الإهداء
المقدمة
1 - علم الكلام نحو المستقبل ... لماذا؟
2 - علم الكلام نحو المستقبل، كيف ...؟
3 - الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس
4 - الطبيعيات ... من الكلام إلى الحكمة ... ولا فرق
5 - الكلام الجديد في الطبيعيات
ثبت المراجع
الإهداء
المقدمة
1 - علم الكلام نحو المستقبل ... لماذا؟
2 - علم الكلام نحو المستقبل، كيف ...؟
3 - الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس
4 - الطبيعيات ... من الكلام إلى الحكمة ... ولا فرق
5 - الكلام الجديد في الطبيعيات
ثبت المراجع
الطبيعيات في علم الكلام
الطبيعيات في علم الكلام
من الماضي إلى المستقبل
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
الإهداء
إلى درة عمري ... ومهجة نفسي
وزبد حصادي من الأيام ...
إلى ولدي ... وصديقي ... ... حكيم حاتم ...
أهدي هذا الكتاب ...
نشدانا لأن يحيا مستقبلا ...
أكثر تحقيقا لذاته القومية والحضارية ...
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
ي. ط.
المقدمة
الطبيعيات أو الفلسفة الطبيعية هي السلف التاريخي المباشر - وفي الآن نفسه الجذور الضاربة في البنية الثقافية - للعلم الطبيعي الذي يتربع على صدر نسق العلم الحديث، واحتل الموقع الاستراتيجي المعروف في مشروعه، هذا المشروع الذي اتسعت جنباته رويدا رويدا، حتى شملت كل فروع العلم؛ الفيزيوكيمياوية ثم الحيوية ثم الإنسانية، بفضل القيادة الناجحة للفيزياء الكلاسيكية النيوتونية، وفي مطالع القرن العشرين هبت ثورة النسبية والكوانتم (الكمومية) اللتين انتزعتا مقاليد السلطة الفيزيائية من النيوتونية، وكان هذا إيذانا بالتعملق المعاصر الرهيب للعلم الطبيعي، وبالنضج الثري الزاخر لفلسفة العلوم، حتى تعد من المنجزات اليانعة حقا للفكر الغربي الحديث؛ أوليست تقنينا لأصلاب أشد عناصر الحضارة الحديثة فاعلية واتقادا: العلم الحديث؟!
بيد أننا نحيا في عصر توظيف المعلومة، وليس مقبولا أن يقتصر بحثنا في فلسفة العلوم - التي هي غربية بقدر ما هي معاصرة ومستقبلية - على الدرس والنقل والترديد الأصم، بل لا بد من استيعاب هذا لتشغيله وتفعيله في واقعنا الحضاري، ويا حبذا لو جاء هذا التشغيل في رحاب ولخدمة الهاجس الملح إلحاحا على العقل العربي، منذ فجر يقظته الحديثة مع بدايات القرن التاسع عشر، وحتى الآن وما هو آت ... ألا وهو هاجس تجديد التراث وضخ الدماء في شرايينه، وبعث الحياة وعوامل النماء والتطور فيه، هذا الهاجس الذي تمخض عما يموج به الفكر العربي المعاصر من مشاريع شتى تهدف إلى تجاوز واقع مأزوم بآفاق فكر نهضوي، وكما سوف يتضح من السياق التالي، مثلت تلك المشاريع مددا قويا لهذا البحث، فقد حاول الاستفادة من معظمها، والذي تخلق في بقاع شتى من الوطن العربي/الثقافة العربية، بل ومواصلة مسيرتها!
إن جميعها - بطبيعة الإنجاز الفكري والفلسفي - مشاريع نخبوية مجردة بدرجات متفاوتة، تدور في رحى إشكالية العلاقة بين الفكر والواقع، بين مطرقة واقع موار وسندان فكر رهاج؛ لتبزغ الطبيعيات كبؤرة أولية متعينة للواقع، تميزت عن كل تعينات الواقع بأن العقل العلمي الممنهج استطاع أن يحكم قبضته عليها حين اقتنصها بين شباك النسق العلمي، التي تزداد ثقوبها ضيقا ودقة يوما بعد يوم، وإلى غير نهاية.
ويبرز علم الكلام بوصفه الانبثاقة الأولى للعقل العربي، لا سيما وأننا سوف نحاول الغوص في أعماقه، وتتبع توالي نصوصه فيما يختص بالطبيعيات، ثم يلزمنا منهاج البحث بتتبع مسار الطبيعيات إلى الفكر الفلسفي؛ هذا لأن الفلسفة الإسلامية - كما سوف نبين - لم تكن إلا تطويرا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن تفاعل مع تراث الحضارات الأخرى، واستوفى نضجه، لتمثل الفلسفة مرحلة أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي التي كانت المقدمة الضرورية لها. هكذا نجد معالجة الطبيعيات في علم الكلام يتضمن ركابها الطبيعيات في الفلسفة الإسلامية عند أساطين المشرق والمغرب معا، ثم أولئك المعروفين باسم الفلاسفة الطبيعيين الذين يتحملون عبء ما نسميه الآن تاريخ العلوم عند العرب.
إذن يتشكل متن هذا الكتاب من التفاعل والتحاور والتلاقح بين مقومات ثلاثة؛ هي أولا: فلسفة العلوم ومناهجها. وثانيا: نصوص تراثنا القديم الكلامي والفلسفي حيثما تتموضع الطبيعيات فيه. وثالثا: الفكر العربي المعاصر؛ إذ تتيح مشكلة الطبيعيات بالذات أن تتأتى محاولة الإسهام فيه منطلقة من كنانة فلسفة العلوم.
1
وأخيرا، لئن كانت غايتنا هي الطبيعيات في علم الكلام، فلا شك أن ثمة مبررات للتمسك بأن روح العصر، التي يتوجب استقطابها على كل تجديد وكل تفكير مستقبلي، إنما تتمركز في الطبيعيات؛ لأن العلم الطبيعي دون سواه - دون العلوم الرياضية التي عرف العقل البشري روعة تعملقها منذ ما قبل الميلاد، ودونا عن العلوم الإنسانية التي يشكل تخلفها النسبي مشكلة - هو الذي صنع عصر العلم، إنه العلم الطبيعي الحديث الذي أنجبه العصر الحديث ليصنع العالم الحديث.
وبنماء هذا العلم الطبيعي وتطوره، وتطور تقاناته وأجهزته، نمت وتطورت فروع العلم الأخرى، وتطور وتغير كل شيء؛ بدءا من المثل العقلية وانتهاء بواقع الحياة اليومية، مرورا بأشكال الصراع الطبقي؛ مما أدى إلى عصرنا هذا الذي جعل جدلية العلاقة مع الطبيعة، والسيطرة عليها وصيانتها بيئيا، والحفاظ على مقدراتها، هو الحلبة الكبرى لمعرفة الصراع والتفوق بين الحضارات. فهل نتوانى عن البحث في تأصيل وتطوير وضعية الطبيعيات في منظومتنا الثقافية وبنيتنا الحضارية؟!
وكان من الضروري أن تمثل فلسفة العلوم المدخل لهذا، باعتبارها التمثيل العيني الرسمي والشرعي، وربما الوحيد، للتفكير المعاصر في الطبيعة، إن رمنا قهرا لتحدياتنا وتقدما نريد من علم الكلام الجديد أن يكون إطارا أيديولوجيا له، فنسير بمجامع مقومات حضارتنا نحو شق أجواز المستقبل.
وبالله قصد السبيل.
الفصل الأول
علم الكلام نحو المستقبل ... لماذا؟
(1) في ضرورة التجديد
إن البحث في بعث وتجديد معامل أصالتنا، أو بمصطلح أفضل خصوصيتنا الحضارية
1 - ولا مشاحة في الألفاظ كما يقولون - يكاد يكون فرض عين على المعنيين بالفكر الفلسفي فينا، ولئن بدأ هذا الهاجس يسيطر في مطالع يقظتنا ونهضتنا الحديثة منذ بدايات القرن الماضي، فإنه يزداد إلحاحا؛ بعد أن ماهت الفوارق بين التبعية والاستقلال الحضاري، وترسم بديلا موقف هامشي هو موقف التنازلات التي أصبحت تلامس حدود ثوابت الهوية، ووضع القومية موضع الاستفهام، والعروبة موضع التشكيك، والإسلام رديفا للرجعية، ولم تبق إلا خطوة واحدة ونتساءل: ما الوطن وما الوطنية؟!
في مثل هذا الموقف يصبح تحديث الأصالة، أو التجديد في معامل خصوصيتنا، بمثابة طوق النجاة لنا من الانسحاق الحضاري والضياع الثقافي في خضم ما نعانيه من انخفاض معدلات التنمية في الدول العربية الفقيرة والثرية، واحتلال الأراضي ونهب الثروات وعلو الصهيونية، هبوط الوعي وتراجع المشروع القومي، وشيوع التطرف وذيوع التعصب، وانحسار العقلانية وكلالة البحث العلمي.
وقبل كل هذا وبعده، العجز عن الخروج من التبعية للغرب، وانحناءة الرأس لنزعته الإمبريالية، وهو - بمعية ربيبته وحليفته الصهيونية - يتخذ من تقدمنا وسؤددنا موقفا منذ أن تحول البحر المتوسط إلى بحيرة إسلامية تجوبها الألوية العربية المرتفعة، فتختنق موانئ أوروبا ويذبل اقتصادها، يعتريها الوهن والذبول والاصفرار، وتدخل في ليل قروسطيتها الطويل.
نذكر في هذا الصدد المؤرخ البلجيكي هنري بيرن
H. Pirnne (1826-1935)، فقد اشتهر بتفسيراته الثاقبة للعصور الوسطى الأوروبية وعزو تدهورها إلى التقدم السريع للإسلام الذي أدى إلى الانقطاع عن التراث الإغريقي والروماني، وإلى نهاية وحدة حوض المتوسط التي لم تعد إلا مع الحروب الصليبية. وفي كتابه الشهير «محمد وشارلمان» تبدأ العصور - لا بسقوط الإمبراطورية الرومانية، بل - بالفتوحات العربية وسيطرتها على مرافئ البحر المتوسط الجنوبية وطرق الملاحة والطرق البرية إلى الشرقين الأوسط والأقصى، التي كانت سببا في ثراء اليونان قديما، ثم ثراء إيطاليا ووسط أوروبا حديثا.
هذه السيطرة الإسلامية عزلت أوروبا عن مصادر الثروات التجارية، فتدهور اقتصادها ليبدأ عصرها الوسيط. والدليل على هذا - فيما يرى بيرن - أنه انتهى باكتشاف إيطاليا لطرق برية إلى الصين في القرن الثالث عشر، واكتشاف البرتغال لرأس الرجاء الصالح، ووصولهم إلى شرق آسيا دون الاحتكاك بالمسلمين. وبالمثل يقول مؤرخ العلم الكبير
J. J. Crowther : «بقضاء المسلمين على الملاحة المسيحية في البحر الأبيض المتوسط قضوا على التجارة الخارجية والمواصلات في غرب أوروبا، وذبلت موان كثيرة مثل مارسيليا ومدن تجارية على الأنهار في داخل البلاد؛ لانعدام موارد التجارة، وتلاشي ما بقي من الحكومة المركزية الرومانية، وأغلقت مكاتب الإدارة والمحاكم والمدارس والمحطات القديمة، واختنقت دعائم النظام الإمبراطوري، ولم يبق من الطبقات الاجتماعية إلا كبار الملاك أبناء الأعيان وقوم بعضه من الفلاحين وبعضه من الأحرار المرتبطين بالأرض، وماتت الصناعة لعدم تموينها بما تحتاج إليه، وانتهت حركة الإنشاء والعمل إذا استثنينا الحاجيات الضئيلة التي تتطلبها الحياة المنزلية، وبذلك لم يعد هناك من حاجة لطلب العبيد - الآلات الصحيحة للعمل - وأصبحت الحالة لا تتطلب إلا المشتغلين بالزراعة ...»
2
على الإجمال سجى على أوروبا عصرها الوسيط.
منذ ذلك الزمان البعيد والحضارة الغربية تدرك خطورة أي تفوق عربي إسلامي، وتشهر العداء بالحملات الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر، «وتشكل العدوانية العنصرية الصهيونية الحلقة المعاصرة من هذه الموجة.»
3
ويعلم الله وحده متى ستنتهي حلقاتها بعد أن ساد مؤخرا الحديث عن الثقافة باعتبارها المحور الأساسي للصراعات الدولية القادمة، فاعتمدت السياسات الغربية منذ مطالع التسعينيات في القرن العشرين ما سمي «بالحرب الثقافية»
4
ضد الثقافات المغايرة على العموم، والثقافة الإسلامية على الخصوص؛ بهدف تحجيمها والحيلولة دون احتلالها ناصية العلم والتقانة (التكنولوجيا). وفي تفسير هذا تتقدم دراسات إدوارد سعيد لتجيب على السؤال: لماذا كان الإسلام فقط هو الدين الوحيد الذي يمثل تقدمه ونهضته تهديدا خطيرا للحضارة الغربية وسطوتها وقيمها؟
وتشهد أواخر المائة التي تمثل القرن العشرين كارثة الخليج التسعينية، التي لا تقل بشاعة عن كارثة السابع والستين؛ إذ يممنا الأبصار شطر العواقب الوخيمة والنتائج الوبيلة. وعلى كثرة تناحرات العرب وتطاحنهم، بل وتقاتلهم منذ حرب البسوس وحروب القبائل في الجاهلية، حتى الفتنة الكبرى وحروب الدويلات الإسلامية، وصولا إلى حزيران الأسود وأيلول الأسود وآب الأسود ... وكل شهور العرب السوداء، بلون الظلام والتخلف، بلون البغضاء والفرقة بين الأشقاء ... على كثرة هذا كانت مأساة الخليج كارثة لم يكرث التاريخ بمثلها من قبل.
وقد توالت تداعياتها المريرة، وأخطرها إصابة القومية بطعنة نجلاء، فتراجعت الوحدوية كحلم وكواقع، كأيديولوجيا وكطوبى لصالح القطرية. ويبقى أمر تداعياتها في حلوق المثقفين وكل مهموم بوعي الأمة، إنما هو تلك النزعة الانهزامية إزاء الحضارة الغربية، والتي بلغت حد السير في ركاب المشروع الصهيوني تلمسا لعوامل الاستقرار والنماء! في حضارة شرق أوسطية لا غربية ولا عربية، لتكتسح بقايا المخلفات القومية. وبعد طول النضال ضد الاستعمار ومباركة الكفاح من أجل الاستقلال ... صارت الهيمنة الغربية تجلب وتشترى، وصرنا نتوخى سبل الاستسلام لها كي تحل صراعاتنا ومشاكلنا، وكأننا نتشبث بموقع على هامش الحضارة الغربية، لنلتقط فتات موائدها، دون مشاركة في صنع صنوفها الشهية البهية.
شهد القرنان الماضيان عزما وحماسا للإحياء والتجديد والتنوير والتثوير، وقد علا الوطيس في أعقاب ثورة 1919، وشهد أجواء مواتية في العصر الذهبي لثورة يوليو قبل فاجعة 1967. وعلى أية حال كان قد استمر دائما بدرجات متفاوتة، ثم أوشك أن يخبو الآن، وتطفو على السطح نوبات تشنج الفرار المخبول إلى الماضي بقضه وقضيضه، وتتزايد حميتها، ربما كرد فعل عكسي للأحداث التي تترى ترسيخا للتبعية للغرب والدوران في فلكه، لا سيما بعد انهيار القوة العالمية المناوئة؛ الاتحاد السوفييتي. يحدث هذا في أواخر المائة الميلادية العشرينية، التي تشهد مراكز توهج حضارية أخرى في شرق آسيا، تغلبت على أوروبا وأمريكا في معدلات التنمية والتنهيض. •••
يصعب اعتبار محنتنا الراهنة أمرا طارئا، إذا تذكرنا كتاب الإمام جلال الدين السيوطي (911ه): «التنبئة بمن يبعث الله على رأس كل مائة»، وهو يقوم على أن المحن الاجتماعية تقتضي التجديد، جبرا لما حصل من الوهن بالمحن. إنهم يعدون محن الظلم السياسي والاجتماعي على رءوس المئين، فيذكرون الحجاج ومحنة خلق القرآن، وخروج القرامطة وأفاعيل الحاكم بأمر الله، واستيلاء الفرنج على كثير من البلاد الشامية ومن بينها بيت المقدس ... ويعدون على رأس كل قرن محنة.
5
وحينما تكون المحنة دهماء - من قبيل استيلاء الفرنج على بيت المقدس - فإننا نجد أستاذ الأصوليين في التجديد وأستاذ المجددين في الأصولية الشيخ أمين الخولي يفضل مجددا في أصول العقائد - هو متكلم - على مجدد في الفروع والعبادات - هو فقيه.
يعترض أمين الخولي بشدة على قول لشيخ الأزهر يقصر فيه التطور على أحكام العبادات، وينأى به عن الأصول والعقائد، مؤكدا أن التطور سنة شاملة، والقرآن يقرر أنه بالتغير يعامل المتغير، فيقول الخولي: «كل شيء يتغير مع الزمن، لا سيما المتطاول منه، تتغير صورته الذهنية ومفهومه العقلي، ويتغير تبعا لذلك وقعه على النفس، ويتغير أيضا التعبير عنه والتمثل له، وكل أولئك تغيرات تطرأ على أي شيء، ويجب على صاحب الدين أن يقدرها، فيغير تعبيره وعرضه واستدلاله.»
6
إن التغير وبالتالي التجديد سنة مقررة، وأصل ثابت بينه الرسول.
7
الإمام السيوطي يستهل كتابه المذكور «التنبئة» بقوله: «الحمد لله الذي خص هذه الأمة الشريفة بخصائص واضحة للمجتهدين، وبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر الدين.» ويقول: لا يجوز خلو العصر من مجتهد، واستعاذ بالله من صيرورة الأمر إلى هذا الحد!
8
ولما كان التغير والتجديد أصلا ثابتا في العقيدة، فإنه بدوره أمر واقع في الحياة الاعتقادية إبان القرون الأولى للحضارة الإسلامية وعصرها الذهبي، حيث تتكشف اختلافات، بل صراعات جمة حول العقيدة؛ ومن العقائد ما بلغ الاختلاف حولها حد سفك الدماء كالذات والصفات وخلق القرآن. وبالطبع ليس مثل هذا التغيير - ولا موضوعاته أصلا وفروعا - هو المنشود؛ ولكن المهم - كما يقول أمين الخولي - أنه بيان لإمكانية الاختلاف، وبالتالي قابلية التطوير والتجديد، فينتهي الخولي إلى أن: «تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة الدين إلى تقريره.»
9
والتجديد قد يكون دوريا مع التغيرات الدورية، وقد يكون جذريا مع المحن عند رءوس المئين، وعن مثل هذا التجديد الجذري المستجيب لاحتياجات الواقع، يقول الخولي: «إن ذلك التجديد في رءوس القرون هو العمل الثوري الكبير الذي تحتاجه الأمة، كأنما هو ثورة اجتماعية دورية يقوم بها عارف بالحياة متصل بها وعميق الفكرة عنها.»
10
وتحتاجه الأمة الآن أكثر من احتياجها إياه في أية مرحلة أخرى، أو على رأس أية مائة سابقة، هجرية أو ميلادية، وفي مواجهة جحافل التبعية والاستسلام التي استهللنا بها الحديث تلح الحاجة إلى إعادة قراءة أصولنا الدينية قراءة تاريخية علمية وتجديدية، لا أن ننفصل عنها أو نتنكر لها، إمعانا في الاستسلام والتبعية، هذا ما يمليه واقعنا، ومن زاوية الفكر: «الدين يبقى في حاجة دائما إلى فكر ثوري الطبيعة والمناهج؛ ليحدث فيه الثورة من داخل، خصوصا متى كانت عناصر الثورة في أصوله نصا ومنهجا وممارسة. وهي كذلك في الدين الإسلامي ... عنيت بها العقلانية والعلمية والاجتهادية ... غير أن السياسة التي سادت باسم الدين كممتها وأطفأتها ضمانا لصالح أربابها.»
11
وقد بات من الضروري إحياؤها؛ استنقاذا للوعي وللشخصية القومية. من الضروري تجديد منطلقاتنا الفكرية كي تشق طريقها نحو المستقبل.
