الأول لا يستفيد علم الموجودات من وجودها ، فإنه يفيدها الوجود ، فهو يعقلها فائضة عنه. ففى عقله لذاته عقله لها ، إذ هى لازمة له.
هو يوجدها معقولة؛ لا يوجدها من شأنها أن تعقل.
فإن قال قائل : إنه هل يعلمها قبل وجودها حتى يلزم من ذلك إما أن يعلمها وهى فى حال عدمها ، أو يلزم إما أن يكون يعلمها عند وجودها حتى يكون يعلمها من وجودها؟ كان قوله ذلك محالا ، لأن علمه بها هو نفس وجودها ، ونفس كون هذه الموجودات معقولة له هو نفس كونها موجودة. وهو يعلم الأشياء ، لا بأن تحصل فيه فيعلمها كما نعلم نحن الأشياء من حصولها ووجودها ، بل حصولها هو علمه بها. ويعلمها بسيطة ، لا بأن يعلم الأسباب ويجمعها فيستنتج منها العلم ، كما نحكم نحن بأن هذا كذا. وكل ما كان كذا فهو كذا ، فيكون فى علمنا به تكرار واستنتاج للآخر من الأول ، بل يعلم هذه الأشياء من ذاته ولازمه ولازم لازمه ، فيكون يعلمها على ما هى موجودة عليه وعلى ما تكون موجودة عليه علما على ترتيب السببى والمسببي.
إن قيل : إذا كان الأول يعلم الأشياء من ذاته ، فهل يعلم أن بإزاء علمه وجودا من خارج؟ فالجواب : أنه يعلم الأشياء ولوازمها ولوازم لوازمها إلى أقصى الوجود على ترتيب السببى والمسببى. ومن لوازم الأشياء أن لها وجودا من خارج ، فهو يعرفها على ما هى موجودة عليه ، فيعرف أن هذا سبب لذاك ، وأن ذاك سبب لذاك معرفة بسيطة ، لأنه يعرف السبب أولا ، ثم يعرف بقياس أن ذلك السبب هو سبب لذلك المسبب كما نعرفه نحن ، فتتكرر معرفته بأن يعرف ذاك أولا ، ثم يعرفه ثانيا بأنه سبب.
الأول يعلم الأشياء كلها على ما هى موجودة عليه ، لأن سبب وجودها هو علمه ، فلا يصح فى علمه التكرار ، فإنه مثلا يعرف الإنسانية التي هى ذات ما وهى موجودة ، أى هى معلولة مرة واحدة ، لكنها متكثرة النسب. فالذوات محصورة متناهية ، والنسب غير متناهية. فإنه لو اجتمعت ألفا ذات ، ولكل واحدة منها نسبة إلى الأخرى فالنسب أيضا موجودة معها ، لأنها لا يتوقف وجود لوازمها على وجود شىء آخر ليس وجود تلك اللوازم فى شىء ، فإذن تلك النسب موجودة له ، أى معلومة له ، لأن تلك الموجودات مجردة. وعلم الله يتناول كل ذات توجد مرة واحدة فإنه يعرفها ويعرف نسبتها ولوازمها ولوازم لوازمها ، ويعرف المشابهات بينها وبين غيرها ، فيحتاج مثلا إلى أن يعرفها بنسبة ما ، ثم يعرفها ثانيا بنسبة أخرى ، فيتكرر علمه لها. وكذلك نحن
صفحه ۱۵۶