فإذا حاولنا أن نقدم عرضا لأهم إنجازات هذا العلم المعاصر؛ لكي نتبين منها الملامح المميزة له من العلم في العصور الماضية، فإن مهمتنا تبدو في هذا الصدد شديدة الصعوبة؛ ذلك لأن هذه الإنجازات تبلغ من الكثرة والتشعب حدا يجعل من العسير تقديم عرض يتسم بأي قدر من الشمول لها، كما يجعل من الصعب الاختيار بينها إذا كان الهدف هو عرض نماذج منها. وعلى أية حال فسوف نكتفي بالكلام عن مجموعة من الإنجازات التي يكاد يكون هناك إجماع في الرأي على أهميتها العظمى في حياة الإنسان المعاصر، مع تأكيد حقيقة أساسية هي أن هناك إنجازات أخرى لا تقل عنها أهمية في نظر الكثيرين.
أول هذه الإنجازات هو كشف إمكانات الطاقة الذرية، ولقد كان اكتشاف الطاقة الكامنة في الذرة حصيلة مجموعة كبيرة من التطورات الأساسية في علم الفيزياء، من أهمها اهتداء «أينشتين» إلى معادلته المشهورة بين المادة والطاقة ، ولسنا نود أن نتحدث الآن عن الأهمية النظرية لهذا الكشف الكبير الذي أزال الحد الفاصل بين ما كان يعتقد أنه «مادة صلبة» وبين الطاقة التي هي مجرد قوة غير ملموسة، ولكن ما يهمنا هو أن معادلة أينشتين ظلت حقيقة «نظرية» في حاجة إلى التحقيق العلمي والتجريبي، وكانت الظروف العالمية - الخارجة عن نطاق العلم - هي وحدها التي هيأت الفرصة لهذا التحقيق العملي، وهي التي جعلت أول وأهم تطبيقات هذه المعادلة يحدث في الميدان العسكري.
فقد كان من المعروف - قبل الحرب العالمية الثانية - أن العلماء الألمان قد قطعوا شوطا بعيدا في محاولة استغلال المعرفة النظرية المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة، وكان من الحقائق المسلم بها أن هذه المحاولات سوف تسير أولا - وقبل كل شيء - في الاتجاه العسكري، وكان هناك خوف حقيقي من أن يكتسب هؤلاء العلماء - في عهد هتلر - القدرة على الاستغلال الحربي لتلك الطاقة الهائلة التي تتولد عن انشطار الذرة، وتضاعف هذا الخوف باقتراب نذر حرب عالمية جديدة، وبالمسلك العدواني المغرور الذي كان هتلر يسلكه مع الدول المحيطة به في الفترة السابقة على تلك الحرب. وكان أول من تنبه إلى هذا الخطر مجموعة من العلماء معظمهم ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة فرارا من الاضطهاد في العهد النازي. وهكذا اجتمعت كلمة هؤلاء العلماء - وعلى رأسهم أينشتين نفسه - على أن يكتبوا إلى الرئيس روزفلت - رئيس الولايات المتحدة في ذلك الحين - داعين إياه إلى أن يخصص لهم الأموال والاستعدادات اللازمة؛ حتى يتسنى لهم الوصول إلى هذا السلاح الجديد قبل أن يتوصل إليه حاكم طاغ يمكن أن يسيطر به على العالم ويفرض عليه قيمه وأفكاره المعادية للإنسان.
وبالفعل قدمت الدولة إلى مجموعة العلماء المشتغلين في هذا المشروع - الذي عرف باسم «مشروع مانهاتان»
Manhattan Project - كل ما يحتاجون إليه من مساعدات ووسائل للبحث، واستطاع العلماء الأمريكيون أن يجروا في عام 1945 في صحراء نيفادا أول تجربة ذرية في التاريخ. ولم تمض إلا مدة قصيرة حتى وضع السلاح الرهيب الجديد موضع التطبيق الفعلي، فألقيت أول قنبلة ذرية على هيروشيما في اليابان في 8 أغسطس 1945، وأعقبتها بعد أيام قلائل القنبلة الثانية على نجازاكي؛ مما عجل بالاستسلام النهائي لليابان، آخر دولة ظلت في الحرب.
