من رئيس الدولة، وتراقب فيه كل دولة الأخرى مراقبة دائمة في انتظار أية إشارة تنبئ بخروج الصواريخ منها؛ لكي تضرب «الضربة الانتقامية» قبل وصول الصواريخ المعادية إليها، ولو قدر للبشرية أن تعيش قرنا آخر أو قرنين، فمن المؤكد أنه سوف تسخر ما شاءت لها السخرية من حالة الرعب المتبادل التي يعيش فيها إنسان اليوم في أرقى دول العالم، وهي حالة «بدائية» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى وإن كانت تستخدم فيها أرقى وأحدث تطورات العلم.
ولقد حاول البعض أن يخففوا من تأثير الاتجاه إلى تسخير العلم للأغراض العسكرية، فذهب برونوفسكي
Bronowski
صفحه نامشخص