إن التجديد ينصب في الموقفين القومي العروبي والإسلامي على السواء، فالعروبة تقع من الإسلام موقع سويداء القلب ، والإسلام يقع منها موقع آفاق الروح، والامتداد الحضاري. الأهم أن كليهما - القومي والإسلامي - ينطلق موتورا من نفس الميراث الاستعماري، ويرابض في نفس خندق مواجهة التغريب وذوبان الشخصية والخصوصية في محاولات الغرب الدءوبة لاستقطاب العالم بأسره تحت لواء ثقافته التي يجد في الزعم بأنها عالمية.
وسواء أكنا قوميين أو إسلاميين نتفق جميعا على ضرورة العمل من أجل انبعاثة روح حضارتنا وتأكيدها في مواجهة الآخر الغربي المسيطر، حتى إن عبد الله العروي - وبعد أن حمل كتابه «العرب والفكر التاريخي» تسليما بهيمنة المشروع الثقافي الغربي - يعود في عمل آخر ليشير إلى أن «الانبعاث لا يعني إحياء إنجازات الماضي بقدر ما يعني استعادة العرب للمركز القيادي الذي احتلوه فيما سبق بطول الوطن العربي وعرضه.»
12
إنها استعادة الانبعاث للفاعلية في المكان، بمعنى استغلاله علميا وتسخيره والسيطرة والاستقلال به، واستعادة الانبعاث للفاعلية في الزمان، بمعنى فاعلية الأمة في مواجهاتها ومحاوراتها مع الأمم الأخرى، وبالتالي إثبات وجودها الحضاري والتاريخي والوطني والإنساني؛ على الإجمال الانبعاث هو انبعاثه روح الحضارة. وحين يطرح العروي السؤال: ما هي روح الحضارة الإسلامية؟ يخلص إلى أن: «الخوض في مسألة روح الحضارة ينتهي حتما إلى تأسيس علم كلام مستحدث.»
13 (2) علم الكلام ... أيديولوجيا
في مثل هذه المقاربات لصلب ثقافتنا - أو حضارتنا، وأيضا لا مشاحة في الألفاظ - كان لا بد وأن يتبوأر علم الكلام الذي هو نبتة إسلامية أصيلة، نشأ قبل عصر الترجمة، قبل التأثر بالفلسفة اليونانية، كأول محاولة للتعبير عن النصوص الدينية وفهمها فهما عقليا خالصا، وتحويلها إلى معان كحركة طبيعية في تجاوز النص الديني إلى المعنى العقلي،
14
فكان بحق أوسع وأهم المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري «العقلانية العربية الإسلامية»، أو أنه - كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرزاق - الفلسفة الإسلامية الشاملة، حتى لعلم أصول الفقه بكل تألقه المنهجي.
إن العرب في جاهليتهم لم يعرفوا الفلسفة البتة، هذا صحيح؛ لأنهم ببساطة «لم يعنوا بأول أدوات الحضارة النظرية وهي التدوين وتأليف الكتب.»
15
ولكن طويلا ما رددنا أن حركة التفلسف العربية - فيما بعد - بدأت بالترجمة، واستقر هذا في وعينا كبديهية أولى في درسنا للفلسفة الإسلامية، وبالطبع لا جدال في أهمية وفاعلية حركة الترجمة، ولكن أن تكون هي نقطة البدء والمحرك الأول، فهذا يعني أن الفلسفة الإسلامية محض نتاج للمؤثر الخارجي اليوناني، فتكون أصلا وامتدادا في وضع المنفعل المتلقي، ويظل الغرب وتراثه ابتداء وأبدا في وضع الفاعل الملقن، وتتأكد مركزيتهم وهامشيتنا، وكما يقول حسين مروة عن الزعم بانفعال الفكر العربي الإسلامي بالمصادر الخارجية: «الانفعال وحسب يتضمن القول بأن المنفعل تابع ومقلد وناقل فحسب دون إبداع.»
16
إن نشأة علم الكلام في التربية الإسلامية ونموه في مناخها الموار الفائر، بفعل مكوناتها وصراعاتها، حتى وصل بفضل عوامل عديدة، منها حركة الترجمة، إلى طور الفلسفة الإسلامية، يطيح بذلك الوهم الذي يجعلنا منفعلين فحسب، ومن الضروري هنا الإشارة إلى لفتة حسين مروة الثاقبة، حين أوضح بالتفصيل المدروس كيف أن المحرك الأول للعقل العربي، وبالتالي النقطة الأولى المفضية للفلسفة الإسلامية لم تكن حركة الترجمة، بل كانت عقيدة الجبر التي رفعها الأمويون لتبرير حكمهم الجائر القائم على الدم الطاهر المراق، وبالتالي ظهرت الثورة عليهم في شكل رفض أيديولوجيتهم السلطوية؛ أي رفض عقيدة الجبر على يد الثالوث من شهداء القدرية أو الحرية: معبد الجهني وعمرو القصاص وغيلان الدمشقي، الذين هم أسلاف المعتزلة. والمعتزلة بدورهم أسلاف الفلاسفة الإسلاميين.
17
ومن هذه الثورة الشعبية ضد السلطة الجائرة، أو هذا الصراع الأيديولوجي بين الجبرية والقدرية في الربع الأخير من القرن الهجري الأول، بدأت رحلة العقل العربي إلى عالم التفلسف مصداقا للقول الشهير: تاريخ الفلسفة هو تاريخ الحرية.
بكل هذا الدور الحاسم والفعالية الشاملة لعلم الكلام، ولأنه أصيل، بمعنى الكلمة وخصوصي، تخلق في رحم الحضارة الإسلامية، وأيضا لأنه يدور بصورة أو بأخرى حول التنظير العقلي للعقائد الإسلامية التي هي المخزون النفسي والبناء الشعوري للجماهير، النسيج القيمي، ملامح المجتمع وقسماته وأطر معاييره ... على الإجمال الموجهات العامة للوعي وللسلوك، فقد أصبح التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، لا سيما وأن علم الكلام بالذات، ودونا عن سائر علوم تراثنا القديم، هو الذي نشأ في أتون الصراع السياسي ، وأن المتكلمين كانوا دائما هم أيديولوجيو الدول الإسلامية. المعتزلة جندتهم الدولة العباسية الأولى في حربها ضد خطر الشعوبيات عليها، وما حملته من تيارات فكرية مناهضة للعقلية الإسلامية كالمانوية والمجوسية والغنوصية؛ «فكان المعتزلة هم أيديولوجيو الدولة آنذاك، يعملون على نشر وتكريس العقل الديني الإسلامي، وبالتالي سلطة الدولة.»
18
ولما تعاظم شأن المعتزلة - لتعاظم شأن العقل معهم - وقوي بناؤهم الأيديولوجي وبات خطرا يهدد الدولة الاستبدادية التي بدأت عوامل الضعف والتفكك تتسرب إليها، نهض الأشاعرة للرد عليهم وتحجيمهم، فأصبح الأشاعرة أيديولوجيي الدولة الإسلامية في العصر العباسي الثاني وما تلاه. ومن قبل حين تكلم الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (83-148ه) أسس جعفر بكلامه أيديولوجية الدولة الشيعية، وقد كان للشيعة دورهم في نشأة علم الكلام وفي تطور مباحثه.
لقد تشكل علم الكلام كاستجابة للمشكل السياسي وللمتغيرات الحضارية التي لا تنفصل بدورها عن الفتوحات العسكرية والامتداد السياسي. «كانت المواقف السياسية يبحث لها عن سند عام في الدين، كان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسست ما سيطلق عليه فيما بعد «علم الكلام». إذن فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجرد كلام في العقيدة، بل كان ممارسة للسياسة في الدين.»
19
على الإجمال؛ أتى علم الكلام القديم نتاجا لتفاعل ثلاثة مقومات، هي: العقائد، المعترك السياسي، العقل الفلسفي أو على الأقل النظري.
العقائد: أولا هي صلب الأيديولوجيا الإسلامية ونخاعها، وثانيا لا تكتسب الجماعة هويتها إلا من خلال الهوية السياسية، وبعد رسوخ مفهوم الدولة في العصر الحديث؛ فإن الأيديولوجيا الآن لا تنفصل البتة عن السياسة، ولا يتضح دورها إلا من خلالها، «وقد احتفظ مفهوم الأيديولوجيا دائما، ورغم التغيرات في محتواه، بنفس المعيار السياسي للحقيقة والواقع.»
20
وثالثا سوف نرى لاحقا أن الأيديولوجيا إن أريد لها النماء والصيرورة والفاعلية والمواءمة مع المتغيرات، فلا مندوحة لها عن الاستعانة مجددا بالتنظير وبالعقل الفلسفي، لكل ذلك يغدو مشروعا أن نضع علم الكلام في وضع الإنابة ما دمنا بصدد المشكل الأيديولوجي؛ إقرارا بشمولية الأيديولوجيا للخصوصية الحضارية . •••
ومهما تصاعد الجدل حول مصطلح «الأيديولوجيا» فإنها تظل دائما حاجة وضرورة ملازمة للوجود الإنساني، من حيث إنها التعبير عن معتقدات الجماعة التي تجعلها «جماعة» ذات هوية، وليست مجرد حاصل جمع آحاد الأفراد. ولئن كانت الأيديولوجيا منظومة نظرية؛ فإنها لا تتناهى تجريديا، بل لا بد لها أن تأتي تعبيرا عن واقعات جماعية محددة ... عن معتقداتها المتجهة نحو مصالحها اتجاها ينبع من متعينات واقعها، مما يجعل الأيديولوجيا حاملة لإمكانيات الحركية والتغيير والتطوير نحو مثاليات الجماعة وطموحاتها. إن بها منظومة فكرية تدعو إلى تفسير العالم وتغييره في آن واحد، من هنا كانت الأيديولوجيا متضافرة دائما مع الطوباوية أو اليوتوبية
Utopism
وتصور ما ينبغي أن يكون، ولئن كانت الأيديولوجيا - كما أوضح كارل مانهايم - تتعايش مع الحالة الراهنة في المجتمع، بينما الطوباوية دائما في وضع التعارض مع الحالة الراهنة، فإن العنصر الأيديولوجي والعنصر الطوباوي في الفكر الإنساني لا يولدان منفصلين عن بعضهما؛ طوباويات الطبقات الصاعدة كثيرا ما تتحول إلى أيديولوجيا، «ومعيار التفريق بينهما هو درجة تحقيق الطوباوية في التاريخ وتحولها إلى أيديولوجيا.»
21
لذلك اعتبر إمجه
Emge
اليوتوبيا - أو الطوباوية - أيديولوجيا مرئية يتوقع حدوثها، إنها تسعى لتحقيق النظام الاجتماعي الذي ترسم معالمه، فتطالب بتغيير جذري للعلاقات المجتمعية والسياسية، تنفي أوضاعا راهنة وتستحث نظاما جديدا، فيقول الفيلسوف البولاني الماركسي كولاكوفسكي: إن اليوتوبيا قوة حقيقية، إنها المثل الأعلى لنظم جديدة والهدف المستكن لواقع تاريخي، ولكنها في الوقت نفسه أداة للتأثير في الواقع، ولتخطيط العمل المجتمعي بصورة مسبقة.
22
وفي كل حال تنطلق اليوتوبيا - كما الأيديولوجيا - من موقف اجتماعي معين وتحتوي على حقائق تاريخية معينة - كما أوضح إرنست بلوخ
E. Bloch . وبهذا التضافر مع اليوتوبيا أو الطوبى، تحمل الأيديولوجيا قوة لتأكيد وترسيخ المجتمع، كما يراها البعض كمانهايم، من حيث تحمل قوة دافعية لحركيته، كما يراها البعض الآخر كجورج سوريل.
ونرجئ الآن مسألة تقابل وتصارع الأيديولوجيا مع العلم التجريبي
23
أو مع الفلسفة؛ إذ ها هنا يهمنا فقط وظيفتها، والتي أكد عليها لويس ألتوسير
L. Althusser
تأكيدا، ربما لأنها تماثل الوظيفة المعرفية للعلم التجريبي؛ إذ يقدم العلم إطارا لتعقل حوادث الطبيعة وتفهمها تمهيدا للسيطرة عليها، كذلك تقدم الأيديولوجيا إطارا لتمثل العلاقات الاجتماعية وتنظيمها، بل وربما القدرة التوجيهية لها، بمقتضى منطق أو قاعدة أو مبدأ أو قيمة، يتواضع الناس عليها، ويحصل الإجماع بينهم على اعتمادها، وهذا أحد الأسباب القوية التي تؤدي إلى صمود الدين وخلوده على الرغم من غزوات العقلانية وبطولات العلم؛ وذلك لأن الدين نجح كأيديولوجيا في تزويد الناس برؤية متجانسة تحقق لهم التوازن الذاتي أمام الطبيعة والمحيط الاجتماعي، وتمنحهم قواعد وأطر وأدوات لتنظيم وجودهم.
24
ومن ناحية أخرى يمكن الدخول في مقاربة ومقارنة مثمرة وبناءة لعلاقة الأيديولوجيا بالفلسفة؛ فالأولى تسعى إلى غاية اجتماعية قومية محدودة، بينما تسعى الثانية إلى غاية إنسانية عامة شاملة. لكن الفلسفة كأي نتاج اجتماعي ما كان لها أن توجد إلا من خلال أيديولوجيا، كما أن النظر الفلسفي يبقى ضرورة للأيديولوجيا في إثارته الأسئلة الجوهرية، وتعيين المشكلات الأولية التي منها تتفرع المشكلات الثانوية. وحق القول إنه: «يقي الأيديولوجيا مغبة السقوط لعدم تمييزها بين الأصول والفروع وبين الكليات والجزئيات، ويدفعها إلى تجنب الاكتفاء بالإجابة على التساؤلات دون النفاذ إلى الأعمق والأشمل من المعطيات الحاضرة والماضية، والنظر الفلسفي في ذلك يجرد الأيديولوجيا من مثال الإطلاقية التي تضع الأيديولوجيا خارج التاريخ، ويتسرب نتيجة لذلك الوعي الزائف في تفسيرها واقعات التاريخ تفسيرا إسقاطيا أو تفسيرا قصديا، فتسحب رؤية الماضي على الحاضر، ورؤية الحاضر على المستقبل.»
25
هكذا تتبدى لنا أهمية التجديد الفلسفي لعلم الكلام من حيث هو أيديولوجيا. •••
إن علم الكلام يملك المساهمة الكبرى في التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، على أساس أن الأيديولوجيا هي الوجود الواعي للأمة، من حيث هي مجموعة الأفكار المبدئية العامة لكل جماعة معينة بشأن أصولها وأهدافها ومعاييرها وقيمها ومصالحها الحضارية.
26
هكذا أتانا علم الكلام القديم حاملا الإطار العام لأيديولوجية المجتمع آنذاك، بشتى توجهاتها وفرقها، لا سيما المعتزلة والأشاعرة، وسيادة الأخيرة، وينتظر من علم الكلام الجديد الذي نرومه متجها نحو المستقبل، أن يصلح إطارا وموجها أمثل للحضارة الإسلامية الحديثة على مشارف القرن الحادي والعشرين، وأن يكون قادرا على التلاؤم مع روح العصر المثقل بإشكالياته الجمة الخاصة به، قصوراته القديمة ومحنه الطارئة وتحدياته المستجدة، والنازع إلى النهوض رغم التأزم والعقبات، نريده علم كلام قادرا على مواجهة الواقع الراهن ومتطلباته وتحدياته الضروس. بكلمة واحدة، لا بد وأن يكون أيديولوجيا لحضارة متأزمة وناهضة معا، تحاول الوقوف على أسباب الأزمة؛ للخروج منها إلى آليات النهوض.
لقد تعثرت محاولات التحديث، أو أنها على الأقل وبعد ما يقرب من قرنين من الزمان لم تؤت أكلها المنشود، لا سيما إذا قورنت بتجارب تحديث أخرى، كنا الأسبق منها زمانيا من قبيل التجربة اليابانية، وسوف تستمر محاولاتنا التحديثية في تعثرها طالما تصطدم بالتراث كمخزون نفسي للجماهير، ولا تستوعبها أيديولوجيا واضحة المعالم تجسد نزوع الأمة، ويجد فيها الواقع تعبيرا عن ذاته. من هنا كان التوجه العام للبحث عن أيديولوجيا إسلامية مقابل أيديولوجيات التحديث المعاصر التي تتشكل بخطوط غربية. فكما لوحظ مرارا وتكرارا: «لقد عول الفكر العربي على العديد من الأيديولوجيات، فانتهى إلى المزيد من التفكك والتبعية، فلماذا لا يكون الإسلام قرآنا وسنة وتاريخا هو أيديولوجيا الوحدة والتحرير؟»
27
إن الإسلام هو البديل المطلوب؛ لأنه يرتبط بالجماهير، ويوفر لها الغذاء المعنوي في وقوفها ضد الهيمنة الأمريكية التي تستهدف السيطرة الاقتصادية والسياسية التامة على البلاد العربية.
28
أما أصحاب النزعة التحديثية المتطرفة، السائرون في اتجاه العدمية التراثية، بتعبير طيب تيزيني، المؤتمون بإسماعيل مظهر وشبلي شميل وسلامة موسى ... والتالين لهم، أولئك الذين لا يرون في الإسلام أصلا وفروعا، جملة وتفصيلا، شكلا ومضمونا، إلا معاملا لكل تخلف ورجعية، فعليهم الالتفات إلى تحدينا الأكبر إزاء الصهيونية، وهو إن لم يعد تحديا عسكريا فسيظل دائما تحديا حضاريا، والصهيونية فكر ديني متشدد؛ باسم الدين في إسرائيل يكون الوطن والوطنية والقومية والهوية والجنسية والحرب والسلام والمفاوضات والمعاهدات والحقوق والاستثناءات والامتيازات والتنازلات والتشددات والنكوصات، وأيضا المجازر والمذابح والاعتقالات ... إلخ،
29
ونحن لا نستطيع التراجع عن تحد أو صراع هو في جوهره ديني، وإذا كان الدين هو الذي يرسم حدود الحلبة؛ فإن مخزوننا النفسي ونسيجنا الشعوري وطبيعة حضارتنا - والدين فيما يقال اختراع مصري - تجعلنا أولى من غيرنا بترسيم مثل تلك الحدود.
والواقع أن الدين دائما أيديولوجيا، من حيث هو نسق من المعتقدات تلجأ إليه الجماعة «يرضي حاجات نفسية فردية جماعية؛ أهمها التماسك والشعور المشترك بوسائل شتى من الشعائر والطقوس والتعاليم المقدسة. من هذه الزاوية يملك الدين قدرة تعبوية هائلة ينعدم فيها غالبا الشك والتساؤل والانقسام.»
30
لكل ذلك كان علم الكلام هو التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، فهو القادر على تأطير حضارتنا بكل خصوصيتها، من أجل انبعاثه في عصر التحديات الضروس المستجدة، شريطة أن يكون بدوره مستجدا ... علم كلام جديدا نازعا نحو المستقبل، فعدم تطوير علم الكلام القديم، وتقوقع الموروث إجمالا على ذاته، هو ما ارتد في الواقع المعاصر إلى تطرف وعدوانية ظهرت مؤخرا في الجماعات الإرهابية الجانحة، التي تساهم في إبراز أهمية التجديد بقدر ما تبدت أهمية علم الكلام.
إنها أهمية علم الكلام الجديد ... السائر نحو المستقبل. •••
ولا شك أن تجديد علم الكلام، ونفض رواسب الجمود عن كواهله، شقا لطريق المستقبل، يحتاج إلى فريق عمل ... بل فرق. إنها مسئولية جيل ليضطلع كل بما يستطيعه، بهذه الرؤية أو تلك، من هذه الزاوية أو تلك، في هذا الوضع أو ذاك ... ومنطلق فلسفة العلوم يفرض علينا موضعا متعينا هو الطبيعيات التي طال انفلاتها من بين أيدينا. لن يشق علم الكلام طريق المستقبل ما لم ينضبط وضع الطبيعيات فيه، ومن ثم في وعي الجماعة، ما لم يتسلح بوضعية مستجدة ومكينة للطبيعيات، فيكون أيديولوجيا مؤهلة للالتحام الخلاق بالحلم العلمي التقاني.
