وحيث وصلتُ بغداد في شهر الله الأصم رجب سنة ستين وستمائة إلى خدمة المولى الصاحب الأعظم سلطان وزراء العالم علاء الحق والدين صاحب الديوان عطا ملك بن المولى الصاحب السعيد الشهيد بهاء الدين محمد الجويني، أعز الله نصره. وأعلى على الأقدار قدره، وانتظمتُ في سلك أتباعه، وعددت من حواشيه وأشياعه، وغمرت بأياديه، وسالت عليّ شعاب واديه، وعمّتني مبرته، ووجدت اليمن حين لاحت لي غرته، وأهلّني لكتابة الإنشاء، وأسبغ علي ملابس النعم والآلاء، وجدته كريمًا في نفسه، مهذبًا في خلقه، تامًا في خلقه، قد جمع إلى شرف نفسه شرف نسبه، وإلى طيب أخلاقه طهارة أعراقه، وإلى كرم مولده كرم محتده، فهو وأخوه المولى الصاحب الأعظم سلطان وزراء العالم شمس الحق والدين محمد، أعز الله نصرته، وأدام قدرته، إنسانًا عيني الزمان ونيرًا فلك الإنعام والإحسان، قد بذلا الرغائب، وأظهرا في اصطناع المعروف العجائب، وجادا فالماء جامدٌ والتبر ذائب:
وكذا الكريم إذا أقامَ ببلدة ... سالَ النضارُ بها وقامَ الماءُ
لا زالت دولتهما باقية على الدوام والاستمرار وإيالتهما مؤيدة بمعاونة الأقضية والأقدار فإنهما مدا بضبعي وسقيا غرسي فأينع أصلي وفرعي ونفعا جدي فأجادا نفعي فحالي بإقبالهما حالي، وقد نما بهما جاهي ومالي، وأوجداني جدة فنيت بها آمالي، فأنا أملي في مدحهما الأمالي، وأرصّع تيجان شرفهما من درر أفكاري، بالجواهر واللآلي: فابلغا أكمل السعادة في ظل العلى وابقيا أتم البقاء أنتما ذاك الذي أخبر القرآن عنه في دوحة علياء أصلها ثابتٌ كما ذكر الله تعالى وفرعها في السماء.
وكان من منتهما التي أكرر صفاتها وأرددها، ونعمهما التي أعد منها ولا أعددها، أن عرفت في خدمتهما الملك المعظم الكبير فخر الدولة والدين جمال الإسلام والمسلمين مفخر الزمان منوجهر بن أبي الكرم الهمذاني، أسبغ الله ظله وأعلى محله، فجلوت بمعرفته صدأ القلب والعين وأحللته مني في الأسودين، وعقدت في محبته خنصري وأفضيت إليه بعجري وبجري، ورأيته مهذب الأخلاق كريمها، جميل الغرة وسيمها، لو جسد العقل لكان إياه، أو مني السداد لما تعداه، حسن الصمت حلو الحديث جامعًا بين الشرف القديم والمجد الحديث، قد أضاف إلى الكرم الطريف الكرم التالد، وأشبه أباه في الفضل فقيل: هذا الولد من ذلك الوالد، جمع الله به أشتات المناقب وأحسن إليه في المبادي والعواقب.
ولما أحكمت الأيام في حكمته عهود الوداد، وحصل من طول الصحبة حسن الاتحاد، طلب أن أجمع له مجموعًا مشتملًا على معان من الأشعار ولمع من محاسن الأخبار، ليشرفه بمطالعته، وينوب عن حضوري إذا غبت عن خدمته، ويكون كالمذكر بعهدي والمنبه على حفظ ودي، وإن كانت عهوده، جمل الله ببقائه، محفوظة على الدوام، مصونة مع تصرف الأيام، لأن من حل محله من النبل كان مثله من أهل الفضل فهو إلى أعلى رتب المجد راق، وعلى عهوده في كل حال باق، فلبيت دعوته حيث ناداني، ومريت خلف القريحة فدر وأتاني.
ولولا ما افترضته من اتباع إشارته، وآثرته من النهوض بخدمته، لكان في الزمان وأكداره المتعددة وفوادحه المتكررة المتعددة ما يشغل الإنسان عن نفسه، وتذهله عن معرفة يومه فضلًا عن أمسه، وقد استخرت الله في جمع هذا المجموع وجعلته أوصافًا وسميته: التذكرة الفخرية، والتزمت بشرح ما يعرض في أثنائه من كلمة لغوية أو معنى يحتاج إلى إيضاح ولي على الناظر فيه ستر العوار والزلات والإغضاء على الخطأ والهفوات، فما رفع قلم عن كتاب والإنسان معرض للنسيان، والمختار معان، والناس مختلفون في الاستحسان، وقد أمليت جملة منه من خاطري فمن وجد فيه خطأ وأصلحه أو خللًا فهذبه قام مقام المفهم وقمت مقام المتفهم، وعرفت له فضل العالم على المتعلم، إكرامًا لما رزقه الله من الأدب وقضاء لحق العلم فلولا الوئام هلك الأنام.
1 / 5