وتبعته شهقة ثم زفرة، وامتدت يدان معروقتان على المائدة، وسحبت أوراق البنكنوت إلى جانب، وابتدأت يدان نحيلتان تفرقان الورق مقلوبا على المائدة، وامتدت عشر أياد تلتقط الورق بخفة الحواة، وعادت الهمهمة، وتتابعت الأصوات المبحوحة المختلفة: جوزين آس، كرت، اثنين كرت، كنت رويال و... و... و...
وجلس عباس يراقب بنظراته الفاترة سيل الورق، وهو يدور من يد إلى يد، ويسأل نفسه كيف بدأ هذه اللعبة، ولم يذكر بالضبط متى بدأ، إذ كان ذلك منذ عشرين سنة، في السنة نفسها التي تسلم فيها وظيفته، وتعرف على «عبد السميع أفندي» باشكاتب المصلحة، وكانت تبدو على عبد السميع أمارات الثراء، فقد كان يمتلك ثلاث بدل، أو أربع، ويدخن بكثرة، ويعزم بالسجائر على الكتبة، ولا يركب إلا الدرجة الأولى في الأتوبيس، وشعر «عباس» بالغبطة حينما اختاره عبد السميع صديقا له من دون الكتبة الآخرين، وفي مرة قال له عبد السميع: تعرف أنا باصرف كام في الشهر؟ وحياتك ستين جنيه.
وفتح عباس فمه مندهشا وصاح: ستين جنيه؟ ليه؟ بتسرق؟ ولا وارث؟
وقال عبد السميع: لا باسرق، ولا وارث، إنما حظ!
وسحبه عبد السميع من يده ليطلعه على الحظ، ودخل عباس الحجرة المليئة بالدخان، لأول مرة، ورأى العيون المحمرة، والأيادي المعروقة وأرواق البنكنوت وهي تدور وتدور، ودار رأس عباس، ولم يعد إلى بيته إلا مع الصباح، عاد معجبا بما قاده إليه «عبد السميع أفندي».
وكان عبد السميع يكسب على طول الخط، وهو يخسر على طول الخط، تماما كما كان ينجح أخوه كل عام، ويرسب هو كل عام.
ولكن ما السبب؟ هل لعبد السميع حظ؟ ولأخيه حظ، وهو بلا حظ؟ وهل المسألة حظ فقط؟
وأحس بالاختناق في جو الحجرة المشحون بالدخان، فقام وخرج إلى الصالة وفتح الباب الخارجي، ونزل إلى الشارع، ومشى بضع خطوات قليلة حتى وصل إلى شارع النيل الواسع، ورأى الهلال الهزيل كما تركه، وحيدا وسط الظلام، وحيدا مثله تماما؛ فهو ليس له أحد، مات أبوه من سنين كثيرة، وتزوج أخوه، وبقي هو بلا أحد؛ حتى أصدقاؤه الخمسة يجلسون الآن حول المائدة، ولا يعرفون أين هو، هل يجلس معهم على المائدة، أو يهيم على وجهه في الشوارع، أو يرقد تحت عجلات قطار.
وارتجف عباس، لو أدركه الموت الآن لما افتقده أحد، سيموت على قارعة الطريق كالجراء الجرباء، وتلفت حوله في ذعر، ورأى البيوت مظلمة ساكنة، والحوانيت مغلقة، والشوارع خالية، إن الحياة نائمة، كل الناس في بيوتهم وسط أهليهم ينامون بعضهم بجوار بعض، حتى أخوه الصغير الذي كان يعلمه المشي في يوم ما، ينام الآن بجوار زوجته.
وازدرد عباس لعابه وهو يشعر بمرارة، لماذا نجح أخوه في المدرسة وفشل هو؟ وتذكر كلام أبيه وهو يقول إن المسألة «ليست إلا إحساسا، أخوه يحس وهو لا يحس، أخوه يخجل، وهو لا يخجل.»
صفحه نامشخص