لكن كيف؟ كيف السبيل لهذا؛ ولأن يشق الكلام أجوازا؟
الفصل الثاني
علم الكلام نحو المستقبل، كيف ...؟
(1) جدلية الاستيعاب والتجاوز
اتضح في الفصل السابق أن الطرح المستقبلي ينشأ أصلا عن ضرورة التجديد، التي سيطرت على آفاق فكرنا المعاصر، وفي سياقها يأتي هذا البحث - من منظور فلسفة العلوم - طامحا في علم كلام ينطلق نحو المستقبل مسلحا بعتاد الطبيعيات. إنه إذن بحث تجديدي في علم الكلام.
والبحث التجديدي في علم الكلام يعني ضمنا استيعاب وتجاوز علم الكلام القديم، كما يتمثل في نصوص تراث هو تراثنا نحن، نحتويه ويحتوينا، فيتوجب له الاستيعاب؛ لكنه نتاج لظروف تاريخية معينة، وقصورات معرفية جمة، فرضت على متغيراته أشكالا ما، ولما كانت هذه الظروف قد انتهت منذ قرون عديدة خلت، وتراجعت القصورات المعرفية، واتخذت مواقع وصورا مباينة تماما؛ فإنه من الضروري أن يكون استيعاب علم الكلام القديم من أجل تجاوزه، مرتكزين في هذا وذلك على ثوابته.
إن مقولة الاستيعاب والتجاوز تشق طريق علم الكلام إلى المستقبل؛ فهي الرفض العقلاني المثمر البناء، الذي يسلم بالتاريخية ومراحل التاريخ، ويحقق الهدف بالتعامل مع المرحلة في إطار متعيناتها وظروفها، ويبرأ من مثلمة الانشغال بثابت أزلي يعلو على عالم الإنسان في الزمان والمكان، بمطلق مغترب عن الواقع في صيرورته الدائمة.
وإذا تذكرنا إشارة كارل مانهايم إلى أن التفكير الجدلي (الديالكتيكي) يكافح باستمرار للإجابة على سؤالين؛ أولا: ما هو مركزنا في العملية الاجتماعية؟ وثانيا: ما هي متطلبات اللحظة الراهنة؟
1
اتضح أن المقصود بهذا، أو القضية المطروحة هي تاريخية علم الكلام التي ستستفيد من المنهج الجدلي ذي الفعالية المشهودة في مثل هذه المجالات الحضارية الواسعة النطاق. إن هذا البحث يطرح «الاستيعاب والتجاوز» كتناول جدلي لتاريخية علم الكلام.
إن تاريخية علم الكلام بمثابة مصادرة أولية أو بديهية لا بد من التسليم بها؛ فالعقائد إلهية مقدسة ثابتة مطلقة، أما علم الكلام فليس البتة هكذا، بل هو علم إنساني محض، صنعه البشر في زمان محدد وموقف معين، واستجابة لظروف تاريخية معينة، هي كأية ظروف تاريخية، متغيرات، متغيرات سوف تنداح، لتتخلق ظروف تاريخية أخرى، لها متطلبات ومقتضيات أخرى.
وسلاما على فرنسيس بيكون
F. Bacon (1561-1626) أبي الميثودلوجي، علم مناهج البحث، أقوى العوامل الفاعلة في صنع الحداثة الغربية والجذع المتين لفلسفة العلوم، سلاما عليه، وهو يحذر من «أوثان الكهف»؛ أي تصورات البيئة الخاصة حين تسيطر على الذهن بوصفها حقائق مطلقة، ويحذر من «أوثان المسرح»؛ أي أفكار ممثلي وأعلام الفكر السابقين، وكلاهما - أوثان الكهف والمسرح - قائم على الخلط بين النسبي والمطلق وإغفال نسبوية وتاريخية التصورات العقلية.
يقول حسن حنفي : «هناك فرق شاسع بين علم الكلام والعقائد الدينية، فعلم الكلام محاولات اجتهادية لفهم العقيدة أو العثور على أساس نظري لها، وتخضع كل هذه المحاولات للظروف التاريخية التي نشأت فيها، وللأحداث السياسية التي سببتها، وللغة العصر التي عبرت بها، وللمستوى الثقافي الذي ظهرت خلاله. لا يمكن إذن التوحيد بين العقيدة كحقيقة مطلقة، وبين الصياغات التاريخية لها التي تحدث في زمان معين ومكان معين وبلغة معينة، وعلى مستوى ثقافي معين.»
2
وتبدو جدلية الاستيعاب والتجاوز أداة منهجية فعالة للم أشتات الماضي والحاضر والمستقبل، في إطار متماسك، يبدو لنا قادرا على تقنين تاريخية علم الكلام المتجه نحو المستقبل وفقا للمرحلة التاريخية الراهنة، فيعني صيرورة إلى دورة جديدة، ومسارا إلى الأمام، غده أكثر زخما وثراء من أمسه، مما يجعل الانتقال صعوديا إلى مرحلة أعلى، وليس دائريا ينتهي إلى نقطة بدئه. هكذا يتضح أن الاستيعاب والتجاوز ببساطة يجعل الكلام التراثي كائنا حيا يتصف بالنماء والسيرورة، فيمكن أن يساهم في وضعية الطبيعيات بما تحمله من إمكانيات تقدمية. •••
وهذا يلزم عنه بالضرورة المنطقية إسقاط النظرة التقديسية، أو بالأصح التحجرية للتراث، التي تصادر عليها الحركات السلفية المعاصرة، في تعصبها وتطرفها المرضي، الذي بلغ حد إرهاب الآمنين وترويعهم.
والتوقف بإزاء هذه الحركات الإسلامية السلفية المتطرفة التي برزت ناتئة في واقعنا الحضاري ليس خروجا عن أطر معالجة فلسفية منطلقة باعتبارات إبستمولوجية، بل هو التفعيل لكل هذا والذي ننشده منذ بدء البداية، والأهم أنه إثبات لفعالية جدلية الاستيعاب والتجاوز التي نطرحها كآلية لتاريخية علم الكلام.
تلك التاريخانية - مرة أخرى - مقدمة أكثر من ضرورية؛ فلئن كان الله - تعالى - قد جعل الإنسان تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية، فذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخا. التاريخ هو ما يجعل عالم الإنسان مختلفا عن عالم الحيوان والنبات والجماد الذي لا يعرف صنع المتغيرات ولا تراكماتها؛ التاريخ هو فاعلية الإنسان، هو صيرورة الحضارات وسيرورة الثقافات، هو التغير الذي جعل الإنسان الكائن الوحيد الذي يدرك معنى الزمان ويصنع له حسابا، فكان الوحيد الذي يعرف معنى الصعود والتقدم واختلاف الأمس عن اليوم، وهذه التاريخانية هي حجر العثرة الذي تصطدم به تلك الجماعات المتطرفة، ليتصاعد مستصغر الشرر الذي قد يضرم مستعظم النيران.
لقد تمسكوا بحديث الفرقة الناجية من النار، الذي شكك في صحته وفي جواز الاستدلال به ابن حزم وآخرون؛ تمسكوا به ليلزموا الطرف الأقصى الواحد والوحيد، رافضين كل المتغيرات في تدرجاتها إلى أطراف أخرى تشكل جميعها الواقع، ثم اتخذ هذا الرفض شكلا تصاعد وباله كثيفا أليما في مسلسل فتن دامية وتساقط القتلى والشهداء من الجانبين، العكس بالعكس طبعا، والجانبان من سويداء الأنا ... من الوطن.
ومهما كانت نواياهم، ومهما كانت أهدافهم وأسانيدهم، فإن الخطأ المحوري في استدلالاتهم الذي يؤدي إلى هذا الاصطدام الدامي، أو على الأقل العقيم، مع الواقع، لهو في إنكار تلك التاريخانية.
بداية الواقع مأزوم، وكلنا نعمل، أو يجب أن نعمل على تجاوز هذه الأزمة بآفاق فكر نهضوي لا يمتنع أن يكون دينيا، أو بمجالات عمل تنموي لا يقتصر على أن يكون اقتصاديا. التنهيض والتنمية هما الشكلان الإيجابيان لرفض أزمة الواقع ... لتجاوزها. كلاهما يسير على معامل المتغيرات في مسار التاريخ بحثا عن الأفضل، دخولا في حركة التقدم نحو المستقبل.
مشكلة الجماعات الإسلامية المتطرفة أنها لا ترفض الواقع المأزوم فحسب، بل تدفعها الثبوتية إلى رفض المتغيرات أيضا، بل وأصلا وانطلاقا من رفض التاريخانية؛ فيطابقون بين الدين وبين التراث، بين الثابت وبين المتحول، وبين الإسلام وبين «الفتاوى» لابن تيمية وتلخيصها في «الفريضة الغائبة»، «نيل الأوطار» و«فتح القدير» لتلميذه الشوكاني، وكتب ابن القيم الجوزية، وفتح الباري للعسقلاني، و«المحلى» لابن حزم، «المغني» لابن قدامة ... حتى «المصطلحات الأربعة» - الحاكمية والألوهية والربانية والوحدانية - للإمام أبي الأعلى المودودي ... وصولا إلى «معالم على الطريق» لسيد قطب.
معظمها أعمال قيمة، لكن تنبع قيمتها من قدرتها على تمثيل روح عصرها والاستجابة لمتطلباته وتحدياته، التي تختلف عن متطلبات وتحديات عصرنا، كلها خارجة من الثابت في حضارتنا: الكتاب والسنة. لكنهم ليسوا أوصياء علينا، ونحن لسنا قاصرين عاجزين عن الإبداع والاجتهاد مثلهم، والخروج من هذا المعين الثابت بما يسد حاجات عصرنا. وكما قال الشيخ أمين الخولي: لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.
إنها «أوثان المسرح» التي حذر منها فرنسيس بيكون، النابعة من الافتتان بممثلي أو أعلام الفكر السابقين. كما ينبهر متفرج المسرح ببراعة الممثل في تجسيد الدور، «أو براعة المفكر في تجسيد روح عصره ومتطلباته»، وينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، يتألم لمآسي الممثل ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى وإن كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال! كذلك تماما تعيش الجماعات المتطرفة في واقع تلك المصنفات التراثية التي كانت نتاجا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروف واقعنا، ولا يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة القوى الإمبريالية المعاصرة، وأن معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أصبحت الآن أثرا بعد عين. من هنا يتصاعد الشرر، من المطابقة بين الدين والتراث، بين العقائد من ناحية، ومن الناحية الأخرى حصائل الجهد البشري في مرحلة تاريخية معينة، فيريدون صياغة الحاضر على غرار الماضي، من حيث المحتوى المعرفي والمفاهيم، حتى تفصيلات الأنماط السلوكية! تنشغل إسرائيل بالأسلحة النووية والقنابل الذكية، وينشغلون هم بالشهب والحراب على من حرم النقاب، متصاغرين متخاذلين في تحدي الإسلام الحقيقي أمام الآخر الغربي الذي نزع النقاب عن المادة ليكشف الذرة، ثم نزع النقاب عن الذرة ليكشف الجسيمات، ثم نزع النقاب عن الجسيمات الذرية ليكشف - أخيرا - الكواركات، ولا يكتفي أبدا. أي النقابين الانشغال به الآن خير وأبقى؟! بديهي أن هدف بحثنا هذا بأسره توجيه الاهتمام نحو النقاب الثاني؛ لأننا نحسبه عند الله وعند عباده خيرا وأجدى.
أما تلك المطابقة الخاطئة بين الإسلام وتراثه، بين العقائد وتنظيرها؛ أي كلامها في مرحلة تاريخية معينة، فتضر بالإسلام قبل سواه؛ لأنها تفترض فيه تحجرا عند مرحلة أسبق، تحجرا زائفا لا يوجد إلا في عقولهم؛ فالدين رسالة ... مسئولية أبت أن تحملها السماوات والأرض وحملها الإنسان ... إنه إيجابية؛ أي عمران ونماء وتطور.
وهم بهذا المفهوم المتحجر للدين والتراث، يصرون على أن التراث حاضر اليوم وفاعل، أو ينبغي أن يكون هكذا، «وأن الحضور والفعل اللذين له مستمدان من استمرار الماضي في الحاضر، استمرار الجوهر في تجلياته، وأن الزمان والفعل ما هو إلا عنصر خارجي ويسجل لحظات لا كيفية فيها ولا في تتابعها.»
3
وهذه رومانطيقية مجردة،
4
رومانطيقية اللياذ بالعوالم الذاتية المنفصلة عن العالم الموضوعي المشترك بين الذوات أجمعين، رومانطيقية العجز عن الفكر وعن الفعل، رومانطيقية التضاد مع العقلانية، وبالتالي هي ضد التنوير، بل إنها على وجه التعيين هي الإظلام؛ فالإظلام هو تغييب الواقع، فلا يعود التراث والدين أفيونا للشعوب لأنه مخدر لها بأفكار أخروية ووعود سماوية فحسب، بل أيضا وأساسا؛ لأنه اغتصاب للواقع وتغييب للآن، وإلغاء للزمان برمته، وبالتالي نفي لفكرة التقدم.
بل إنهم يفعلون بفكرة التقدم ما هو أكثر من النفي؛ إذ يعكسونه، يجعلون التقدم قهقريا، مما يجعل التاريخ يتساقط من واقع خارج الزمان ينفي الحركة ويئد التطور ويلغي التقدم. إنهم ينطلقون من مقدمة تسلم بأن ذروة التقدم كائنة في الماضي، مستعينين بالحديث الشريف: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ...» وقد تشكك فيه ابن حزم وآخرون. هم يفضلون القرون الأربعة الأولى، وربما القرن الأول فقط، وكلما سرنا قدما مع مسار التاريخ سرنا طرديا مع سقوط مستمر وانهيار تدريجي ومتوال لتلك الذروة التقدمية، حتى نصل إلى عصرنا الحالي، فنصل إلى أدنى درجات الانهيار، وكل عصر آت درجة أدنى من الانهيار؛ ليكون تقدم التاريخ قد أصبح انهيارا تاما وسقوطا شاملا، فيصبح التقدم الحقيقي هو التقدم القهقرى؛ الرجوع إلى الوراء، واللحاق بالعصر الذي ولى وفات.
من هنا كان محور هذه النزعة السلفية يكمن في اعتبار اللحظة الماضية المنطلق الأنطولوجي والإبستمولوجي، وليس فقط الأكسيولوجي، منطلق الحلول للحاضر والمستقبل. وكما أشار طيب تيزيني: «إن الماضي يبرزها هنا، على هذا النحو مبتدأ وخبرا، منطلقا ونهاية، لكل فعالية إنسانية لاحقة، إنه، بتعبير آخر، المخول القادر أصلا على إكساب كل فعالية إنسانية - مهما كانت أبعادها ومواصفاتها - اعتبارها ومشروعيتها في الوجود. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الماضوية تبرز عنصرا مكونا للنزعة السلفية.»
5
وقد نوه تيزني إلى أن الماضوية التي ترفض الحاضر فضلا من المستقبل تقف في مربع واحد مع الأسطورة التي ترفض التاريخ بأسره؛ فالأسطورة دائما فوق التاريخ، و«اللاتاريخية هي الأساس المكين للنزعة السلفية»؛
6
فتغض النظر وتصم الآذان عن كل المتغيرات.
لهذا انبثقت الصياغة السلفية عن كراهية الحاضر ونفور منه، وعجز عن التعامل معه، حتى شكلها الحنين الدافق والهيام الرومانطيقي المشبوب بالماضي فتلوذ بعوالمه المنفصلة عن العصر، متوهمة إحياء الدين في الواقع، وإحياء الواقع بالدين، وهي في حقيقة الأمر تنطوي على قرني إحراج يدمر الطرفين معا؛ فهي تدمر الواقع حين تنفيه، أو تتصور إمكانية نفيه، بكل زخمه الحضاري، وكل إشكالياته المتعينة ونواتجها غير المتوقعة وظروفه المتولدة والمولدة لحيثيات أخرى، وكل إنجازاته وعثراته وتحدياته المستجدة، وتفر إلى واقع انتهى منذ قرون طويلة خلت، ولم يعد له وجود إلا من حيث تمخض عن تراث قابل للاستيعاب والتجاوز، والتعامل الخلاق مع تخلق حيثيات حضارية جديدة.
وهي تدمر الدين حين تنفي عنه الديناميكية والحياة والقدرة على التواصل والاستمرارية، وبالتالي إمكانية أن يؤدي المهام المنوطة به حين تختلف الأزمنة والأمكنة، هكذا تنتهي الصياغة السلفية المتطرفة إلى تدمير، أو على الأقل استلاب الحياة والفعالية من الدين ومن الواقع على السواء.
كان لا بد أن يكون هذا هو مآل الصياغة السلفية ما دامت تنطلق من التسليم باغتراب الواقع الراهن عن الدين، واغتراب الدين عنه، كوضع منته لا مخرج منه إلا النفي، نفي الواقع بالسلب واللا والتكفير والهجرة منه، أو نفي الدين إلى عوالم أخرى ماضوية، يتصورونها أكثر حضورا من أي حاضر، فتنتهي الحركة السلفية من حيث بدأت: واقع راهن متأزم ودين مغترب عنه.
ولا غرو، فالدوران المنطقي واللف في المتاهات المغلقة هو مآل كل من ينفصل عن الواقع الراهن، محاولا أن ينفيه وهو غير قابل للنفي، أو يعجز عن التعامل معه، وهو تعامل لا مندوحة عنه. •••
وإذا كان هذا هو مآل التوجه الذي يتصاعد الآن كثيفا وبيلا، فإن علم الكلام الجديد ينطلق نحو المستقبل، بحركة جدلية من ذينك الطرفين : الدين/التراث والواقع/الأزمة، ولكن ليس بما يدمر أحدهما أو كليهما، أو يفر منهما كدأب السلفية، بل انطلاقة بما يشبه المركب الجدلي الذي يستوعب كلا الطرفين ويتجاوزهما إلى المركب الشامل المنشود الذي يفضي بدوره إلى مرحلة جديدة.
من هنا طرحت جدلية الاستيعاب والتجاوز كأداة تمهيدية فعالة في يد علم الكلام تساهم في شق الطريق وتعبيده، وحين تصل إلى مركبها الجدلي ستتضح أهميتها، بل ضروريتها في انضباط وضع الطبيعيات بمنظومة علم الكلام الجديد الذي نرومه سائرا نحو المستقبل.
المهم الآن أنه في هذا الطريق السائر قدما - على عكس اتجاه الطريق اليميني السالف - لن نجد علاقة حاضر علم الكلام بماضيه علاقة اتصال سلبي، تجعل الماضي فاعلا والحاضر مفعولا فيه أو به، والأقدمين أوصياء علينا وكلاء عنا في الفعل والإنجاز والتشييد، ومحاولات الإجابة عن تساؤلات عصرنا الملحة التي لم يطرحها عصرهم، ولعلها لم تدر بخلدهم، وهي أيضا - بطبيعة الحال - ليست علاقة انفصال بائن تجعل الحاضر منبت الجذور، وكأنه نبتة شيطانية نشأت عن فراغ. إنها جدلية الانفصال/الاتصال التي تؤذن بالمركب الشامل، والمرحلة الجدلية الجديدة، ودورة حضارية أخرى هي مرحلتنا المعاصرة، التي ننشدها منطلقة نحو المستقبل. (2) القطيعة المعرفية ... آلية مستقبلية
هكذا تتشابك جدليتا «الاستيعاب/التجاوز» و«الانفصال/الاتصال» لتمثلا الأداة التمهيدية الفعالة في يد علم الكلام، القادرة حقا على أن تشق به طريقا جديدا نحو المستقبل.
وفيما يختص بوضع الطبيعيات تصبح تلك الأداة الفعالة سلاحا ماضيا أو آلية ناجزة قادرة على الحسم والإنجاز والإضافة؛ إذ يبلغ علم الكلام بهما؛ بهاتين الجدليتين مركبهما الشامل الذي يعني وضع «القطيعة المعرفية». وما دمنا قد ناهزنا حدود الطبيعيات فمن الضروري أن نجيب على التساؤل: ما القطيعة المعرفية؟ ومن الملائم أن تأتي الإجابة الآن في هذا السياق الجدلي.
