يكاذبني وأصدقهُ ودادًا ... ومن كلفٍ مصادقةُ الكذوبِ
أعرابي:
وخبرها الواشون أنَّ خيالها ... إذا نمتُ يغشى مضجعي ووسادي
فخفرها فرطُ الحياءِ فأرسلتْ ... تعاتبني غضبي لطولِ رقادي
وقال مهيار بن مرزويه:
في الظباء الماضين أمس غزالُ ... قالَ عنه مالا يقولُ الخيالُ
لم يزل يخدع البصيرةَ حتى ... سرّني ما يقولُ وهو محالُ
لا عدمتُ الأحلام كم نوَّلتني ... من عزيزٍ صعبٍ عليه النوالُ
هذه الأشعار قد اختلفت فيها مذاهب القوم وأكثرها يدل على شدة الحرص على النوم، لأن منهم من جعل النوم ذريعة إلى الخيال الزائر، ومنهم من أنكر زيارته لأنه أبدًا ساهر، أما قول البحتري:
إذا انتزعته من يدي انتباهة
وقوله:
أراني لا أنفك في كل ليلة
فإنه يدل على نوم شديد واستغراق ما عليه مزيد إذ لا يزال الخيال في يديه فلا ينزعه إلاّ انتباهة وقد ادعى نباهةً في الوجد وأين فيه من النائم نباهةٌ. وأكثر نومًا منه القائل:
وما ليلة في الدهر إلاّ يزورني ... خيالك إلاّ ليلة لا أنامها
فهذا شعر من غلبة النعاس فنام، وجعل الطيف حجة وذريعة إلى هذا المرام، وقد أحسن مهيار في قوله ما شاء:
وابعثوا أشباحكمْ لي في الكرى ... إنْ أذنتم لجفوني أنْ تناما
والبديع الحسن في هذا قول ابن التعاويذي:
قالت أتقنعُ أنْ أزوركَ في الكرى ... فتبيتَ في حلمِ المنامِ ضجيعي
وأبيك ما سمحتْ بطيفِ خيالها ... إلاّ وقد ملكتْ عليَّ هجوعي
فهذا غايةٌ ما فوقها غاية، وله أن يحمل على الشعراء في هذا ألف راية.
شمس الدين الكوفي الواعظ:
قل لمن نال حظهُ من رقاد ... جاعلًا حجةً لطيف الخيالِ
لو تيقظت جئت نحوك لك ... ني أرسلتُ حينَ نمت مثالي
لو صدقتَ الهوى صدقتُ ولكن ... ما جزاء المحال غير المحالِ
المجد بن الظهير الإربلي وأجاد:
أأحبابنا إنْ فرَّقَ الله بيننا ... وحازكم من بعد قربكم البعادُ
فلا تبعثوا طيف الخيال مسلمًا ... فما لجفوني بالذي بعدكم عهدُ
وقد قيل: إن الحَيْصَ بَيْصَ دخل على أبي المظفر يحيى بن هبيرة الوزير وهو ينشد:
زارَ الخيالُ نجيلًا مثلَ مرسلهِ ... فما شفانيَ منه الضمُّ والقبلُ
ما زارني قطُّ إلاّ كي يواقفني ... على الرقاد فينفيه ويرتحلُ
والوزير يقول: هذا والله تام وفوق التام لا بل التام جزء منه، فقال الحيص بيص: يا مولانا له تمام، فقال: انظر ما تقول، قال: نعم بشرط أن يعيده الوزير، فأعاده، فقال:
وما درى أنَّ نومي حيلةٌ نصبت ... لصيده حينَ أعيا اليقظةَ الحيلُ
فأجازه وأحسن صلته: وقد ظرف القائل في قصد ما قاله الجماعة:
أتظن أنكَ عاشقٌ ... وتبيتُ طولَ الليلِ حالمْ
الطيفُ أعشقُ منكَ إذْ ... يسري إليكَ وأنتَ نائمْ
أذكر من غزل أهل العصر فمنهم: الشيخ ظهير الدين الحنفي الإربلي الفقيه النحوي المجيد الشاعر المبرز، ضرب في قالب الإحسان فبذ الأقران، وجرى في حلبة البيان فأحرز قصب الرهان، هاجر من وطنه إلى الشام وآثر بها المقام، وشنف أسماع أهلها بما هو أحسن من الدر في النظام، وروض معالمها بما هو أزهى من حوك الغمام، من شعراء العصر يتغلب في ظني أنه، عند جمع هذا المجموع، حي يرزق، وأنشدني بعض الأصحاب من شعره في الطيف وهو حسن:
لله طيفك ما أشدَّ حفاظه ... يوفي بعهد أخي الحفاظِ وينكثُ
ليلي بزورته كخطفةِ بارقٍ ... يا ليتَ ليلي حينَ يطرقُ يمكثُ
لي كلما وافى على كبدي يدٌ ... ويدٌ بأذيالِ الدجى تتشبثُ
وقال:
هو الوجد لولا ما تجنُّ الجوانحُ ... لما روت السفحَ الدموع السوافحُ
ولولا الهوى العذري لم تذك لوعتي ... وقد عنّ برقٌ بالأبيرقٍ لائحُ
أأحبابنا كيف اللقاء وبيننا ... نوىً لم تخدْ فيه الركاب الطلائحُ
ومنها:
وأسمرُ سمرُ الخط والبيض دونه ... وحمر المنايا رعفٌ ورواشحُ
من الهيف لو لم تعطف الريح عطفه ... لما كنت فيه للنسيم أطارحُ
وقال:
وما ألذّ إلى سمعي وأطربه ... عذل إذا شابهُ اللاحي بذكركم
1 / 15