ولا شك أن هذه الحجة الثانية يمكن أن يرد عليها بأن إرجاء المشكلة يعني إعلاء فرصة أطول للعلم كيما يتوصل إلى حلول جديدة غير مألوفة لمشكلة الموارد الطبيعية، بدلا من أن يضطر العالم إلى مواجهة هذه المشكلة قبل أن يكون العلم قد أعد نفسه لحلها، كما أن ضمان مستوى معقول للغالبية الفقيرة من سكان الأرض قد يساعد سكان هذه المناطق على بذل المزيد من الجهد من أجل استخراج كل ما هو كامن في أقاليمهم من ثروات.
ولكن الذي يهمنا من هذه المقابلة بين الآراء المتعارضة في مشكلة الموارد الطبيعية هو أولا أن المشكلة ليست بالبساطة التي تبدو عليها للوهلة الأولى، بل إنها من التعقيد بحيث تستدعي قدرا غير قليل من التفكير المتعمق، الذي يوازن بين الحجج والردود عليها، ويدرك أن للموضوع أبعادا متعددة. ويهمنا ثانيا في هذا الموضوع أن نؤكد ارتباطه بمشكلات أخلاقية، كمشكلة أنانية الأجيال، وبمشكلات اجتماعية كمشكلة التقريب بين مستويات المجتمعات البشرية. ولكن ربما كانت أهم المشكلات العقلية التي يثيرها هذا الموضوع هي تلك المشكلة الأساسية المتعلقة بالقيم، وأعني بها قيمة الحياة الاستهلاكية التي تعيشها المجتمعات الصناعية الحديثة.
ذلك لأن المجتمعات المتقدمة أصبحت - في عصرنا الحاضر - تنظر إلى التوسع في الاستهلاك كما لو كان غاية في ذاته، وتعده قيمة أساسية من قيم الحياة ينبغي أن تؤخذ على ما هي عليه دون مناقشة، بل إن الإنسان الحديث أصبح ينظر إلى أي نظام اجتماعي على أنه جهاز ضخم وظيفته الأولى والأساسية هي توفير مطالبه الاستهلاكية، وأصبح يحكم عليه - إيجابا أو سلبا - في ضوء قدرته أو عدم قدرته على تحقيق هذه المطالب.
ولقد أصبح هذا الأسلوب من التفكير متغلغلا فينا إلى حد أننا لم نعد قادرين على مناقشته، بل أصبحنا نعده جزءا من طبيعة الأشياء، ونظاما من أنظمة الكون. ولكن حقيقة الأمر أن هذا كله اتجاه حديث، ينتمي إلى قيم المجتمع الصناعي الغربي، وهي القيم التي استطاعت - بفضل تفوق هذا المجتمع - أن تنتشر وتعم أجزاء كبيرة من العالم المعاصر. والدليل على أن هذا الاتجاه الاستهلاكي ينتمي إلى الإنسان الحديث وحده، هو أن العصور الماضية كانت تفكر في الأمر بطريقة مغايرة تماما؛ فعند اليونانيين القدماء كان الفكر الفلسفي والأخلاقي - وخاصة عند سقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيين - يتجه إلى تعويد الإنسان السيطرة على رغباته والتحكم فيها، ولم يقل أحد عندئذ أن وظيفة النظام الاجتماعي هي أن يوفر للإنسان أكبر قدر من أدوات الاستهلاك. وفي العصور الوسطى كانت معظم الرغبات الاستهلاكية - التي هي محور حياتنا الحاضرة - تعد رغبات شريرة، وكان هدف النظام الاجتماعي والفكري هو إخماد صوت هذه الرغبات ، وكان الإنسان الأمثل هو ذلك الذي يعزف عن تحقيق مطالب الترف والرفاهية.
ولست أود أن يفهم القارئ مما أقوله أنني أدعو إلى الزهد أو أحمل على الحياة الحديثة لأنها مترفة؛ إذ إن الأمر المؤكد هو أن دعاة الزهد المتطرف كانوا يكبتون كثيرا من الرغبات الإنسانية المشروعة، ويقمعون مطالب حيوية للإنسان، وقد أثبتت الأيام أن كثيرا من دعاة الكبت والقمع هؤلاء يعيشون حياة مضادة تماما لتلك التي يدعون الناس إليها. ومن جهة أخرى فإن الإنسان قد أحرز في العصر الحديث تقدما لا شك فيه حين استطاع أن يتحرر من هذا الكبت، واقتنع بأن إرضاء رغباته الطبيعية لا يتعين أن يكون في ذاته أمرا شريرا.
ولكن ما أود أن أثبته - من هذه المقارنة - هو أن النمط الحالي للحياة الاستهلاكية ليس أمرا مسلما به كما نتصور الآن، وأن الإنسان كان يعيش في عصور أخرى في ظل قيم مضادة لتلك التي يسلم بها الآن، حتى لو لم يكن قد تمسك دائما بهذه القيم، فإذا أدركنا هذه الحقيقة؛ أمكننا أن نتأمل بنظرة نقدية طبيعة الحياة الاستهلاكية التي يتصور الإنسان الحديث أنها أقصى أمنياته.