فالقطيعة المعرفية
La rupture Epistemologique
ترتبط بالحركة الجدلية ارتباطا عضويا، هكذا يكشف عنها مبتدعها جاستون باشلار
G. Bachelard (1884-1962) شيخ فلاسفة العلم في فرنسا، الذي وضعها في إطار فلسفته الجدلية ... كمركب جدلي ... من الحضور والغياب ... من الإثبات والنفي ... من الاتصال والانفصال؛ لتكون ثمة إضافة كيفية حقا لنسق علمي تنتسب إليه، وليست مجرد إضافة كمية. إنها ترتكز في أصولها إلى قانون الجدل الشهير: تراكمات كمية تؤذن بنوع من القطع الكيفي.
وتعني القطيعة المعرفية أن التقدم العلمي مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، ليس بمعنى نفيه وإنكاره، أو التنكر له، فذلك غير وارد في التقدم العلمي، الذي يمتاز عن أي تقدم آخر في حضارة البشر بأنه ليس أفقيا، بل رأسيا، يرتفع طابقا فوق طابق، فلا يرى نيوتن - كما أكد هو نفسه - أبعد من سابقيه إلا لأنه يقف على أكتافهم ... القطيعة تعني أن الحاضر لا يعود مجرد تواصل ميكانيكي أو استمرار تراكمي لمسار الماضي، أو تعديل أو إضافة كمية له، بل يعني التقدم شق طريق جديد لم يتراء للقدامى ولم يرد لهم بحال، بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، وبالتالي الأضيق والأكثر قصورا، والمثال الأثير لباشلار «المصباح الكهربائي»؛
7
فهو ليس استمرارا لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق، بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق ... فهي خلق وإبداع جديد تماما؛ إنها الجدة.
الجدة العلمية
Scientific Novelty
هنا بأدق معاني العلم والعلمية، ويمكن مبدئيا قصر هذا المعنى على الطبيعيات الحديثة ... على العلوم الفيزيوكيميائية. ها هنا لا تأتي الجدة العلمية إلا عن طريق التكذيب، سلب الخطأ، الصراع مع القديم ورفضه، هكذا تحدث التحولات الأساسية التي تطرأ على «العلم» عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، مما يجعل البنية الإبستمولوجية لفرضية علمية مختلفة تماما عن بنية الفرضية التالية لها في تاريخ العلم في جدليات ناشطة حقا.
8
إن الفكر العلمي فكر قلق، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته ويكسر أطره الخاصة، وقوام البنية العلمية ليس بالتراكم، ليس لكتلة المعارف العلمية تلك الأهمية الوظيفية المفترضة.
9
لكن باشلار الذي لا يعبأ كثيرا بالمنطق، ويطلق رؤاه النافذة لظاهرة العلم الحديث كشاعر ملهم، ينجح أحيانا فيرفض فكرة الاتصال في فلسفة العلم وتاريخه، ويركز على الجانب الانفصالي تركيزا بلغ حدا يخل بجدليته المكينة التي تحيط بجانب الاتصال/الانفصال . والحق أن عامل الاتصال واستمرارية التاريخ العلمي له أهمية في فلسفة العلم،
10
وليس من السهل رفضه تماما على طريقة باشلار.
وباشلار على أية حال من أساطين فلسفة العلم المعاصر، وقد خلق مفهوم «القطيعة المعرفية»؛ ليكون من أهم مفاهيم فلسفته الخصبة الثرية للعلم؛ إذ استطاع عن طريقه أن يبلور تقدم العلوم الطبيعية، من حيث هو سلسلة من الثورات؛ لذلك فالقطيعة عند باشلار تناظر تحطيم العلم الثوري للنموذج القياسي «البراديم
» عند توماس كون
T. Kuhn
في بنية الثورات العلمية، وتناظر تكذيب النظرية التفسيرية المقبولة عند كارل بوير في منطق الكشف العلمي، إنها تسير إلى أقصى مدى بالنظرية الثورية في تفسير طبيعة التقدم العلمي، كتمثيل عيني لتقدم الجهد العقلي في متصل صاعد دوما، متصل/منفصل تبرز قدرة الفكر الجدلي على التنظير للثورة - أي ثورة علمية وغير علمية، أو ليس رفضا - نقضا ونفيا لواقع قائم - لقضية مثبتة.
11
وأيضا كشأن تحطيم النموذج القياسي عند كوني، ومنطق التكذيب البوبري، نجد جدلية القطيعة المعرفية، تعبيرا عن روح وحصائل ثورة العلم المعاصر في القرن العشرين، ثورة النسبية والكمومية
Quantum
التي قوضت عالم نيوتن الميكانيكي الآلي، عالم الفيزياء الكلاسيكية: فكانت القطيعة المعرفية «رفضا للاتصال الميكانيكي والمفهوم التراكمي»
12
لتقدم العلم ونمو المعارف العلمية، وكأن الأمر مكتبة متنامية باستمرار
13
بتعبير كارل بوبر إمام الرافضين لمفهوم التراكم المعرفي، أو حتى مخزن بضائع متزايدة، وليس ملحمة صراع ضار ونبيل، تجتاز عقبات لا تنتهي.
إن المعرفة العلمية - كما أوضح باشلار - تسير دائما عبر عقبات وقهرها. يتحقق الانتصار على العقبة بتصحيح الأخطاء ورفض مواطنها - تكذيب النظرية المقبولة بتعبير بوبر - والانتقال الكلي إلى عقبة جديدة، قطيعة معرفية، والانتقال إلى إنجاز جديد وقهر عقبة جديدة ثم قطيعة أخرى، وانتقال آخر وإنجاز آخر وقهر عقبة أخرى ... وهكذا دواليك في متوالية التقدم العلمي الذي لا يتوقف أبدا.
وتكتسب «العقبة» دورا محوريا في خلق قصة التقدم العلمي بهذا التلاحم بينها وبين «القطيعة». العقبة أو العائق أو أزمة النمو العلمي «تتضمن إعادة نظر كلية في منظومة المعرفة.»
14
حتى يعرض باشلار لتكوين العقل العلمي عبر السلسلة من العقبات. إن وجود العقبة أو العائق يؤذن دائما بتحول جديد في المعرفة، يعني قطيعة بالنسبة للمعرفة السابقة.
القطيعة المعرفية هي التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر، فلا تعود اللحظة تكرارا كميا للتاريخ، بل هي عمل دءوب - إنجاز لحداثة بل الجدة - وعن طريقها يؤكد الإبداع العلمي حدس اللحظة التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث هي الكائنة وبين غير الكائنتين: الماضي والمستقبل، وتغدو الشجاعة الذهنية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية، «وأن نجعل منها منبعا لحدسنا متدفقا دوما، وأن نرسم انطلاقا من التاريخ الذاتي لأخطائنا النموذج الموضوعي لحياة تكون أفضل وأوضح.»
15 (3) القطيعة بين الإبستمولوجيا والأيديولوجيا
هكذا نجد مفهوم القطيعة المعرفية لم يتخلق إلا في رحاب فلسفة العلوم، بل فلسفة العلوم الطبيعية بالذات، ولم يصغه إلا جاستون باشلار، فقط في القرن العشرين، استخدمها الماركسي الفرنسي المجدد والبنيوي الثائر لوي ألتوسير استخداما موسعا في قراءته البنيوية للاشتراكية العلمية، أو محاولة صياغة تخطيط لهيكل الماركسية الثابت ووضعها بين الأيديولوجيا وبين العلم، لتتخلص من الأولى وتبقى علما عن طريق «القطيعة المعرفية»، فقامت القطيعة مع ألتوسير بدور جوهري للخلاص من تشويهات الأيديولوجيا للعلم، وهذه قضية محورية في الفلسفة الماركسية.
16
وكانت محاولة ألتوسير في هذا دءوبة، حتى إنه ذهب إلى ما وراء الماركسية، وأيضا ما قبل وضعية كونت، وراح يوضح كيف أن مونتسكيو وروسو قد أعاقهما أنهما ظلا ضحية لأيديولوجية الطبقة والعصر، ولولاها لتمكنا من إحراز مشروع العلم السياسي بنجاح أكبر.
17
اختلف ألتوسير عن لينين وجورج لوكاتش (1891-1937)، في تأكيده أن الأيديولوجيا ليست مجرد الوعي الطبقي أو الاجتماعي، بل هي - كما سبق أن أشار ماركس - نقيضة العلم، لكنه اختلف مع ماركس أيضا بإضافة أن المعرفة تبدأ من الأيديولوجيا، ثم يتعين التخلص منها وإحلال العلم محلها فيما أسماه بالقطيعة المعرفية. هكذا كانت القطيعة لإفساح الطريق أمام العلم، وأمام الاشتراكية العلمية، وكان هذا الاستخدام إيذانا بنمو المفهوم، أو تمثيلا لخروجه من أعطاف فلسفة العلوم الطبيعية ومن قلب صيرورة البحث العلمي، ليعم ويسود بعد ذلك ويصبح بمثابة «موضة شائعة» في كل مجالات الفكر والأدب والفن أيضا، وقد عبر عنها الأدب تعبيرا رديئا بات قولا مأثورا هو: «انظر وراءك في غضب.»
وكان ألتوسير قد برع في استخدام «القطيعة» لتفسير تطور الفكر الماركسي ذاته ونشأة المادية التاريخية، كما استخدمها ميشيل فوكوه للفصل بين الحقب المعرفية، لقد تحررت القطيعة من ارتباطها بتطور العلم الطبيعي البحت.
ولعل ما يميز التجربة الأوروبية الحديثة حقا أن العلم فيها هو الذي قاد التحول الحضاري؛ أي إن الإبستمولوجي هو الذي أخضع الأيديولوجي، وأصبحت حضارة تقنية، تعملقت فيها قيم العلم تعملقا بات يمثل خطورة هددت أبعادا حضارية أخرى تهديدا وبيلا، وبالتالي تسللت كثرة من مفاهيم العلم وفلسفته إلى الحضارة وفلسفتها، بل إلى الواقع الحضاري ذاته، وأحكمت قبضتها عليه. وقد تسلل مفهوم القطيعة هو الآخر، وأبدى فعالية جمة ومطابقة في تفسير الحضارة الأوروبية، وتجربة الحداثة فيها، وعلى يد كثير من المفكرين والباحثين الغربيين، نذكر منهم أخيرا إميل بولا
18
لقد أصبحت القطيعة توصيفا لتجربة الوعي الأوروبي، حين خرج من العصور الوسطى ملتجئا إلى الطبيعة، بوصفها طريقا للمعرفة، فقطع نفسه عن الماضي الذي اعتبر الكتاب المقدس طريقا للمعرفة؛ هكذا أصبحت القطيعة عنوانا للأيديولوجيا الغربية الحديثة.
لكن المفهوم أولا وقبل كل شيء من مفاهيم فلسفة العلوم الطبيعية، آلية من آليات العقل العلمي، كما أوضحنا. لم يعرف ولم يتبلور إلا بعد تطورات العلم الأخيرة، وعلى وجه التعيين ثورته العظمى في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكمومية (الكوانتم) التي أحدثت قطيعة معرفية مع مثاليات الفيزياء الكلاسيكية النيوتونية كالحتمية والعلية والضرورة واليقين ... بعد أن كان يظن أن هذه المثاليات تأطير لكشف حقيقة الكون، لم يبق إلا رتوش لكي تكتمل الصورة النهائية للعلم الكامل بمطلق الوجود الطبيعي، بل وأيضا الحيوي والإنساني.
ولئن كانت الظروف المتعينة للحضارة الغربية جعلتها هي التي تشهد وتستملك تجربة التقدم العلمي الحديث، فالذي ينبغي الاتفاق عليه هو أن آليات العقل العلمي لا شأن لها بالأيديولوجيا والصراع بين الثقافات؛ لأنها ملك للعقل من حيث هو عقل، للعلمي من حيث هو علمي ... ملك للبشر أجمعين ، ومنها مفهوم أو آلية القطيعة المعرفية، لا سيما وأننا سوف نستخدمها استخداما معرفيا من أجل توظيف إبستمولوجي، ولن يمتد لآفاق شاملة لمجمل الأيديولوجيا كما حدث في التجربة الأوروبية.
إذن فتشغيلنا للقطيعة التي هي إبستمولوجية لن يعني مطابقة الأيديولوجيا الغربية وتماهي خصوصيتنا الأيديولوجية، فمن أجل هذه الخصوصية وتواصلها، أو الأصالة وتحديثها، كان تعويلنا على علم الكلام. بعبارة موجزة؛ القطيعة هنا إبستمولوجية ولن تصبح حضارية أو أيديولوجية.
ويمكن اعتبار ما يسمى بالقطيعة الحضارية توصيفا للموقف الذي أطلق عليه طيب تيزيني اسم «العدمية التراثية»؛
19
أي الموقف المنادي بنفي التراث العربي نفيا كليا؛ لأنه أحد المعوقات الكبرى لعملية التحديث المرومة، فلا بد من إعدامه وقطع كل صلة به، هذا يفضي إلى الانقطاع التام عنه والبدء من جديد، بدءا يكاد يكون من نقطة الصفر (!) مما يهيئ للانطلاق بأقصى سرعة ممكنة للحاق بأذيال الحضارة الغربية. إنه موقف التحديثيين العلمانيين المتطرفين الذي نوقش فيما سبق (ص34-35).
والحق أن هذا التيار وصل في بعض امتداداته - مثلا مع هشام شرابي وعبد الله القصيمي - إلى حالة من التطرف تلامس حدود هوس إعدام ووأد و«ذبح» كل ما هو عربي إسلامي؛ للبرء منه لسلخه أو الانسلاخ عنه، تلك هي مجزرة التراث: الذبح والسلخ. مثل هذه الحالات ليست من القطيعة في شيء، ولا شأن لها بجدلية انفصال أو اتصال، بل هي انسلاخ حضاري، أو بالأحرى عصابي، وقد تكون في الواقع في حالة المغتربين عن المكان حقيقة أو مجازا، الذين ينسلخون عن ذواتهم ويعيشون بحضارة غير حضارتهم وقومية غير قوميتهم (قريب من هذا التجربة الأتاتوركية). لكن إذا سلمنا بأن الواقع طبعا ليس هو ذاته المعرفة، والإبستمولوجي ليس هو طبعا الأيديولوجي، تبدى لنا أن الانسلاخ ممكن حضاريا، بيد أنه مستحيل معرفيا، بل إن الانسلاخ موقف مناقض لأي موقف «معرفي»، وكما يومض ورود مصطلح المغتربين والاغتراب، يكاد يقترب من لاعقلانية الوجودية المناهضة للتفكير العلمي والعقلاني إجمالا، حين يتحدث الوجوديون عن القطيعة والتلاشي بمعنى الانفصال والعدمية. يقول سارتر: «إذا كان السلب يأتي إلى العالم بواسطة الأنية، فهذه ينبغي أن تكون موجودا يستطيع أن يحقق قطيعة معدمة (انفصال ملاش) مع العالم ومع ذاته، وقد قررنا أن الإمكان المستمر لهذه القطيعة هي والحرية شيء واحد.»
20
أي إن الحرية - صلب فلسفتهم الوجودية - أن تنقطع الذات عن ماضيها ومستقبلها وعالمها وقيمها، وتعدم كل هذا وتلاشيه، ومثل هؤلاء لا نتوقع منهم تنظيرات أيديولوجية أو أدوارا تاريخية أو مهام حضارية لسبب بسيط جدا، هو أن همهم في تأكيد الوجود الفردي الأصيل والنجاة من الانصهار والذوبان في المجتمع أو الجماعة أو الحشد أو القطيع ... إلى آخر تعبيرات الوجوديين المعروفة. على كل هذا يغدو الانسلاخ الحضاري حالة قفز ووثب بلا أصول ولا امتدادات. •••
ليس كل استخدام لآلية القطيعة «المعرفية» يعني انسلاخا حضاريا أو يمتد ليصبح موقفا حضاريا شاملا، يحيط بمجمل الغطاء النظري للواقع الحضاري، أو يحيط بالواقع الحضاري ذاته ليرادف الانسلاخ الذي لا يكون إلا فرديا.
ها هنا أعيد المفهوم إلى حدوده ليصبح مجرد آلية من آليات العقل العلمي، مفهوم إبستمولوجي يقتصر دوره على الفعالية الإنسانية المتجددة في عملية اكتساب المعرفة بالطبيعة والسيطرة عليها. حتى إن كان يستفاد به في تفسير ما لتحولات تاريخية؛ فليس يناط به أدوار حضارية جلى بمثل شمولية الغطاء النظري، وإن كان يمكن أن يسري على تعامل العقل البشري مع هذا الغطاء في مراحل تاريخية متفاوتة؛ وبهذا لا تمثل القطيعة المعرفية أي نقض أو عرقلة للتوجه الإسلامي أو حالة الانسلاخ عنه، بل العكس تماما؛ هي أداة من أدوات الحيلولة دون هذا الانسلاخ، «مفهوم القطيعة يجعلنا نتحرك دائما داخل نفس الثقافة.»
21
وبديهي أنها لا تحدث بين شخصين أو مقولتين تنتميان لثقافتين مختلفتين أو لميدانين معرفيين مختلفين، بل إنها يمكن أن تعطي التوجه الإسلامي العروبي إذكاء نحو السيرورة والديناميكية ... نحو البديهية الجوهرية؛ أي التاريخانية.
ولكن إذا كانت القطيعة قد أصبحت توصيفا للأيديولوجيا الأوروبية، ونحن لا نريدها توصيفا لأيديولوجيتنا، هل معنى هذا أن مشروعنا قائم على «التواصل» تماما ليحمل كل الأصالة بلا شبهة تحديث، بينما المشروع الغربي قائم على «انقطاع» إطلاقا ليحمل كل «الحداثة » بلا شائبة من أصالة؟!
والحق أن الواقع الحضاري والواقع الإنساني ... الواقع إجمالا، لا يقوم على توصيفات كيفية جامعة مانعة، تطرح خيارات «إما ... أو»: إما تواصل وإما انقطاع، بل ثمة آليات ومكونات عامة تتواجد في المشاريع جميعها أو في الحضارات من حيث هي حضارات. إن الاختلاف دائما، لا سيما من النظرة العلمية، اختلاف في الدرجة وليس في النوع، أو اختلاف في ترتيب الأولويات.
فمثلا أشرت آنفا إلى أن ما يميز الحضارة الغربية الحديثة هو السمة العلمية، العلم هو الذي حدد حلبات الصراع وفحواها، ارتبطت به الفلسفة وانعكس فيها، وتشكلت على أساسه الأيديولوجيا، وترك بصماته على مسار الآداب والفنون - إن سلبا وإن إيجابا.
فهل يعني هذا أن الغرب عالم مادي بينما الشرق فنان روحاني، في تبسيط ارتاده الرائد الأكبر زكي نجيب محمود أستاذ الجيل في التجديد وفي سواه؟ ... كلا بالطبع! فليس العلم قصرا على الغرب ولا الروحانيات قصرا على الشرق، وكما هو معلوم جيدا العرب الإسلاميون هم حملة لواء العلم الرياضي والتجريبي على السواء طوال عصور مركزية حضارتهم. وعلى طريقة شاهد من أهلهم، نقتبس قول برتراند رسل
B. Russell (1872-1970): «في العصور المظلمة كان العرب هم الذين يقومون بمهمة تنفيذ التقاليد العلمية، أما المسيحيون أمثال روجرز بيكون فقد اكتسبوا منهم إلى حد بعيد ما اكتسبوه من معرفة علمية حازتها العصور الوسطى اللاحقة، ولكن كان للعرب على أية حال المثلمة التي تناقض مثلمة الإغريق؛ إذ اتصلت بحوثهم بالوقائع بدلا من أن تتصل بالمبادئ العامة، وما كانت لديهم المقدرة على استدلال القوانين العامة من الوقائع التي اكتشفوها.»
22
أي إنهم كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي.
وبالمثل لم تخل الحضارة الغربية أبدا من صنوف شتى للروحانيات
23
كالتيارات الدينية والنزعات الصوفية والحدسية والرومانتيكية والبرجسونية والوجودية، وسائر الفلسفات اللاعقلانية، فضلا عن وجود الدين وآبائه والفكر اللاهوتي دائما.