وسوف نتحدث فيما بعد عن الدلالة الإنسانية للسلاح الذري بوجه عام - ولقنبلتي هيروشيما ونجازاكي - وهما القنبلتان الذريتان الوحيدتان اللتان استخدمتا في حرب حقيقية حتى اليوم - بوجه خاص، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد هو الإشارة إلى أن نجاح «مشروع مانهاتان» كان معناه دخول الإنسانية عصرا جديدا هو ما أصبح يعرف بعد ذلك باسم العصر الذري. وصحيح أن الإنسانية قد أعلنت عن دخولها هذا العصر بطريقة تدعو إلى الأسى من خلال دوي يصم الآذان، وكرة هائلة من النار تصهر حرارتها الحديد، وصراخ عشرات الألوف من الأطفال والنساء والضحايا الذين لا يعرفون لماذا يحدث ذلك كله، ولكن المهم في الأمر أن العلم الإنساني وصل بهذا الانفجار إلى نقطة تحول حاسمة في تاريخه، وأن إحدى قمم المعرفة البشرية قد بلغت من خلال الحضيض الذي تردت إليه الإنسانية في أبشع وأسرع حادثة قتل جماعي في التاريخ.
ومنذ ذلك الحين أصبحت الذرة من أبرز المعالم المميزة لعصرنا، فتطورت الأسلحة في الميدان العسكري، من القنابل الذرية إلى القنابل الهيدروجينية التي هي أشد فتكا بكثير، ووصلت هذه القنابل الآن إلى درجة من القدرة التدميرية أصبح العلماء معها يصنفون قنبلة هيروشيما بأنها «لعبة أطفال». ولم تعد هذه القنابل الآن سلاحا عسكريا فحسب، بل أصبحت سلاحا استراتيجيا في المحل الأول؛ وذلك حين لم تعد تحتكرها دولة واحدة، وحين تطورت وسائل نقلها وأصبحت قادرة على الوصول إلى أي مكان في العالم. وهكذا نشأ ميزان الرعب النووي بين الدولتين الكبيرتين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وترتبت على ذلك المناورات السياسية والعسكرية التي شهدتها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكل محاولات الردع والاحتواء والأحلاف العسكرية، ثم التعايش السلمي والوفاق ...
وفي الجانب الآخر كان العلماء يشتغلون بجد من أجل كشف الوسائل التي يمكن بها تسخير هذه الطاقة الهائلة الجديدة للأغراض السلمية، وبالرغم من كل ما تم إحرازه في هذا الميدان من تقدم، فإن الحقيقة المؤسفة التي ينبغي الاعتراف بها، والتي تنطوي على إدانة خطيرة للإنسان المعاصر، هي أن القدرة على استخدام الذرة في المجالات السلمية ما زالت في مستوى أقل بكثير من القدرة على استخدامها في الأغراض العسكرية؛ أي إن الإنسان ما زال يثبت أنه أقدر على استخدام عقله وعبقريته من أجل الموت، منه على استخدامه من أجل الحياة. ومع ذلك فلا بد أن نسجل أن أعدادا من الإنجازات الهامة قد تحققت في هذا الميدان؛ إذ إن الذرة استخدمت في العلاج الطبي بنجاح غير قليل، وخاصة في حالة بعض الأمراض المستعصية، كما أمكن بفضلها إنجاز مشروعات هندسية كبرى؛ كشق الترع أو حفر الأنفاق أو هدم عوائق صخرية ضخمة، والأهم من ذلك أن شوطا كبيرا قد قطع في طريق استخدام الطاقة الذرية كمصدر للوقود، وما زالت الأبحاث جارية لكي تستطلع كل إمكانات هذه الطاقة الهائلة.
وفي نفس الوقت الذي دوى فيه صوت الانفجار الذري في هيروشيما لكي يعلن على الملأ بداية عصر الذرة، كان هناك عالم هادئ يعلن بأبحاثه - في تواضع شديد - قيام علم جديد أطلق عليه اسم «السيبرنطيقا»
Cynernetics ، وكان ظهور هذا العلم الجديد هو بدوره واحدا من المعالم البارزة لعصرنا الحاضر، بل قد يثبت على المدى الطويل أن تأثيره في مستقبل الإنسانية أهم بمراحل من تأثير الانشطار النووي؛ هذا العالم هو «نوربرت فينر»
صفحه نامشخص