وقد قسمت الرواية إلى قسمين أحدهما للتلمذة والآخر للرحلة لأن بطلها ممثل يتدرب على فنه، وكان الممثلون في ذلك العهد لا يدركون مرتبة الأستاذية إلا بعد برهة يقضونها في التلمذة وبرهة أخرى يقضونها في الرحلة، فولهلم ميستر يخوض هذا الغمار ويتدرب على الفن وعلى الحياة وتفضي به تجربة الدنيا وتجربة نفسه إلى ترك التمثيل ومزاولة الطب؛ لأنه عرف كفاءته الصحيحة بطول المرانة. •••
لقد كان في فوست سمات من جيتي فهل في ولهلم ميستر مثل هذه السمات؟ نعم، وأولى هذه السمات هي تثقيف النفس بالمشاهدة والتجربة ومعرفة الكفاءة بالعمل والمزاولة، فكلاهما ترك فنا كان ينشده ويطلب الأستاذية فيه وعدل عنه إلى علوم أخرى. فأما الفن الذي تركه ميستر فقد علمنا أنه التمثيل، وأما الفن الذي تركه جيتي فهو التصوير! تركه بعد أن كان يرشح نفسه فيه لبلوغ أقصى مداه، فلما زار إيطاليا وجرب قدرته هناك وقضى ما قضى من الوقت في مراسه وابتغاء التفوق فيه على غير جدوى صدف عنه وعاد من إيطاليا على هذه النية.
منظر من تصوير جيتي.
وقد كان في نيته أن يقصر رواية «ولهلم ميستر» على التمثيل وأن يتمها بأن يقود البطل في طريق النبوغ والأستاذية، فعدل به كذلك عن هذه الطريق كما عدل هو عن طريقه. فهما في تجربة النفس وتاريخ العدول عن الرغبة الأولى يلتقيان.
وسمة أخرى تتشابه بينهما هي قلة المثابرة والتصميم والانتهاء إلى التفويض والتسليم، والتجاؤهما إلى الطلاسم والقوى الخفية يتسليان بها عن عزيمة الجهد كما يتسلى الفنان بمعاني القريحة عن وقائع الحياة، وما به دجل ولا غباء.
والسمة الظاهرة عليهما فوق كل سمة هي كثرة العشيقات وأسلوب التنقل من غرام إلى غرام، فأسلوب جيتي وهو يلوذ من عشيقة بعشيقة كأسلوب «ولهلم ميستر» وهو ينتقل من ماريانا إلى فيلين، ومن فيلين إلى مينون، ومن مينون إلى النبيلة ، ومن النبيلة إلى أوريلي والآنسة كتلباخ، ومنهما إلى تيريز، ومن هذه إلى الأمازونة، وكذلك يتشابه الأسلوبان في ترويض النفس بالحب وفي صوغ العواطف وادخار الشعور، ويتشابهان كذلك في علو النظرة الفنية في معظم هذه العواطف على إسفاف الشهوات.
وإذا خطر لك أن تسأل عن هذه الرواية كما سألت عن فوست: ما الغرض منها؟ وما مغزاها؟ ففي وسعك أن تعلم قبل السؤال أنها لا غرض لها ولا مغزى! وأن جيتي أول من يكاشفك بأنه لا يقبض على مفتاحها، ولكنها وطاب حافل بحقائق الحياة في الفن والتعليم والنقد والعلم والدين والسياسة هيهات يدانيه وطاب، ثم هي مشاهد ناطقة بالصدق والحكمة، وشخوص موسومة بالملاحة والإتقان، ولا سيما شخص الفتاة «مينون» التي راحت في آداب الغرب علما من الأعلام.
منظر الوداع من جبال إيطاليا تصوير جيتي.
الديوان الشرقي
الألمان كثيرو الدراسة للمشرقيات بين الأوروبيين، وقد تضاعفت عنايتهم بها في أواسط القرن الثامن عشر لسببين: أحدهما النهضة العلمية العامة والآخر تمردهم على سلطان الآداب الفرنسية، فإنهم لما تمردوا على هذه الآداب حولوا وجوههم إلى كل وجهة أخرى، فدعوا إلى اليونان الأقدمين، ودعوا إلى الإنجليز، ودعوا كذلك إلى الشرقيين يطالعون كتبهم ويترجمونها ويقتبسون منها الموضوعات.
صفحه نامشخص