إن العلم - أي علاقة العقل بالطبيعة ومحاولته السيطرة عليها - مكون أساسي في كل الحضارات وفي كل وجود إنساني، ولكن بدرجات متفاوتة وبترتيب مختلف في سلم الأولويات، تميزت الحضارة الغربية الحديثة بأنها رفعته على رءوس الأشهاد وعلى جثث الشهداء إلى مركز الصدارة، وانطبعت بمعالمه وتشكلت أيديولوجيتها على أساسه، إن سلبا وإن إيجابا، بينما كان العلم في الحضارة الإسلامية إبان عصرها الذهبي أدنى في سلم الأولويات بعد الدين ونصوصه وعلومه ومتطلبات مواجهاته، كان العلم بعدا من أبعاد هذا.
هو بعد وليس مركزا، بل بعد فرعي إلى حد ما، فكان العلم التجريبي والرياضي ينمو في إطار الأيديولوجيا وتحت رعايتها - ورعاية السلطة - ولم يرتفع أبدا إلى حلبات الصراع الأيديولوجي ولم يساهم في تشكيل فصوله.
إذن فهل الحضارة الإسلامية المنشودة تواصلية إطلاقا بينما الحضارة الغربية انقطاعية بتاتا؟ أم أن الحضارة الإسلامية العربية أكثر تواصلا والحضارة الغربية أكثر انقطاعا؟
نحسب أن البديل الثاني أقرب إلى الصواب، لعل الحضارة الغربية أتت بأوسع وأجرأ ممارسة للقطيعة خصوصا في قطيعة العلم الكبرى مع الأرسطية القروسطية، ولكن ليس صحيحا أنها قامت على انقطاع مطلق إطلاقا بائنا، فالنهضة - أي نهضة - لا تتأتى إلا عبر تواصلية بدرجة ما، بتعبير عابد الجابري «عبر آلية الانتظام في تراث».
24
وقد كانت النهضة الإسلامية الأولى التي حققها ظهور الإسلام تواصلا وانتظاما في التراث الحنيفي ملة إبراهيم، ولا ينفي هذا أن القرآن الكريم فعل توحيد فذ ومتفرد، والنهضة الأوروبية لم تتأت إلا في أعقاب الإحياء والتواصل مع التراث الكلاسيكي، اليوناني والروماني.
إذن فالحرص على عامل التواصل الحضاري ليس بدعا، لا هو إبداع ولا هو بدعة، بل هو تكثيف وتركيز على آلية من آليات النهوض لتتميز حضارتنا الحديثة بأنها أكثر الحضارات استغلالا لهذا التواصل في صون مقومات شخصية حضارية متميزة، شريطة أن تكون قادرة على النماء والتطور ... على الانطلاق نحو المستقبل. (4) القطيعة المعرفية ... في علم الكلام الجديد
وكما وقفنا على قدر التواصلية في الحضارة الغربية لا ينفي تميزها بالانقطاع، يمكن بالتالي أن نطالب بقدر من الانقطاعية في أيديولوجيتنا العربية الإسلامية، لا ينفي تميزها بالتواصلية التي ترتد في استمرارية علم الكلام الذي نرومه منطلقا من الماضي إلى المستقبل، من أجل هذه الاستمرارية وفي سياقها يكون تشغيل القطيعة بوصفها آلية من آليات العقل المعرفي ، ومن المعاملات الجوهرية لتوالي جهوده.
ولنعد إلى ما انتهينا إليه، إلى أن القطيعة المعرفية - وليس الانسلاخ الحضاري - لا تعني المحور والإلغاء وإفناء الماضي، ليكون البدء المطلق والمستحيل معرفيا وليس ورائي شيء البتة ... كما بدأ إنسان نياندرتال أو كما بدأ آدم ... كلا بالطبع وبالقطع، القطيعة المعرفية أن أبدأ درجة أعلى ليست تكرارية ولا إضافية كمية، بل هي حلقة جديدة في سلسلة التقدم المتوالية، لم أصل إليها إلا بعد الحلقات السابقات. فترفض القطيعة - بوصفها مقولة إبستمولوجية مجدية وفعالة - فكرة الانسلاخ والافتراق البائن الذي يقطع جذوره في كل ماض، ويبحث عن مستقبل هائم بقفز ووثب لا يصنع حضارة ولا يقيم نهضة.
وكانت القطيعة المعرفية قد رفضت أولا الاتصال الآلي والتراكم الميكانيكي، وهو أعلى صورة للحركة يستطيعها اليمين الثبوتي الذي يجعل الحضارة امتدادا صرفا للماضي؛ ليخلص في النهاية إلى تماثلهما كيفا وإن اختلفا كما. إن القطيعة - كما أوضحنا - مركب جدلي من الاتصال/الانفصال، المنبثق عن جدلية الاستيعاب/التجاوز، فنستطيع أن ننفض اليد من مرحلة انتهت ونحط الرحال على مرحلة جديدة بكل أبعاد الجدة والحداثة، فنواجه إشكاليات جديدة، ونتكفل بمهام مستحدثة.
على هذا نجد قطيعة معرفية بين علم الكلام القديم الآتي من الماضي وعلم الكلام الجديد المنطلق نحو المستقبل، نجد تسويغها وإعلانها وتبيانها في أن الهدف من علم الكلام القديم - كما هو معروف - والغاية التي كان يجتهد كي يصل إليها هي إثبات العقيدة، وقد تم حسم هذه القضية وانتهى زمان، أو على الأقل، خطر اللجاج فيها من قبل العقائد المخالفة، والآن «ليس الخوف على التوحيد من الشرك، بل الخوف عليه من العجز والموت والصورية، بقاء المثال بلا تحقيق وبقاء الوضع القائم بلا تغيير.»
25
في مرحلتنا الحضارية الراهنة أصبح إثبات العقيدة أو العقيدة المثبتة هي نقطة البداية التي يسلم بها ويصادر عليها علم الكلام الجديد وينطلق منها.
وسواء اعتبرنا العقيدة المثبتة بنية للتراث أو لتجديده أو إطارا للواقع أو حدودا للعقل أو مخزونا نفسيا للجماهير أو النسيج الشعوري والقيمي بها أو قوة التثوير أو المشروع الأيديولوجي أو كل هذا وسواه ... مما تعمل به المشاريع المختلفة في الفكر العربي الآن ... فستظل الدلالة البالغة الوضوح على وجود القطيعة في أن خاتمة المطاف والغاية المنشودة أصبحت هي نقطة البدء والمصادرة الأولية، وبالتالي بدلا من أن يكون الإنسان والعالم المخلوق فيه مقدمة لإثبات الوجود الإلهي الواحد الأحد، يصبح الله الواحد وعالمه الخالق إياه مقدمة لإثبات حضور الإنسان المسلم في تيار التاريخ.
هذا في علم الكلام الجديد بصفة عامة، وفي طبيعياته بصفة خاصة؛ نجد هذا بالضبط في كلمة واحدة جملة الهدف وقصارى المنشود وغاية الكلام في المرام. فقد كانت الطبيعيات المتبدية في علم الكلام القديم مقدمة للبرهنة على وجود الله، ووسيلة لإثبات عقيدة التوحيد، والمطلوب من علم الكلام الجديد العكس؛ البدء من الإيمان بالله القار في الشعور وعقيدة التوحيد المثبتة في الأبنية النفسية للجماهير، كمقدمة لإثبات وجود العالم، ووسيلة لدفعنا للخوض في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها، تجذير هذا في أيديولوجيتنا وتوطين الروح العلمية في تربتنا الحضارية.
والقطيعة المعرفية تعني ذلك الانتقال الجذري إلى مرحلة جديدة، وفي نفس الوقت كانت قد وضعت أصلا - كما أوضحنا - من أجل تفسير طبيعة التقدم في العلوم الفيزيائية كسلسلة مستمرة من الثورات ... فيتداعى إلى الذهن جدلية الفكر العربي المعاصر بين قطبي التنوير والتثوير.
ولكن ما دمنا ننطلق من منظور فلسفة العلوم ونهدف إلى غاية إبستمولوجية هي انضباط وضع الطبيعيات في منظومة علم الكلام، فلا بد أن نستفيد من سيمانطيقية لفظة التثوير والثورة بأصولها الفيلولوجية في اللغة الإنجليزية لا العربية.
في العربية تعود ثورة إلى: «ثار الغبار سطع وأثاره غيره وتثويرا هيجه»، «وثورانا: هاج، ومنه قيل للفتنة ثارت وأثارها العدو، وثار الغضب: احتد، وثار إلى الشر: نهض، وثور الشر تثويرا.»
26
هكذا نجد الثورة في النهاية مردودة إلى «ثار» بمعنى يفيد هاج وماج، فيأتي الرفض والتغيير بفعل قوى انفعالية، وليس هذا هو المقصود.
أما في اللغة الإنجليزية فنجد
Revolutionary : ثوري، جذري متطرف، وأيضا دورا؛ لأن اللفظ مأخوذ من:
Revolution
التي تعني ثورة وتعني أيضا إتمام دورة كاملة، مثلا دورة الجرم السماوي في مداره. ولنلاحظ أواصر القربى الفيلولوجية بين ثورة:
Revolution
و«نماء أو تطور:
Evolution »، وبهذا نجد مصطلح الثورة لا يجعل الرفض هياجا مفاجئا، بل هو تقدم مكثف شديد الفاعلية، وهو بدء دورة جديدة لانتهاء الدورة السابقة، وهو انتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن أوانها لانتهاء المرحلة السابقة واستنفاد مقتضياتها، هذا هو المنشود والذي نريده مستفيدا من القطيعة المعرفية، بل مسلحا بها.
في خلاصة ما سبق، في جدلية الاستيعاب/التجاوز والانفصال/الاتصال، المفضية إلى مركب شامل يؤذن بقطيعة معرفية، وهي مصطلح صيغ في فلسفة العلوم الطبيعية لتنظير تقدمها المتفجر ... في هذا تكمن الإجابة على التساؤل بشأن وضع الطبيعيات في علم الكلام السائر نحو المستقبل.
ولكن من زاوية الاستيعاب والاتصال، ماذا - قبلا - عن الطبيعيات في علم الكلام الآتي من الماضي؟
الفصل الثالث
الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس
(1) الطبيعيات ... هي العالم الحادث
ستظل الطبيعيات هي الوسط المتعين للإنسان والمستوى الأولي المبدئي ... مهما كان الإباء أو اللهاث لشد الرحال إلى مستويات أعلى للوجود أو للمعرفة، للواقع أو للفكر، يظل التنظير للمستوى الأولي - الطبيعيات - لا فكاك منه البتة.
فكانت الطبيعيات وستظل دائما في كل عصر ومصر، في كل زمان ومكان، محورا من محاور النشاط العقلي، وطبعا اختلفت - وتختلف الآن أكثر وأكثر - حصائل هذا النشاط بدرجات متفاوتة أيما تفاوت. ويظل لزاما على كل مفكرين أو منظرين أو فلاسفة الإلمام بمستوى المعارف الطبيعية كما هي مطروحة في عصرهم والمصادرة على هذا المستوى في تنظيراتهم، ولا ولم يستثن علماء الكلام من هذا، حتى إن أبا عمرو الجاحظ (255ه) - وهو من رواد النزعة الطبيعية في علم الكلام الاعتزالي ومن المعالم البارزة في الثقافة العربية بجملتها - لم يفته التأكيد على أن العالم الحق يجب أن يضم إلى دراسة الكلام دراسة العلم الطبيعي، وكان هو نفسه «يصف في كل شيء أفاعل الطبيعة - وقد غلب النظر في الفلسفة الطبيعية على المعتزلين الأولين.»
1
فعلى خلاف الظن الشائع، أو بالأحرى الخطأ المعتمد، احتلت الطبيعيات في علم الكلام القديم - السائر قدما نحو المتجه الإلهي - مكانا فسيحا في صدر المسرح الفكري، ولئن لم تكن الطبيعة من المشكلات الكبرى أو من أصول المعتزلة الخمسة ولا من العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية، فإنها منبثة في كل هذا حتى شهدت مع المتكلمين زخما وثراء.
فالطبيعيات هي العالم، هي «كل موجود سوى الله تعالى»،
2
سوى عالم الغيب، هي عالم الشهادة، بتعبير معاصر هي الكون الفيزيقي. وقد تحول العالم والكون على أيدي المتكلمين إلى جواهر وأعراض، وسرعان ما أصبحت «الجواهر والأعراض» هي الأنطولوجيا الكلامية، وأهم ما في الأمر أنهم لم يختلفوا كثيرا بصددها، اتفقوا على أساسيات الطبيعيات - أو تصور العالم - وعلى وضعها في المنظومة الكلامية، الخلاف في التوجهات النهائية والهدف الذي رامه الفريق منذ البداية، وعلى وجه التحديد في مفترق الطرق بين المعتزلة والأشاعرة.
وثمة أسلوبان لتناول علم الكلام القديم، فإما النظر إليه كفرق، وإما النظر إليه كموضوعات. بهذا الأخير نجد الموضوعات ستة: التوحيد، القدر، الإيمان، الوعيد، الإمامة، ثم اللطائف؛ أي الطبيعيات. الإلهيات (= العقليات) تشمل التوحيد والقدر. والسمعيات (= النقليات) تشمل الإيمان والوعيد والإمامة.
أما اللطائف أو الطبيعيات فموضوعها الجسم والحركة والزمان والمكان؛ أي العالم الفيزيقي كما أشرنا. وهي «دقيق الكلام» الذي هو مجال العقل وحده، مقابل «جليل الكلام»؛ أي العقائد التي نفزع فيها إلى كتاب الله. هكذا تشير الطبيعيات إلى بداية التفكير العلمي في الطبيعة، بل تطور هذا إلى ما يمكن أن نسميه مشروع إنشاء علم طبيعي، «ولكن هذا الفكر العلمي البازغ من ثنايا الفكر الديني، تم إسقاطه من الحساب ثم إجهاضه بسيادة الفكر الديني وحده، فانفصل العلم عن الدين والبدن عن النفس والشيء عن العقيدة والعالم عن الله.»
3
فالطبيعيات لم تكن إلا سلما للإلهيات، وليست مطلوبة في حد ذاتها أبدا للفهم والتفسير، المطلوب فقط استخدامها، وبالتحديد استخدام «حدوث العالم» كدليل على العقائد الإلهية. الحادث هو الجسم الطبيعي، فكانت الطبيعيات محض صورة عقلية للإلهيات، خادمة لها وليس للإنسان في حين أن الإنسان هو الذي يحيا في الطبيعية، وهو الذي يصارعها، وهو الذي يحتاج لترويضها وتطويعها.
دليل الحدوث؛ أي كون حدوث العالم أو العالم الحادث المخلوق دليلا على وجود الله وقدرته وعلمه الشاملين، وحكمته وحياته. ذلك هو ما سلم به المتكلمون جميعا تسليما، بل المسلمون جميعا، أوليس الكلام مكنوننا النفسي ... أيديولوجيتنا؟ فكان دليل الحدوث هو مدخل اشتباك علم الكلام القديم بالعالم، ومن ثم بالطبيعيات.
فلم يكن العالم بالنسبة للمتكلمين إلا علامة على وجود الله، على ما وراءه؛ «إنما سمي «العلم» علما؛ لأنه إمارة منصوبة على وجود صاحب العلم، فكذلك «العالم» بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى.»
4
كلمة «عالم» مشتقة أصلا من العلم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحسي: العلام؛ أي الحناء لما يترك من أثر باللون، والعلامة ما تترك في الشيء مما يعرف به، ومن هذا العلم لما يعرف به الشيء أو الشخص كعلم الطريق وعلم الجيش (الراية)، وسمي الجبل علما لذلك. ومنه علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل، وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية في «العلم».
5
لم ترد لفظة «العالم» ولا لفظة الطبيعة في القرآن الكريم أبدا، وردت فقط في صيغة الجمع «العالمين»، ربما على سبيل التأكيد ثلاثا وسبعين مرة، هذا غير «العالمين» (بكسر اللام) من العلم بالشيء، التي وردت ثلاث مرات.
6
وكانت المشكلة المحورية للطبيعيات الكلامية هي العلاقة بين الله وبين العالمين أو العالم أو الطبيعة التي اتخذت مبدئيا شكل الإيجاد والخلق من العدم، إحداث المحدث: هذا العالم.
وظل دليل الحدوث دائما إطار الطبيعيات الكلامية ككل وكأجزاء، مبررها وتسويغها، مما جعل الإلهيات هي النهاية ... المتجه والهدف والغاية مثلما كانت قبلا هي البداية المنطلق وزخم الدفع، في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس.
وفي هذا، في الطبيعيات لا سواها، نستنطق الفحوى الجوهري أو الثابت البنيوي في علم الكلام القديم بأسره، إنها «وحدة الأساس الذي يقوم عليه بنية كل من الفكرين المعتزلي والأشعري»
7
على السواء، بل وكل ما سواهما؛ فقد قامت الطبيعيات الكلامية على دليل الحدوث الذي لا يعدو أن يكون عملية قياس الغائب (= الإلهيات أو عالم الغيب) على الشاهد (= الطبيعيات أو عالم الشهادة)، وكما أشار حسن حنفي، قياس الغائب على الشاهد الذي يبدو مستعارا من علم أصول الفقه هو أساس الفكر الإلهي أو الثيولوجي كله،
8
وهو محاولات أولى تكشف عن بزوغ العقل من خلال الإيمان وعن تجاوز المشاهدة الحسية والتجربة المباشرة بعد استيعابها إلى التحليل العقلي الصرف،
9
فدليل الحدوث تجريبي يستند إلى المشاهدة ثم ينتقل من الواقع المحسوس إلى الفكر. •••
وفي تحليل بنيوي ثاقب لهذا يقف على آلية إنتاج المعرفة في العقل العربي - ويمكن أن يفيد في تعليل ما دأب عليه العقل العربي من ربط الإبستمولوجي بالأنطولوجي، ورد الطبيعيات إلى الأنطولوجيا دونا عن الإبستمولوجيا - نقول: في تحليل بنيوي لهذا يرى عابد الجابري أن عناصر المعقول الديني العربي ثلاثة: الوحدانية والنبوة ووجوب معرفة الله من خلال تأمل الكون.
10
فقد كان الكون أو العالم ونظامه من ناحية، والقرآن وبيانه من الناحية الأخرى، هما العنصران الرئيسيان في الإطار المرجعي الذي يستند إليه العقل الإسلامي في صراعه مع اللاعقل، أي مع المشركين.
11
حيث كان غرض المتكلمين الأول هو إبطال مذاهب الخصوم؛ المانوية المجوسية والمزدكية والبابكية والثنوية وغيرهم، باتخاذ الشاهد (= العالم ونظامه) أصلا للتدليل على الغائب (= العقائد).
وهذه عقلية بيانية؛ أي إن آليتها أو أداتها لإنتاج المعرفة هي البيان الذي هو أصلا آلية لغوية، هي آلية التشبيه التي تؤسس البلاغة العربية. إن علوم اللغة والبلاغة لها ريادتها المعروفة للعقل العربي بحكم لغوية الحدث القرآني، إنه بيان.
وقد تكون العقل العربي في العصر العباسي الأول - عصر التدوين - من خلال تشييده لعلوم البيان، وأعلاها تقعيده لقواعد اللغة العربية، وأبدع في هذا إبداعا قل مثيله في تاريخ الفكر البشري،
12
واحتل أوسع رقعة في الثقافة العربية.
يطلب الجابري على هذه المرحلة، وهي التي شهدت نشأة ثم ازدهار علم الكلام، اسم مرحلة العقل البياني؛ لأن الخطاب العربي فيها يؤسسه فعل عقلي واحد؛ أي آلية ذهنية واحدة قوامها ربط أصل بفرع لمناسبة بينهما: إنه القياس بتعبير النحاة والفقهاء، أو هو استدلال بالشاهد على الغائب بتعبير المتكلمين؛ لذا أسماه الجابري النظام المعرفي البياني، يتلوه المرحلة أو النظام المعرفي البرهاني (= الحكمة) حيث المعقول الأرسطي، ثم النظام المعرفي (= سيادة الأشعرية والتصوف) حيث الغنوصيات المشرقية.