وحين نقوم بهذا النقد ستظهر بوضوح أمامنا عيوب هذا التطلع الاستهلاكي المخيف الذي يتملك الإنسان في المجتمعات المتقدمة، ويحلم به الإنسان في المجتمعات غير المتقدمة، وحقيقة الأمر هي أن المشكلة لا تكمن - على وجه الدقة - في الاستهلاك أو عدم الاستهلاك، بل إن أساس الموضوع كله هو «نوع» الاستهلاك، فنحن قد تطرفنا في الاتجاه المضاد لما كان يدعو إليه أجدادنا من زهد وعزوف عن المطالب المادية، حتى أصبحنا محاطين بشبكة محكمة من الوسائل الإعلامية التي تدعونا بذكاء شديد إلى استهلاك أشياء تافهة. وهكذا يجد المرء - أينما ذهب - إعلانات ضخمة تدعو إلى صنوف من المأكولات أو المشروبات، وتغريه بمظهرها الحسي الفج، وتصور الشفاه الظامئة وهي تتلهف على الزجاجة المثلجة، أو الأسنان الشرهة وهي تنقض على قطعة اللحم، حتى ليشعر المرء بأن الزمن قد دار دورة كاملة منذ عهد الترفع على المحسوسات حتى عهد الإغراق السوقي فيها.
ولنقل مثل هذا عن أساليب استثارة الرغبات الحسية الأخرى - كالجنس - التي أصبحت تحفل بها إعلانات الأفلام والملاهي وتزين أغلفة المجلات ... إنها بدورها مظهر لقيم معينة، قد يكون لها جانب إيجابي هو أن الإنسان لم يعد مكبوتا، ولكن لها جوانب سلبية واضحة، هو أنها تجعل للحياة الإنسانية أهدافا حسية مباشرة، وتسيء إلى الرغبات الإنسانية الطبيعية ذاتها؛ إذ تجعلها موضوعا للمتاجرة والربح، وتنزع عنها طابع الخصوصية - الحالي هو أساسي فيها - لتحيلها إلى سلعة عامة يتداولها الجميع.
والأعجب من ذلك أن السعي المحموم إلى الاستغلال التجاري للرغبات الإنسانية قد دفع هؤلاء المستغلين إلى خلق «رغبات صناعية» لا تلبي حاجات طبيعية لدى الإنسان، ولكن الإلحاح المستمر عليها - بالدعاية والإعلان - يقنع الناس على نحو متزايد بأنها رغبات أساسية. وهكذا يخلق لدى الإنسان - في المجتمعات المتقدمة أو في المجتمعات الثرية (وهما ليسا دائما شيئا واحدا) - إحساس بضرورة تغيير طراز سيارته أو ثلاجته أو ملابسه أو حتى ساعته كلما جد في هذا الميدان جديد، لا لأن ما لديه قد استهلك، بل لأن عقله قد تشكل بالطريقة التي يريدها المنتجون، والتي تضمن لهم أكبر قدر من الربح، وكم من الملايين تنفق سنويا من أجل تلبية هذه الرغبات المصطنعة التي هي - في أغلب الأحيان - رغبات غير ضرورية، بل إن بعضها قد يجلب - على المدى الطويل - ضررا. فإذا: كاختراع فرشاة أسنان تتحرك بالكهرباء بدلا من حركة اليد، أو أجهزة آلية لتغيير سرعة السيارة بدلا من جهاز التغيير اليدوي، أو جهاز للتحكم عن بعد في ضبط التليفزيون حتى لا يقوم الإنسان من مكانه ... وكلها مخترعات تبدو في ظاهرها مريحة، ولكنها في حقيقتها تعود الإنسان الخمول الزائد، وتحرمه من ممارسة أقل قدر من الجهد الجسمي الذي هو في أشد الحاجة إلى بذله؛ كيلا يتعرض لأمراض الترف «والحضارة».
وربما قيل - دفاعا عن نمط الحياة الاستهلاكية هذا: إن عصرنا يستطيع أن يملك ترف الاستهلاك لأنه عصر إنتاج فائض، على حين أن فلسفة الزهد كانت تشيع في عصور الحرمان والإنتاج الشحيح، ولكن هذه حجة هزيلة؛ إذ إن عصرنا بدوره مليء بمظاهر الحرمان التي تصل إلى حد المجاعة في بعض البلاد الفقيرة، وإلى حد سوء التغذية ونقص الملبس والمسكن بين النسبة الغالبة من البشر. بل إن الدول الغنية ذاتها لا تخلو من الحرمان، وإن كانت تسعى جاهدة إلى التستر عليه. وهكذا فإننا إذا كنا نملك إنتاجا فائضا - وهو أمر لا ينطبق على الجميع - فمن المؤكد أننا لم نحسن استخدامه، وإن الأنظمة الاجتماعية التي يعيش الإنسان الحديث في ظلها لم تصل بعد - في معظم الأحيان - إلى مستوى العدالة؛ ومن ثم فإنها تدعو إلى الترف الزائد في إطار من الحرمان.
صفحه نامشخص