ووجدتني أسرع إلى العربة دون أن أدخل بيتي، وأركب فيها وأنا أقول للسائق: «اطلع يا أسطى محمد بسرعة، على بيت عم محمود!»
وأحسست بالفرح وأنا أراه، وكنت على وشك أن أرتمي على صدره وأقبل جبهته كما أفعل مع أبي أو أمي، لكني تراجعت وتذكرت أنني الست الدكتورة وهو عم محمود التمورجي. - ما لك يا عم محمود؟ انت عيان صحيح؟ - أبدا يا ست الدكتورة شوية حمى خفيفة، سعادتك تعبت نفسك وجيتي لغاية داري، ده شرف كبير، هو احنا قد المقام؟ - مقام إيه يا عم محمود، مفيش فرق بين الناس وبعض.
وخرجت هذه الكلمات من فمي وحدها دون مجهود، كلمات أحسست أنها صادقة وليست كتلك المجاملات الشاقة التي ألفتها في القاهرة، وشعرت أنني لا أجد فرقا بيني وبين عم محمود، بل أحسست أنني أحبه، ذلك التمورجي الفلاح الذي يلبس جلبابا ليس له لون وطاقية صفراء ويرقد على الحصيرة، وأحب أيضا زوجته الفلاحة التي تلبس ملابس سوداء وتجلس إلى جواره على الأرض، وأحب أيضا طفله الذي يسيل لعابه على ذقنه ويلعب في التراب بيديه.
وفي اليوم التالي، وجدتني أتفرس في وجوه المرضى وكأنني أراهم لأول مرة، وخيل إلي أنني أرى في كل رجل منهم عم محمود، وفي كل امرأة منهن زوجة عم محمود، وفي كل طفل منهم طفل عم محمود، ورأيت عيونهم جميعا مليئة بالحب والحنان، وأحسست أنه يربطني بهم عاطفة جديدة قوية، وسمعتني أقول للتمورجي الذي أمرته بتنظيمهم والشخط فيهم: حاسب يا حسنين شوية، بلاش شخط في العيانين، دول ناس زينا برضه.
وحينما عدت إلى فراشي في تلك الليلة أحسست براحة غريبة تسري في كياني، وسعادة دافئة تتمشى في جسمي، وأغمضت عيني ليستقبل قلبي حبا جديدا.
وتنفست بهدوء وأنا أحس أن متاعب الدنيا كلها تذهب عني شيئا فشيئا مع أنفاسي الهادئة، والقاهرة، بصخبها وضجيجها وبسكانها المتخشبين كأنهم الآلات أو التماثيل، تتلاشى من إحساسي، والمستشفى الكبير الذي كنت أعمل فيه هناك ذاب من ذاكرتي، حتى حبي، حبي الذي تركته خلفي في القاهرة أصبح الآن لا شيء في رحاب ذلك الهدوء القوي الذي يغمرني، وفي غمرة تلك العاطفة الجديدة التي عرفتها. آه، قلتها وأنا أمد ساقي، لقد وجدت سعادتي.
وجدت حبي، إنه هنا، في كل شبر من هذه الأرض الخضراء الوادعة، وفي كل عين من هذه العيون الحانية الدافئة، وفي كل قلب من هذه القلوب الطيبة البريئة.
لعله الحب
منذ سنين طويلة، في كلية تجمع البنات والأولاد بعد فرقة عشرة أعوام أو أكثر في مدارس الابتدائي والثانوي، تجمعهم في تلك السن الحادة من عمر الإنسان، تلك الفترة الطائشة المعلقة بين الطفولة الساذجة والشباب الناضج - المراهقة - فترة قصيرة سريعة لاهثة تتأرجح من العمر في الهواء لا ترسو على قدمين.
وفي فناء هذه الكلية الواسع ترى أسراب البنات يمشين بعضهن وراء بعض في سرعة وخوف كأنما ستخطف الحدأة إحداهن!
صفحه نامشخص