ويهمنا الآن أن هذه الآلية البيانية أو قياس الغائب على الشاهد أو دليل الحدوث هو صلب الطبيعيات وهيكلها، والذي جعلها تدور في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا ... وبالعكس ... هذه الدائرة المغلقة حالت دون نماء بذور واعدة احتواها تصور أسلافنا للطبيعيات. على أية حال بدأ هذا التصور بدليل الحدوث الذي شق طريقه ورسم مساره وحدد معالمه. •••
في هذا الدور الرئاسي لدليل الحدوث في تصور الطبيعيات نجد العالم الطبيعي حادثا؛ أي مخلوقا؛ لأنه متغير، القديم فقط هو الذي لا يتغير؛ لذلك كانت أولى المشاكل الطبيعية التي بحث فيها المتكلمون؛ هل العالم ثابت أم متغير؟ وعلى طريقتهم الجدلية - بمعنى الخطابية - كما يريدون من طرح هذا السؤال إثبات أن العالم متغير.
ودائما المعتزلة هم المنشئون الحقيقيون لقضايا علم الكلام، وكان شيخهم أبو الهذيل العلاف (135-226ه/752-840م) أول من يبحث في هذا السؤال، فكان أول من يخوض في الطبيعيات، وأول من يفسح المجال للفلسفة كي يستعين بها الكلام، هادفا إلى بيان عمل القدرة الإلهية «في محيط أهم مقدور لها وهو العالم»،
13
ولكي يثبت العلاف أن العالم متغير، وبالتالي حادث والله هو القديم الأوحد ذو العلم والقدرة الشاملين، استعان بالمذهب الذري المعروف بالهند القديمة، ومع لوقيبوس وديمقريطس والأبيقوريين، بعد أن وضع له اسما أو مصطلحا إسلاميا هو «مذهب الجوهر الفرد». وسرعان ما أخذه من العلاف كل المعتزلة باستثناء النظام القائل بالكمون والطفرة، أخذه أيضا الأشاعرة، بل إن المذهب اكتمل تماما مع الأشعري والباقلاني. لقد فرض هذا المذهب نفسه واستبد بالأنطولوجيا الكلامية، بل ظل مصطلح الجوهر وأعراضه يتردد كثيرا بوعي وبغير وعي حتى في طبيعيات الفلاسفة، وهم قد رفضوا الجوهر الفرد ووضعوا بدلا منه الفيض أو الهيولي الأرسطي، والذي رفضه المتكلمون بدورهم؛ لأن الهيولي سلب مطلق وينفي عملية الخلق من العدم.
على الإجمال؛ أصبح الجوهر الفرد حجر الزاوية والممثل الرسمي للطبيعيات الكلامية، وأكثر نظرياتهم اكتمالا وثراء ، ومن المعالم المميزة لعلم الكلام بأسره ، حتى إن هنري كوربان يقول عن علم الكلام إنه أصبح اسما لمدرسة فلسفية تقول بمبدأ الذرة،
14
ولكن لم يكن الجوهر الفرد مجرد نقل للذرة، بل إنه يحمل كل خصائص وتوجهات علم الكلام، ويمثل قدرته على الاستفادة من الثقافات الأخرى دون الذوبان فيها، وبالمثل تماما نجد المتكلمين يستعملون مصطلحي أرسطو الشهيرين الجوهر وأعراضه بطريقة تكاد تختفي منها المعالم الأرسطية.
فقد كانت الذرة محاولة لتفسير العالم الطبيعي وفهمه، أما الجوهر الفرد فمحاولة لتفسير علاقة الله بالعالم، تبدأ من وجود الله وتنتهي إلى إثبات قدرته وعلمه الشاملين في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس: الله ← العالم ← الله.
الذرة مع الإغريق أزلية لامتناهية، تتحرك حركة لامتناهية في فراغ لامتناه، حركته تجعل الكون آليا ميكانيكيا تتكون موجوداته من التقاء الذرات، فيستغني عن الألوهية وعن فعل الخلق، أما مع متكلمي الإسلام - المعتزلة والأشاعرة على السواء - فقد أصبح الجوهر الفرد مخلوقا حادثا متناهيا، الله هو الذي أحدثه وأوجد فيه الوجود والعدم والحركة والسكون.
فقد أضاف العلاف إلى الحركة الذرية الإغريقية السكون الذي نفاه ديمقريطس. كان السكون مع العلاف رفضا لفكرة التقاء الذرات وإقرارا بفعل الخلق، فحدوث العالم يقتضي حدوث الحركة، «وهذا يعني أن الحركة متناهية لها أول وآخر، فتكون مسبوقة بكون ومنتهية به، حتى إنه انتهى بانقطاع حركات أهل الخلدين (الجنة والنار)؛ لأنها ستنتهي إلى سكون مطلق.»
15
إلى كل هذا الحد لم يكن الجوهر الفرد إلا إثبات الوجود لله، بل وتأدى معهم إلى نوع من الخلق المستمر امتد من الكلام إلى الحكمة حتى قال به ابن رشد.
بادئ ذي بدء، أثبت الجوهر الفرد صلب عقيدة الإسلام: التوحيد. فمن أجل إثبات أن الله هو اللامتناهي الوحيد ذو العلم الشامل الذي أحصى كل شيء عددا، كان لا بد وأن يكون العالم متناهيا، وبالتالي لا يمكن أن ينقسم الجسم إلى ما لا نهاية، لا بد من نهاية لانقسامه هي أجزاء لا تتجزأ، هي الجوهر/الذرات هي متناهية لها كل وجميع، وكان تناهي المادة هو دليل المتكلمين الاستقرائي على القدرة الإلهية التي تشمل هذا العالم المتناهي مثلما يشمله العلم الإلهي.
أهم صفات الجوهر الفرد هي التحيز، بل هو شرطه «لا يصح أن يوجد الجوهر من دون التحيز لأجل أن هذا الشرط لا ينفك عما هو مؤثر فيه، وهو كون الجوهر جوهرا.»
16
التحيز يكاد يطابق ما يسمى بالمصطلحات الحديثة «الكينونة»، وبمصطلحات القدماء «الكون»؛ لذلك كان وجود الجوهر مضمنا بالتحيز، بوجود الكون أو الكينونة من حيث إنه لا يوجد إلا وهو متحيز ولا يكون متحيزا إلا وهو كائن.
17
الكون يحل المحل؛
18
أي إن الجوهر يشغل حيزا واحدا لا يشاركه أو يتداخل معه فيه جوهر آخر، الأكوان متماثل ومختلف، قد يخلو الجوهر من اللون والطعم والرائحة؛ لأن الله خلقه ابتداء دون أن يخلق فيه شيء من هذا،
19
لكن لا يخلو أبدا من الاجتماع أو الافتراق والحركة أو السكون. وإذا حصل بقرب الجوهر جوهر آخر سمي ما فيهما مجاورة أو اجتماع، ومتى كان على بعد منه سمي ما فيهما مفارقة ومباعدة.
20
وهذا يبين أن الجوهر لا يخرج عن التحيز؛ إن الاجتماع لا ينفي التحيز.
التحيز يوجب كون الجوهر كائنا في جهة، متى حصل عقيب ضده فهو حركة، إذا بقي كائنا في جهة أزيد من وقت واحد فهو في سكون، «والدليل على حدوث الجسم استحالة خلوه من الحركة أو السكون»؛
21
لأنهما حدوثان، وبالتالي الجسم حادث مثلهما، وما دام لا يخلو منهما فلن يوجد قبلهما ليكون دونهما قديما غير حادث إن «الجواهر لم تتقدم المحدثات في الوجود».
22
الجوهر لا ضد له؛ لأنه بلا صفات كيفية، بلا لون أو طعم أو ثقل الكيفيات والتغيرات التي نراها هي من الأعراض التي تحل في الجوهر؛ لذلك قيل في تعريف الجوهر إنه: «المتحيز وما له حجم ويقبل العرض.»
23
يتكون المحسوس/العالم الطبيعي من جواهر وأعراض، الأولى محل الثانية. ومن حلول الأعراض في الجواهر تتكون الموجودات الطبيعية. إن العالم متناه، «وكل متناه محدود، وكل محدود فإما حامل أو محمول»؛
24
أي إما جوهر أو عرض، فلن نجد في العالم إلا قائما بنفسه حاملا، أو قائما بغيره محمولا،
25
شاغلا لمكان أو غير شاغل له. الأول هو الجوهر، والثاني متغير معدوم هو العرض. وهذا لا يعدو أن يكون انعكاسا للإيمان بوجود الثابت وراء المتغير أو الله وراء العالم، فيقول ابن حزم الأندلسي: «فعلمنا يقينا أن الذي عدم غير الذي وجد، وعلمنا يقينا أنه غير الجسم الحامل له، أنه لو كان إياه لعدم الجسم بعدم كون الأول، فدل بقاؤه على أنه غيره بلا محالة؛ إذ لا يكون الشيء معدوما وموجودا في وقت واحد.»
26
إن الأعراض هي الكيفيات. فكانت مقولة الكيف لب مبحث الأعراض تشمل نصفه تقريبا، تأتي بعد الكيف مقولات الكم والنسبة، ثم الإضافة، وتنقسم الكيفيات استقراء لها إلى أربع: المحسوسة والنفسانية والمختصة بالكميات والاستعدادات؛ أي إن الكيفيات تشمل الظواهر النفسية والجسمية معا.
27
والمهم في الأمر أن الأعراض هي ما يطرأ على الجواهر كالألوان والطعوم والروائح والعلوم والقدر والإرادات الحادثة وأضدادها والحياة والموت، وهي متعاقبة متضادة، وبالتالي معدومة، والعدم نقيض القدم، إذن الأعراض حادثة وأجرام العالم جواهر لا تخلو من الأعراض، وما لا يخلو من الحادث حادث؛ أي له أول وبداية، إذن فالعالم حادث لا صانع موصوف بالاقتدار والاختيار، خالق لجميع الحوادث، مريد لما خلق، قاصد إلى إبداع ما اخترع.
28
وإمعانا في إثبات هذا جعلوا المكان أيضا جواهر/ذرات/نقاط منفصلة. والزمان مجموع جواهر ذرات/آنات منفصلة بين كل اثنين فراغ، لا ديمومة ولا اتصال. الحركة أيضا مقسمة كالمكان والزمان إلى أجزاء لا امتداد لها، يفصل بين كل جزء وجزء أو كل حركة وحركة سكون إذا قصرت فترة السكون كانت الحركة سريعة، وإذا طالت كانت بطيئة. هكذا يتبدى الوجود منفصلا مفتتا متغيرا دائما.
وعلى الرغم من أنني أحاول قدر الإمكان رسم صورة عامة للطبيعيات الكلامية تتماهى فيها الخلافات الجزئية، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى إبراهيم بن سيار النظام الذي عاصر أزهى عصور المعتزلة، وساهم في تأسيس علم الكلام؛ إذ خالف جمهور المتكلمين ورفض مذهب الجوهر الفرد وتناهي التجزئة، وكان الوحيد القائل باللاتناهي، وأيضا الوحيد الذي نفى السكون ورأى الأجسام كلها في حركة دائمة؛ لأن الحركة هي العرض الوحيد الباقي في الكون بعد رفض الجواهر، إما حركة اعتماد وإما حركة نقلة، وما يبدو سكونا هو حركة في مكان واحد، وقال بنظرية الكمون والطفرة؛ الكمون يعني أن الله خالق العالم دفعة واحدة لا متقدم ولا متأخر، أكمن المخلوقات في بعضها، يتوالى صدورها في وقتها، أما الطفرة فهي الانتقال من مكان إلى آخر دون المكان المتوسط بينهما، وهي لتبرير قطع المتناهي للامتناهي. والمتكلمون بدورهم - المعتزلة قبل الأشاعرة - رفضوا نظرية النظام؛ لأنها تمس من حدوث العالم، ورأوا قوله بلاتناهي العالم، الذي رفضه حتى الفلاسفة، مروقا غير مقبول ومخالفا للقرآن، بل شركا؛ لأن الله هو اللامتناهي الوحيد.
ومع هذا أخذ بعض أصحاب الجوهر الفرد من النظام فكرة الطفرة لتفسير الحركة - معقله الأثير - فقالوا إن الحركة طفرة من نقطة لأخرى، والزمان طفرة من آن إلى آن في الفراغ أو الخلاء الذي تتحرك فيه الذرات أو الجواهر الفردة. •••
هكذا تكتمل نظرية الوجود المنفصل المتغير دائما، كمقدمة لهدم العالم عن طريق تقنيته، «حتى تتدخل الإرادة الإلهية المشخصة من خارج، وكأن غرضها: فرق تسد.»
29
وتأكدت انفصالية العالم بنفي بقاء العرض زمانين أو آنين، إنه يخلق في كل لحظة، مما يجعل الخلق مستمرا، فيحقق الله بتدخله المباشر اتصال هذا العالم. التدخل عمودي وليس أفقيا، الله خالق العالم، مبدع لجميعه، يبقى فعالا فيه دائما، فلا تعود الطبيعة مجالا للفعل الإنساني؛ لأنه: «ليس للقدرة الحادثة أي تأثير في إيجاد أي شيء.»
30
هكذا يظهر تصور الطبيعة القدرة الإلهية، وكأن إثباتها لن يتأتى إلا على حساب العالم والعلم وليس لحسابهما! وقد كان المتكلمون من أجل هذا على استعداد دائم للتضحية بالطبيعة، فهم - مثلا - يرفضون النظرية الضوئية في الإدراك البصري حرصا على تفسير صفات السمع والبصر في الله بلا حاسة أو شعاع أو شيء، وهذا الاستعداد للتضحية بالطبيعة وضع تعقلها في موضع هامشي، مما فتح الباب لتقلص الفكر الموضوعي، فينفسح المجال للإيمان بالمعجزات وخوارق الأولياء وكراماتهم في تسخير وهمي للطبيعة، يعني في حقيقة الأمر انفلاتها من بين يدي العقل الإسلامي، من حيث يعني تلاشي العقل ذاته.
هذه التضحية بالطبيعة وتهميشها ساعد عليها أن تواضع الوسائل التجريبية والحصائل الهزيلة للعلوم الطبيعية في عصرهم البعيد لم يكن ليشحذ عزما للزود عنها، ولكن الآن بعد أن تبدلت العصور وتخلقت أطر معرفية جديدة، لا تنقصنا الذرائع للاعتراض على طريقهم والقطيعة المعرفية معهم وتأكيد احترام الطبيعة وضرورة إدراك قوانينها وتسخيرها لإرادة الإنسان ومن أجل صالحه، فلم يعد هذا في عصرنا شرط التقدم فحسب، بل شرط البقاء. •••
في مقابل ولع النظام بالحركة يقول زميله في الاعتزال معمر بن عباد السلمي إن الأجسام متحركة في اللغة ساكنة في الحقيقة. السكون هو الكون لا غير ذلك، وأن تكون الحركة في اللغة فقط فهذا بعد من أبعاد «المذهب الأسمى»، الذي انتشر في علم الكلام خصوصا بين معتزلة بغداد وأتباع معمر القائلين بمذهب المعاني، بمعنى أن الكليات مجرد أسماء أو معان في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان.
والحق أن نفي بقاء الأعراض يؤدي إلى نفي الكلي. في الخارج أو في الأعيان لا يوجد إلا الجزئي، يقول ابن حزم الأندلسي: «إنما جعلت الأسماء عبارات وتمييزا بين المعاني والأشياء والمطلوبات، ولا فائدة في الاسم أكثر من هذا.»
31
إنه نفي الكليات والإقرار بأنطولوجية الجزئي فقط، ولئن كان قد عاد إلى الظهور بقوة في الفلسفة المعاصرة خصوصا مع الوضعية المنطقية، وفي المنطق الرياضي الحديث، فإنه مع المتكلمين أدى إلى نتائج وبيلة هي نفي المعقوليات، فليس للجوهر امتداد ولا كمية ولا عدد، كلها اعتبارات ذهنية أو ذاتية لا موضوعية تبتدعها المخيلة ويفترضها الفكر، وأول ما أنكروه من الكليات والمعقولات هو المقدار؛ لأن الجسم مكون من أجزاء لا تتجزأ فلا تكميم ولا قياس، وتلك من الضربات القاتلة للطبيعيات الكلامية.
لقد كان نفي المعقولات والكليات من الخطورة بحيث شق خندقا بين الطبيعيات وبين المعرفة أدى إلى الانفصال البائن بينها وبين المشكلة الإبستمولوجية، لتبقى أنطولوجية أولا وأخيرا، والأنطولوجيا الكلامية لم تكن إلا ثيولوجية. (2) الحدوث في محنة المعتزلة وكارثة الأشاعرة
كان هذا هو الطريق الذي سار فيه الأشاعرة إلى آخر المدى، أو بالأحرى إلى قاع الهاوية، إلى نظرة تدميرية للعالم، تسرف في تأكيد عجز الذات العارفة مقابل تأكيد القدرة الإلهية التي تجري وفقها الأحداث في كل لحظة.
الأحداث كلها مع الأشاعرة مستندة إلى الله ابتداء بلا وجوب، فلا قوانين ولا طبائع ولا حتمية ولا نظام في الطبيعية، وكما هو معروف، نفوا أي ترابط سببي علي بين الأحداث؛ لأنهم رأوا العلية كقوة محدثة شركا؛ إذ تعطل عمل الخالق، فضلا عن خطرها على فكرة المعجزة. وللتخفيف من وقع المصادفة التي ما كان العقل الطبيعي يتقبلها آنذاك وضعوا نظرية الاقتران والعادة.
فنحن نفسر الاقتران بين الأحداث على أنه تلازم علي؛ لأننا «اعتدنا» رؤيته دائما، العادة فقط هي التي تظهر الكون في امتداده، بينما هو في تغير مستمر غير قابل لتعقل الإنسان، وبهذا رفع العقل يده تماما عن عملية المعرفة بالطبيعيات.
لم يكتف الأشاعرة بإخراج الطبيعيات من الإبستمولوجيا، بل إنهم ببساطة حذفوا المشكلة الإبستمولوجية أصلا ونفوا إمكانية ومشروعية ومصداقية وجدوى المعرفة الطبيعية، إيذانا بدليل عجز العقل الإسلامي أمام الواقع والوقائع. •••
هل يبرأ المعتزلة من هذا؟ أجيب بتحفظ أقرب إلى النفي، هذا على الرغم مما يسود الفكر المعاصر في توجهاته العقلانية والتحديثية من إسراف وإفراط في تمجيد المعتزلة، حتى يذهب حسين مروة إلى أن انتكاسة الحضارة العربية برمتها بسبب محنة المعتزلة، ولولاها لكان من المفترض - بحكم ظاهرات التقدم العلمي في القرن التاسع الميلادي - أن تتجه الحركة العقلية الفلسفية بخاصة اتجاها أكثر واقعية وأكثر ارتباطا بنتائج تطور العلوم التطبيقية في ذلك العصر.
32
إن التوجه عام نحو تمجيد المعتزلة ونزعتهم العقلانية، مقابل الإدانة المطلقة للأشاعرة فيما أسماه جورج طرابيشي: «دراما المعتزلة والأشاعرة.»
33
إن هذا الإسراف لا يلتفت إلى جدلية العلاقة بين الفكر والواقع؛ فالواقع الذي بدأ في التفكك والتردي منذ العصر العباسي الثاني كان يحمل في ذاته عوامل النكوص، ربما من حيث كان يحمل عوامل سؤدد الأشعرية . لعل الأشاعرة مكرسوه، لكنهم بالتأكيد ليسوا خالقيه أو صانعيه، بل إنهم في حقيقة الأمر أيديولوجيون مرتبطون بالواقع أكثر من المعتزلة، أو هم أكثر تعبيرا عن الموقف العام للجماهير، ولا نستطيع إنكار أنهم استقطبوا الجماهير لوقوفهم موقفا وسطا فض النزاع الضارب بين غلاة النقليين ويمثلهم الحنابلة وغلاة العقليين ويمثلهم المعتزلة.
إن هي إلا صفحات قلائل وأقوم بدوري في إحقاق حق المعتزلة وتقدير مواطن تألقهم وعطائهم، ولا يمنع هذا من رفض المنطق الانفعالي والحكم الحدي بالصواب والخطأ ... الأبيض والأسود ... نعم ولا، ليكون الأشاعرة هم كل الشر يحملون وحدهم مسئولية كل تخلف، ويكون المعتزلة هم كل الخير حاملون المفاتيح الذاتية الصنع لفراديس التقدم السبع المعلقة، فلا يدانيهم الخطأ ولا الملام من بين أيديهم ولا من خلفهم، وكل ما يعوزنا مد طريقهم إلى يومنا هذا، وما سيتلوه بلا حاجة للإضافة أو الإبداع، ناهيك عن القطع المعرفي.
لقد حرصت على الانطلاق من مواطن لقائهم مع الأشاعرة، وعلى أساسها، ويكفي تلاقيهم في الجوهر الفرد الذي هو صلب الطبيعيات الكلامية، والذي كان الأداة الفعالة لتدمير الطبيعة، وسوف أعود مجددا وختاما لمواطن اللقاء تلك، ولا يمنع هذا من الإقرار قبلا بأنهم - في مقابل الأشاعرة - أضمروا اعتقادا بقوانين طبيعية تجري وفقها الأحداث، وكانوا بحق - كما بينت في بحث سابق لي - من حملة لواء الحتمية في العصور الوسطى.
34
قلة من المعتزلة كأبي بكر الأصم أنكرت وجود الأعراض، وقال معظمهم: إن الله لم يخلق إلا الجواهر، ولم يخلق الأعراض إلا بالتوليد؛ أي إنها فعل ينشأ عن الفعل المخلوق (= الجوهر). ما يحل في الجواهر من أعراض من فعل الجسم؛ لذلك فالطبيعة فاعلة بذاتها وأفعالها خاضعة لقانون شامل، لحتمية علمية، ولا ينقض هذا الإرادة الإلهية إن لم يؤكدها؛ لأن «أعراض الأجسام وطبائعها حاصلة بإيجاب خلق الله لها.»
35
ويبلغ اعتقادهم بالعلية وقانونية الطبيعة ذروته في قول بعضهم بمذهب الطبائع، وكما يقول الخياط في كتاب «الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد»:
أصحاب الطبائع هم القائلون بطبيعة ثابتة لكل شيء يصدر بمقتضاها، فلكل مطبوع جنس واحد من الأفعال؛ النار لا يكون منها إلا التسخين، والثلج لا يكون منه إلا التبريد، وإن من تكون منه الأشياء المختلفة هو المختار لأفعاله لا المطبوع عليها.
36
هكذا لم يجعل المعتزلة من قانون الطبيعة نقضا لفكرة الحرية كما فعل فلاسفة أوروبا، بل وضع المعتزلة فرقا جوهريا بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان؛ الأول حتمي آلي «إرادة حتم»، والثاني يدخل فيه عنصر التمكين والاختيار الإنساني، أو هو إرادة تفويض.
37
وفيما بعد سأوضح تفصيلا كيف كان المعتزلة فلاسفة الحرية والعقل من حيث هم أهل العدل والتوحيد.
على أن مذهب الطبائع ليس حكرا على المعتزلة، وليس شاملا لكل رجالاتهم، فقد رفضها العلاف ورفضها أيضا القاضي عبد الجبار المعتزلي، قائلا: إن تعليق الحوادث بالطبع تعليق لها بما لا يعقل. أصحاب الطبائع في الواقع هم أصحاب النزعة المادية. قال بها من المتكلمين النظام، والجاحظ، ومعمر بن عباد السلمي، وثمامة بن الأشرس، وهشام بن عبد الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، قال بها أيضا ابن رشد، ودعاة المنطق الحسي من الفقهاء، ويمكن أن نجدها بشكل ما في بعض تجليات وحدة الوجود الصوفية، التي تعود في أصولها الأولى إلى شكل ما من وحدة الوجود المادية المستندة على تجسيم الله كمذهب الكرامية أصحاب ابن كرام (ت255ه)، الذين أمعنوا في إثبات الصفات والعرش حتى ذهبوا إلى تصور جسم واحد قديم أزلي أبدي، ولا فرق فيه بين خالق ومخلوق، وتحدثوا عن حدوث العالم في ذات الله. وثمة هشام بن عبد الحكم وهو من رواد الطبائع وأيضا من رواد التجسيم في الإسلام، ذهب إلى أن الله جسم مادي، مستندا في هذا إلى ظاهر بعض الآيات القرآنية التي توحي بذلك نقليا أو سمعيا. أما عقليا فقد استند على أن الشبيه يدل على الشبيه، وما دمنا نستدل على وجود الله من الأجسام الطبيعية الحادثة فلا بد أن الله أيضا جسم.
وبديهي أن المعتزلة بنزعتهم التنزيهية الخالصة ونفي الصفات عن الذات الإلهية، قد جردوا مذهب الطبائع من هذه الترهات وبلغ على أيديهم نضجا رائعا.
وأخيرا يتقدم ابن خلدون الذي يكاد يكون أول مفكر في العالم القديم - شرقا أو غربا - يحاول مد فكرة الطبائع من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان أو بمصطلحاته عالم العمران، وكان ابن خلدون بهذا يحدث قطيعة مع التراث السابق عليه بأسره، والذي لم يتصور - بتأثير أرسطو وسواه - قوانين للتبدل أو طبائع تحكم عالم التاريخ. فعل ابن خلدون هذا على الرغم من أشعريته ومن مشاركته الأشاعرة في الهجوم على المعتزلة بغير أن يمنعه هذا من الاعتراف بفضلهم.
وبخلاف ابن خلدون، نجد الأشاعرة جميعا ينهالون بنقد عنيف على مذهب الطبائع، بالرغم من اتساقه - الذي عني المعتزلة بتبيانه، كما اتضح فيما سبق - مع الإرادة الإلهية؛ فقد اعتبروا استغناء الأحداث عن الفاعل المختار وجريانها بمقتضى الطبيعة نوعا من الشرك.
يقول الجويني الأشعري إمام الحرمين بنبرته الهادئة المتزنة: «يستحيل أن يكون مخصص العالم طبيعة كما صار إليه الطبائعيون؛ لأن تلك الطبيعة إما أن تكون قديمة أو حادثة، لو كانت قديمة لوجب قدم آثارها، وآثارها حادثة وتفتقر إلى طبيعة أخرى؛ الصانع المختار هو العلة والفاعل الأوحد.»
38 •••
وفي النهاية نجد الأشاعرة، بما آل إليهم من سطوة معرفية وسؤدد أيديولوجي، قد أزاحوا مذهب الطبائع من مسار الفكر الإسلامي، ولعله كان كفيلا بتوجيه هذا الفكر إلى ما هو أفضل مما انتهى إليه حال الطبيعيات، لكن الرفض السابق للأحكام الانفعالية الحدية والإصرار على النجاة من التطرف الذي يلهي عن تاريخانية ونسبوية كل مقولة، مهما كان نصيبها من الصواب، يجعلنا نقول: ليس صحيحا أن عودتنا إلى أصحاب الطبائع من الاعتزاليين هي كل المنشود، مما قد يغني عن قطيعة معرفية.
أجل! مذهب الطبائع يكاد - إلى حد ما - أن يرادف مبدأ الحتمية العلمية في الفلسفة الأوروبية، والذي كان الأساس الإبستمولوجي والأنطولوجي لنسق العلم الحديث والفيزياء الكلاسيكية، بل كانت الحتمية هي الأساس وأيضا العماد والإطار والهدف للعلم، حتى أمكن القول إنها بمثابة: «لحمة العلم وسداها سائر النظريات والقوانين والفروض ومجمل النشاط العلمي.»
39
ويمكن بشيء من التطويع والتخريج أن نجد مكنون مبدأ الحتمية، أو بعض عناصره الأساسية، في مذهب الطبائع؛ فقد ارتبطت الحتمية بالفلسفة المادية التي يرتد فيها العالم فقط إلى المادة وطبائعها، فضلا عن أن الحتمية العلمية هي الوجه الآخر للسببية أو العلية، ومصطلح العلية أدق وأفضل.
40
وقد كانت العلية هي نسيج العلم الكلاسيكي من حيث هو يقيني ضروري آلي اطرادي ميكانيكي ... على الإجمال حتمي، فتلخص عمل العلماء في البحث عن علل الظواهر التي هي حتمياتها، استكشافا للحتمية الشاملة التي هي هدف العلم النهائي، وكما هو معروف، لم يتنازل المعتزلة عن العلية أبدا.
ثم اقترنت الحتمية العلمية في ذروة نضجها على مشارف القرن التاسع عشر بفكرة القانون العلمي الكامن في الطبيعة، التي حلت محل فكرة القانون المفروض عليها من أعلى؛ من الله. مع القانون الكامن يغدو نظام الطبيعة منبثقا من ماهيات الأشياء وصفاتها الجوهرية، وبفهمنا لهذه الصفات ندرك ما بينها من علاقات؛ وعندئذ نعلم أن تلك العلاقات أو الروابط التي تصل الأشياء ببعضها تجري على نسق مطرد، مكونة ما نسميه بالقانون العلمي، و«الطبيعة هنا تفسر نفسها بنفسها؛ لأن قوانينها صادرة عن ماهيات الأشياء أو طبائعها.»
41
كل هذا صحيح، لكن ذلك المكنون لمبدأ الحتمية العلمية، أو بعض عناصره التي وجدناها في مذهب الطبائع، من قبيل المادية والعلية الضرورية والقانون الكامن ... هذا كان ذا موضوع في الفيزياء الكلاسيكية التي تقوض عرشها مع مطالع القرن العشرين. والآن مع ثورة النسبية والكمومية وعلوم الذرة والإشعاع التي اجتاحت هذا القرن ... مع فيزيائه اللاحتمية المعاصرة، التي علمتنا معنى القطيعة المعرفية، لم يعد هذا ذا موضوع. وتلك الفلسفة الطبيعية المادية أصبحت قرينة السذاجة بعد أن قاد لويس دي بروي
L. De Broglie (+1987) ثورة الميكانيكا الموجية والتفسير الإشعاعي للمادة، فارتدت إلى كهارب، لا إلى كتل ترتطم بالقدم في الفلسفة الطبيعية المادية. وقد انهارت دعائم العلية ولم يعد أحد من العلماء يبحث عنها الآن، إنهم يبحثون عن معاملات الترابط الإحصائي لا العلل المحتمة، عن التفسيرات لا الأسباب، أما فكرة القانون الكامن فقد تبخرت تماما واتضح أن القانون العلمي لا هو مفروض من أعلى ولا هو كامن من أسفل. القانون العلمي مجرد فرض عقلي ناجح، أبدعه عقل إنسان مقتدر، دخل نسق العلم؛ لأنه أنجح من كل ما سبقه، إذن سيتلوه ما هو أنجح ... وهكذا دواليك في متوالية التقدم العلمي الذي سيستبد بنا الطموح للحاق بها، وليس للعود إلى عصر الفيزياء الكلاسيكية، للحتمية أو الطبائع.
إن الطموح في أن تبدأ طبيعياتنا من حيث انتهى الآخر الغربي، لا سيما وأن مسار العلم الطبيعي لا يسمح بغير هذا، فلا مندوحة عن القطع المعرفي مع طبيعيات علم الكلام القديم، وإن ازدهت بفكرة الطبائع.
ونعود إلى نسبوية وتاريخانية الأفكار، لنسجل أنه كان جميلا من المعتزلة - في عصرهم - الإيمان بالعلية وحتمية الطبيعة، والأجمل أن العلم عندهم نتيجة للتوحيد بينما هو عند الأشاعرة مقدمة له، قال العلاف: إن العقل هو القدرة على اكتساب العلم. وقال الجبائي: إن العقل هو العلم نفسه. وفي كل حال كان الإيمان عندهم لا يعد حقيقا بدون العلم، بدون المعرفة؛ فاعتمدوا منطقا حسيا لدراسة الطبيعة التي آمنوا بقانونيتها، واهتدوا إلى العلاقة بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية حين قالوا باستحالة تعري الجواهر عن الأعراض، وهذه الأخيرة - أي الأعراض - موضوع المعرفة الحسية القاصرة عن إدراك الجواهر، لكنها طريق صحيح لمعرفة العالم الخارجي. والمعرفة العقلية بالجواهر تأتي بعد اجتياز المعرفة الحسية بالأعراض؛ أي إن لديهم تصورا صحيحا لعمل العقل النظري في تحويل الإدراكات الحسية إلى إدراكات عقلية، لكنهم لم يحاولوا تطبيق هذا على دراسة عالم الطبيعة أو عالم الإنسان؛ لأنهم لم يكونوا يبحثون في الطبيعة لذاتها،
42
بل للهدف الكلامي المعروف. من ثم فإن وجود تلك العناصر الواعدة لم ينف التوجه العام لطبيعياتهم، الذي يستوجب قطيعة معرفية لطريقهم ... لمجمل طبيعيات علم الكلام القديم. •••
في النهاية اتفق المعتزلة مع الأشاعرة على عدم بقاء الأعراض؛ من أجل تخصيص وصف البقاء للذات الإلهية فقط، فضلا عن أن قول المعتزلة بالتجويز أقرب بهم من لا علية الأشاعرة؛ فكانت معظم التساؤلات الكلامية حول الجواهر والأعراض، سواء اعتزالية أو أشعرية، من أجل إثبات صريح أو ضمني لقدرة مطلقة مشخصة؛ إثبات وجود الله.
يقول حنفي: «يعترف المتكلم صراحة بأنه يستخدم الطبيعة من أجل إثبات وجود الله، وليس لدراستها وتحليلها وفهمها على ما هي عليه؛ من أجل السيطرة عليها واستخدامها أو الانتفاع بها في حياته العملية. الطبيعة لديه مجرد حامل لأفعال إرادة إلهية مشخصة، وتتلخص دراسة الطبيعة في البحث عن هذه الأفعال والاستدلال بها على فاعلها الأوحد؛ فهو استخدام رأسي للطبيعة يذهب بها على ما بعد الطبيعة، وليس استخداما أفقيا للطبيعة يجعلها تاريخا حيا وعالما للإنسان يسكن فيه ويتصل مع الآخرين ويحقق رسالته. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أعلى، كما أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أسفل.»
43
يستوي في هذا المعتزلة والأشاعرة. هكذا بدأنا من الالتقاء بينهما في المنطلقات والأسس وانتهينا إلى الالتقاء في الغايات والخواتيم، لنخلص إلى أن الخلاف بينهما - أو تلك العناصر الواعدة في طبيعيات المعتزلة - لن يقدم ولن يؤخر في إنقاذ الوضع البائس للطبيعيات في حضارتنا، مما يستوجب قطعا معرفيا لا محيص عنه إن رمنا مثل هذا الإنقاذ.
ورب معترض على هذا القطع بأن الكلام لم ينته بمحنة المعتزلة ولا بكارثة الأشاعرة، بل واصل نماءه في علوم الحكمة، والحكماء جميعا أقروا بالعلية وثبوت الطبيعة والطبائع؛ فماذا عن هذا؟ (3) تمام الكلام ... في الحكمة
من منظور فلسفة العلوم في عصرنا تتبدى سلبيات علم الكلام، التي تفرضها الحدود الحضارية والقصورات المعرفية لذلك العصر البعيد، ولكن تبقى دائما إيجابيته العظمى في أنه تشكل للعقل العربي الصميم، وكان - كما أشرنا في
الفصل الأول - الفلسفة الإسلامية الخاصة، التي شقت الطريق ومهدته نحو الفلسفة الإسلامية العامة أو الحكمة.
ولئن كان كل من الكلام والفلسفة طريقا مستقلا نسبيا في سياق الحضارة الإسلامية، فإن الحدود بينهما مموهة إلى حد ما، فلم يكن علم الكلام إلا ممارسة للتفكير الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي. ومن حيث هي ممارسة متكفلة بمهمة التمثيل الأيديولوجي فقد اتخذت شكل البحث الديني في العقائد؛ لأنه الشكل الأيديولوجي المتفاعل والمثير للقضايا الفكرية والفلسفية التي شغلتهم. ثم استفاد علم الكلام من المنطق كثيرا، فكان ينمو ويتطور حتى نضج بفعل أتون التفلسف العقلاني؛ أي المنطق .
فلم تكن الفلسفة في النهاية إلا تطويرا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن استوفى نضجه، إن الفلسفة الإسلامية أو الحكمة تمثل دائرة أو مرحلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي، أصبح الفكر والواقع مهيئين لها. وكانت الفلسفة أو الحكمة أكثر اتصالا بسيرورة العقل البشري، وفي حل عن التمثيل الأيديولوجي المباشر الصريح، إن كانت بالطبع لن تتحلل من روابطها به، فتميزت من الكلام بأنها؛ أولا: انطلقت من المفاهيم والمضمون الفكري، لا من القضايا المثارة في المجتمع/النص بصورة مباشرة. ثانيا: لم تتخذ عن عقائد الدين أو من النص ذاته مسلمة أولية أو قاعدة مباشرة للبحث.
وبصدد فضل علم الكلام في وصول العقل الإسلامي إلى بر الحكمة أو دائرة الفلسفة الخالصة، يتبوأ المعتزلة المنزلة الأعلى والفضل الأعم؛ فلم يكن علم الكلام المعتزلي بالذات إلا فلسفة صريحة، بل وفلسفة ناضجة. ومن حيث هم أهل العدل والتوحيد كانوا فلاسفة الحرية والعقل معا في آن واحد، ليس فقط بسبب ما أشرت إليه من قولهم بإرادة الحتم وإرادة التفويض، فأمرهم أعمق من ذلك.
إذ كان واضحا دائما أن الحرية الإنسانية - أو الاختيار بمصطلحاتهم - هو المضمون المحوري لمفهوم العدل المعتزلي، لكن لم يتضح أن الحرية مضمون محوري للفلسفة بأسرها إلا منذ القرن السابع عشر وما تلاه؛ حين استقام نجيب العقل الأثير - أي نسق العلم الحديث - عملاقا واعدا محصنا بتلك الحتمية الإبستمولوجية الصارمة، يلقيها على الوجود بأسره أنطولوجيا لتنتفي حرية الإنسان، فكان التناقص بين العلم بحتميته والإنسان بحريته محورا دارت بين رحاه الفلسفة الأوروبية الحديثة، أصابها بما أسميته شيزوفرنيا أو انفصاما حادا بين عالمين أحدهما للحتمية العلمية والآخر للحرية الإنسانية.
فنجد العقل والمادة عند ديكارت، النومينا والفينومينا (كانط)، الإرادة والتمثل (شوبنهاور)، الأنا واللا أنا (فشته)، العقلي والواقعي (هيجل)، الفكر والوجود، الروح والطبيعة، العقل والعاطفة، النسبي والمطلق، الآلي والغائي ... بعضا من ثنائيات جمة دارت بين رحاها الفلسفة الحديثة، كلها معا تجمعها بوتقة واحدة؛ الثنائية الأم والأصل والأساس: الحتمية العلمية والحرية الإنسانية.
44
إنه خيار الفلسفة الأوروبية العسير: إما فلسفة العقل وإما فلسفة الحرية، والذي تشكلت تحت وطأته توتراتها وتطوراتها. وقد بلغت الذروة في التنويرية. وكرد فعل للتنويرية وإيمانها المفرط بالعقل والعلم، نشأت الرومانتيكية لترفع لواء الحرية، وتمخضت عن البرجسونية والوجودية، ورد الفعل على الوجودية بالبنيوية ... وليس يصعب إدراك أن الحتمية العلمية التي هي إبستمولوجية وأنطولوجية معا، كانت امتدادا ممسوخا وظلا باهتا لمفهومي العلم الإلهي الشامل (إبستمولوجيا)، والقدرة الإلهية الشاملة (أنطولوجيا)
45
في إثارتهما لمشكلة الحرية الإنسانية، لا سيما مع الكالفينية.
هذا عن العدل (= الحرية)، أما عن التوحيد (= العقل) فقد أدى مع المعتزلة إلى نفي الصفات، وبالتالي التنزيه المطلق الذي استند على مبادئ فلسفية مجردة، حتى تأتي بعض مناقشاتهم أحيانا نسقا مصمتا من المفاهيم الفلسفية، وكلها في إطار العقل والحرية، بلا شيزوفرنيا أو انفصام كشأن الفلسفة الأوروبية. فماذا ننتظر أكثر من هذا لنعدهم فلاسفة روادا وآباء شرعيين للفلسفة الإسلامية؟! بل هم أهلوها الأصلاء.
لذا يسهب ابن خلدون - على الرغم من أشعريته - في إيضاح أن المعتزلة «هم أصحاب الفضل في وضع العلاقة بين علم الكلام والفلسفة موضع الأمر الواقع التاريخي.»
46
ويذهب حسين مروة إلى أن الفكر الفلسفي عاش طور الحضانة تحت جناحيهم، ثم كان شقهم لمجرى الفلسفة الإسلامية تحت تأثير قمعهم واضطهادهم
47
الذي تكالبت عليه كل التيارات المحافظة؛ حتى غفروا للخليفة المتوكل أفعاله الشنعاء، وزعموا أن الله أيضا غفر له؛ فقط لأنه قضى على المحنة الدهماء؛ أي الاعتزال. وعمل الكثيرون على تشويه آرائهم، خصوصا أبو المظفر الأسفراييني (ت471ه/1078م) الذي أفرد صفحات كثيرة من مصنفاته لهذا الغرض، فيما أسماه التعريف بفضائح منهج أهل البدع؛ هذا فضلا عن محق نصوصهم حتى اندثر معظمها، مما حال دون التعرف على تراثهم كاملا. وتحت تأثير القمع والاضطهاد رسم المعتزلة دائرة الحكمة، أو شقوا مجرى الفلسفة؛ ليكون موازيا لمجرى عقلنة اللاهوت الذي شقه الأشاعرة وحدد مساره الغزالي. على أية حال كان المعتزلة دائما هم المؤسسون الحقيقيون والرواد المخلصون لعلم الكلام، وهم في النهاية ليسوا إلا جزءا من كل هو الكلام الذي أدى إلى الحكمة.
وخلاصة هذا أن الكلام والحكمة لا يفهم أحدهما بدون الآخر كأصل أو كامتداد، وبالتالي لا بد للمقاربة المتكاملة لأية قضية من قضايا التراث الإسلامي أن نبحث في أصولها الكلامية، أو في امتداداتها الفلسفية، ولكي يكتمل تناولنا لطبيعيات علم الكلام القديم لا بد من متابعتها في طبيعيات الفلاسفة، أو في الحكمة الطبيعة. فماذا عن هذا؟ ما الذي طرأ على الطبيعيات الكلامية حين واصلت المسير وانتقلت من دائرة الكلام إلى دائرة الحكمة؟ في الإجابة على هذا السؤل بشكل عام نجد الطبيعة ومباحثها أكثر وضوحا وتميزا عند الفلاسفة منها عند المتكلمين، فقد سلموا جميعا بأنها قسم من أقسام الحكمة الثلاثة: العقليات والطبيعيات والإلهيات، ثم تفرعت إلى فروعها عند كل منهم، أفردوا لها مصنفات أو رسائل أو فصولا، إنها أصبحت عنوانا للبحث وموضوعا محوريا للحديث.
ولئن ناقش نفر من أهل الاعتزال فكرة خلق القديم، فقد سلم المتكلمون جميعا - من أولهم لآخرهم - بأن: العالم حادث. بدأ الفلاسفة بالتسليم بهذه القضية، لكن بوصفها محل نظر ومحتاجة لبرهان «الكندي»، وتحت تأثير فلسفة الإغريق الذين عجزوا تماما عن تصور الخلق من العدم، وتأكيد أرسطو أن العالم قديم غير مخلوق، راح فلاسفة الإسلام يتلمسون سبل التعامل مع أطر قضية حدوث العالم. لجئوا إلى الفيض والصدور كبديل (الفارابي وابن سينا). ثم رفض ابن رشد هذا البديل وأسرف في تبيان أن العالم قديم ومخلوق، هذا في فلسفته الطبيعية الأنضج نسبيا من حيث إنها المركب الشامل في تلك الصيرورة الجدلية: محدثة/فيض/قديمة.
في كل هذه التوترات المتتالية ظلت الطبيعة قابعة دائما في قلب الأنطولوجيا المتجهة أولا وأخيرا نحو المتجه الإلهي ... نحو الثيولوجيا ... أي إنه لا فرق.
لكن هذا الحكم الخطير ينطوي على تقييم جريء للتراث القديم برمته، ولا يمكن إسناده إلى تصور مجمل أو إجابة بشكل عام، لا بد من تفصيلها استكمالا لصورة الطبيعيات في تراثنا القديم ... وهذا هو موضوع الفصل التالي.
الفصل الرابع
الطبيعيات ... من الكلام إلى الحكمة ... ولا فرق
(1) من الحدوث إلى الفيض والقدم
عادة ما يؤرخ لبدء الفلسفة الإسلامية بالكندي (185-252ه/801-865م) الذي خرجت على يديه من إطار علم الكلام، إنه أول مفكر إسلامي يطرح مشكلة المعرفة طرحا أوسع من الطرح الكلامي لها، وأول من أجرى تصنيفا في الفلسفة الإسلامية، حين قسم المعرفة أو الحكمة التقسيم الأرسطي نفسه للعلوم النظرية؛ أي إلى حسية موضوعها العالم المحسوس أو الطبيعيات، ثم عقلية موضوعها العلم الرياضي أو الكليات، ثم إلهية موضوعها الربوبية أو الله أو الشريعة. ظل هذا التقسيم الثلاثي - بشكل أو بآخر - دستورا دائما للفلسفة الإسلامية القديمة، اعتمده جميعهم، وكان الكندي بهذا الدستور يفتح أمام العقل آفاق المعرفة الفلسفية بمعناها الشامل، وآفاق المعرفة الطبيعية النظرية والتجريبية، فقد كانت الفلسفة/الحكمة عنده «علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان.»
1
في نظرته للطبيعيات جرى مجرى المعتزلة في نفي تأثير الله المباشر في المادة، وهذا ما سلم به الفلاسفة أجمعون، وقالوا: «إن الله تعالى لا يباشر الأفعال بذاته، بل عن طريق العلل.»
2
آمن الكندي بالعلية، وعلم الفلاسفة أن يؤمنوا بها، ربما بحكم ممارسته التجريبية للطب، ولئن سلم تسليما بأن العالم حادث ومتناه واجتهد في إثبات تناهيه؛
3
لأن الله هو اللامتناهي الأوحد، فإن الكندي تحدث عن وجود سرمدي - فقط بالقوة - للمادة والحركة والزمان، لقد شق الطريق إلى معرفة العالم لذاته.
على أن الكندي وقع في إسار عقيدة التنجيم التي هيمنت بصورة مزعجة على حكمة الإسلاميين، وبما لا يقارن بتناثر رذاذها في علم الكلام،
4
وهذا بفعل المدرسة الحرانية المشرقية من ناحية، والتراث الإغريقي من الناحية الأخرى، فتصور الكندي الأجرام السماوية على أنها حية وفاعلة في الكون، إنها أقرب إلى الألوهية منها إلى الأرض؛ فحركتها في أكمل الأشكال؛ أي الدائرة، حركة دائرية لا مستقيمة كحركة الأرض، بل رأى فيها «قوة التمييز، فهي إذن ناطقة اضطرارا.»
5
ولا أوافق حسين مروة إطلاقا في اعتبار هذا مع الكندي - أو مع إخوان الصفا - بمثابة علية شاملة؛ فهي في الواقع تضخم للإحساس الديني المشخص إلى أقصى درجة، فيكتسح نطاقا من الطبيعة يتصور الخيال أنها تلامسه، ويشخصها هي الأخرى أو يشخص جزءها ذاك. وإذا رمنا تنظيرا فلسفيا أعمق، وجدنا عقيدة التنجيم بصفة عامة امتدادا للنظرة الحيوية للطبيعة، وأنها «عالم حي وعاقل وكل كياناتها - الإنسان والحيوان، النبات والكواكب - تشاركها في العقل والحياة.»
6
وكما أشار كولنجوود (روبن جورج)، هذه النظرة سيطرت على مجمل الفكر القديم شرقا وغربا، وظلت سائدة حتى بدايات حركة العلم الحديث وتصورها الميكانيكي الآلي للطبيعة الذي ساد أيما سيادة حتى انهار مع ثورة الكمومية والنسبية والعلوم الذرية في القرن العشرين.
ليس فقط التصور الحيوي للطبيعة والنجوم، بل التصورات الإغريقية بصفة عامة لم يستغن عنها الكندي الذي عمل بالمفاهيم الأرسطية، لكن بعد أن يملأها بالمضمون الإسلامي. فالقوالب الأرسطية لم تمنع الكندي من التسليم بالمسلمة الإسلامية الصميمة؛ أي خلق العالم من العدم، أو أنه على أقصى الفروض يسبح في البرزخ المعتزلي بين فاعلة العلية وبين الخلق من العدم، وعبر منه إلى أول صياغة فلسفية لتصور إسلامي للكون الطبيعي، تتجاوز النص والكلام، وتتمثل في فئة من المفاهيم والحدود والمقولات والرسوم، انتظمت في هيكل متكامل، هو للبرهنة على الموضوعة الأساسية: خلق الله العالم من العدم، أو بتعبير الكندي: «جرم العالم محدث اضطرارا من ليس.»
7
ومن ثم، فإذا كانت الفلسفة عنده أشرف العلوم، فإن أعلاها شرفا هو الفلسفة الأولى؛ لأنها «علم الحق الأول الذي هو علة كل حق.»
8
هكذا لم يخرج الكندي عن الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية، وتصوره للطبيعة لم ينفصل البتة عن الفعل الإلهي، حتى وإن أقر بخضوعها لقانون العلية العتيد، فليست العلل إلا وسائط، و«الطبيعة» هي الشيء الذي يجعل الله منه علة أولية لكل متحرك أو ساكن، والله - الفاعل غير المنفعل البتة كمحرك أرسطو - هو العلة الأولى لجميع المعقولات، والتي هي معلولات لفعله، إما بتوسط الطبيعة أو سواها، وإما بغير توسط؛ فظلت الطبيعة موجهة نحو المتجه الإلهي، ولم يتحدث عنها الكندي إلا من أجل إثبات الله في النهاية. •••
وإذا غادرنا البدايات الكندية، وجدنا التراث الإغريقي وقد انتظم رافدا دافقا في نهر الحضارة الإسلامية، وأصبح ذا فاعلية أقوى، والفلسفة وقد اكتملت أطرها مع أبي نصر الفارابي (259-339ه/872-980م) وذات بناء أكمل، فعد لهذا المعلم الثاني، على الرغم من أنه «مقل في التأليف وقصير النفس فيه.»
9
وكان أكثر اهتماما بالإنسان والأخلاق والسياسة والموسيقى منه بالطبيعة.
لكن كان من المنطقي أن تتكامل الأطر مع الفارابي؛ لأنه آمن إيمانا جارفا بوحدة الحقيقة، إنه المركز الإسلامي الصميم: عقيدة التوحيد، يتكشف في شكل هم الفارابي بوحدة الحقيقة.
الوحي ذاته ليس غيبا مستورا، بل ناشئا عن المخيلة القوية للأنبياء القادرة على هذا الإدراك المتفرد للحقيقة. شغف الفارابي بوحدة الحقيقة وضعه على المفترق القلق بين دهرية الإغريق وبين الألوهية في الوحي الإسلامي، ووجد طوق النجاة أو المركب الجدلي من هاتين المتناقضتين في: نظرية الفيض الأفلوطينية، وهي تقوم على الأقانيم الثلاثة: المطلق - العقل - النفس الكلية، وفيض أو صدور الأقنوم عن سابقه.
النبع النوراني الأصيل الثابت للوجود هو المطلق، أو الأول أو الواحد أو الخير، وبالفيض يصدر عنه العقل، ثم تفيض عنه النفس الكلية
10
ها هنا كما رأى الإغريق: العالم لم يخلق من العدم، لكن الله علة وجوده كما ينص الوحي الإسلامي.
المطلق/الواحد عند أفلوطين هو الله/العلة الأولى عند الفارابي الذي مارس دوره في استغلاله للقوالب الأرسطية، فوضع للطبيعة تحديدا شبه أرسطي ذاهبا أنها مصدر الحركة والسكون دون قوة خارجية أو مريدة، ولكن في تصنيفه أو إحصائه للعلوم يجعل العلم الطبيعي مع العلم الإلهي علما واحدا، فلا تعود الطبيعيات إلهيات مقلوبة فحسب، بل إنها هي ذاتها إلهيات.
على أن دور الفارابي الفعال في مسار الطبيعيات الإسلامية يتلخص في أنه أول من ناقش «حدوث العالم» ورفضه، فوضع - بديلا - نظرية الفيض في سياق التطور التاريخي للفلسفة الإسلامية، بعد استعارة هذه النظرية كشكل وملئها بالمضمون الإسلامي. •••
فتحت نظرية - أو قالب - الفيض آفاقا فلسفية جديدة لمعالجة المشكلة المحورية الموجهة لمبحث الطبيعيات الإسلامية؛ أي مشكلة العلاقة بين الله والعالم المادي. وحددت المسار الفلسفي لهذه المشكلة حتى أبعد امتداداتها، فيمكن اعتبار الحلول ووحدة الوجود الصوفية، التي هي أهم إسهاماتهم الأنطولوجية امتدادا ما لنظرية الفيض.
أما حكمة الإشراق مع السهروردي المقتول - حيث تفيض الأنوار عن النور الأول - فمجرد شكل آخر لها . موقف الصوفية من الطبيعيات أعمق وأكثر دهاء مما يتبدى للوهلة الأولى، فقد جاهر السهروردي - الذي تربطه صلات فكرية بابن سينا - بأزلية العالم والحركة والزمان، وليس من الضروري أن نتبع سنن المشروع الغربي باعا بباع وذراعا بذراع، فنعتبر الفلسفة الإشراقية - كما اعتبر نفر من مفكرينا - كارثة وانحرافا؛ لأنها تناقض مسار الفكر الطبيعي في الغرب.
المهم أن المتفلسفين جميعا - حتى المتصوفة منهم - اهتموا بنظرية الفيض، وساعد خطأ نسبة كتاب ثيولوجيا أفلوطين إلى أرسطو على انتشارها بسبب المكانة التي تمتع بها أرسطو بوصفه المعلم الأول.
رفض المتكلمون نظرية الفيض؛ لأنها في أصلها شكل من أشكال أزلية وأبدية العالم، ونفي الحدوث والخلق من العدم، وتنفي الشروط التي تجعل من العالم فعلا لله، وهي الإرادة والاختيار والروية والقدرة على الفعل والترك. ورأوا أن ما يحدث بالفيض ليس خلقا، بل فقط خروجا إلى حيز الوجود، شبيها بالكمون الذي قال به زميلهم النظام. العالم يوجد ها هنا اضطرارا بالطبع بينما أوجد الله العالم اختيارا بمشيئة وتقدير مسبق لزمان محدد.
إذن، فالفيض من العلامات الفاصلة بين الكلام والحكمة، من حيث إن التساؤل عن حدوث العالم وقدمه هكذا. ولكن هل أدى هذا إلى فرق؟ لنر كيف سار الأمر. •••
تستوقفنا هذه الظاهرة العذبة المعروفة باسم «جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ظاهرة في تاريخ الفلسفة الإسلامية بجملتها وليس التشيع فحسب؛ فهم موسوعيون أكثر منهم إسماعيليون باطنيون، وبنزعتهم الطبيعية يذكروننا بالموسوعيين الفرنسيين في العصر الحديث، وإن كانت موسوعية إخوان الصفاء مشبعة بعبق الشرق ودفئه الحميم.
لقد ساروا في الطريق الذي أفسحه الكندي للنظر إلى العالم في ذاته، آخذين بنظرية الفيض التي أرساها الفارابي ... لكن ظلوا مبقين على المسلمة الكلامية بأن العالم محدث مصنوع، وأفردوا فصلا في «بيان مقدمات عقلية تدل على هذا»، وفصلا آخر في «بيان الضرر لمن يعتقد أن العالم قديم».
11
وبخلاف هذا لا تكشف رسائلهم التي عرفت لأول مرة عام 334ه عن اتجاه فلسفي محدد، بقدر ما هي محاولة سردية، بل وتلفيقية للم أشتات خطوط المعارف وتوجهات الفكر الإسلامي، وعرضها في قالب ممتع بأسلوب سلس جذاب وسهل في متناول القارئ العادي، وكما أشار دي بور، التضارب والتفكك والنزوع إلى الشمولية في بحوثهم أو رسائلهم جعلها أقرب شبها بدائرة معارف جمعت كل عناصر الثقافة الإسلامية آنذاك.
ولما كنا الآن معنيين بالتوجه العام للفلسفة الإسلامية، ليس بمذهب بعينه، وجدنا رسائلهم كاشفة عن هذا التوجه أكثر من سواها، ومستحقة لتناول مفصل أكثر نسبيا، لا سيما وأنها أتت في أوج مد الحضارة الإسلامية - القرن الرابع الهجري.
هذا فضلا عن أن إخوان الصفاء اهتموا كثيرا بالطبيعيات، حتى يمكن القول إنها الركيزة والإطار العام لمنطلقهم. لقد أفردوا لها المجلد الثاني من رسائلهم ومواضع أخرى، حيث استقصوها من جميع عناصرها: الفلك والظواهر الجوية والمناخ والتضاريس والبحار والجبال والبراري وصنوف المعادن وأجناس النبات وتكوين الحيوانات ... إلخ.
والحق أنه استقصاء يكشف عن نزعة علمية، أو على الأقل طبيعانية، وجهد ما لتحجيم الخرافات والتفسيرات الأسطورية، لكن فقط في حدود ما تسمح به آفاق المعرفة الطبيعية في ذلك العصر، فثمة إسرافهم المضجر في التنجيم وتحديد النجوم لمصائر البشر، ورد النزعات والملكات الإنسانية إلى الكواكب،
12
التي تساهم في تشكيل الجنين حيث تفيض عليه قوى الأشخاص الفلكية في تدرج هابط على مدى شهور الحمل التسعة،
13
وسوف نرى أن التنجيم يسهم هو الآخر بخطاه العرجاء في توجيه الطبيعيات نحو المتجه الإلهي.
ولنبدأ من البداية، من نظرية العلم، لنجد العلوم عندهم ثلاثة أنواع: الرياضية والشرعية والفلسفية. العلوم الرياضية - في استعمال غريب للمصطلح - هي كل العلوم المطلوبة للدنيا؛ كعلوم اللغة والنحو والشعر والعروض والحساب والمعاملات، وأيضا التنجيم والسحر والسيمياء، والحيل والميكانيكا والحرف والصنائع والزراعة والنسل ... إلخ. أما العلوم الفلسفية فهي الرياضيات؛ أي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات.
14
الطبيعيات هي علم المبادئ الجسمانية: الهيولي والصورة والزمان والمكان والسماء والعالم والكون والفساد وحوادث الجو وعلم المعادن وعالم النبات.
15
والحق أن تفسيرهم للعالم استند على المباحث الطبيعية والتجريبية أكثر مما استند على المعارف اللاهوتية . لقد اعترفوا بالوجود المادي للعالم الطبيعي وجودا منفصلا عن وجود الله وموضوعا للمعرفة، يختلف عن موضوع المعرفة الإلهية، وحرصوا على ذكر الصنائع مقترنة دائما بذكر العلوم الطبيعية، «الصنائع العملية بعد العلمية في الجواهر الجسمانية.»
16
والرسالة الثامنة من رسائلهم في أن «كل صناعة تحتاج إلى الفكر والتعقل»، وتدور بأسرها حول الصنائع العملية والغرض منها.
وبديهي أن الصنائع العملية منصبة على جواهر جسمانية. والجواهر الجسمانية منفعلة، كلها تدرك بطريق الحواس، بينما الجواهر الروحانية فاعلة كلها لا تعرف إلا بالعقل؛ لذا سلموا بالقيمة الأولية للمبادئ الحسية أو المعرفية التجريبية والاستقرائية، فإذا كانت «أوائل العقول» تناظر ما نسميه الآن «الحس المشترك»، فهي ما يعلمه كل العقلاء ولا يختلفون فيه، فإنها «تحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئا بعد شيء.»
17
و«اعلم يا أخي، أن نسبة المعلومات التي يدركها الإنسان بالحواس الخمس، بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول، كثيرة كنسبة الحروف المعجمة، بالإضافة إلى ما يتركب عنها من الأسماء.»
18
هكذا سلموا بالقيمة الأولية للمبادئ الحسية، وإن كانت المبادئ العقلية أسمى منها، فعلى أساس الدستور الإسلامي الثلاثي ينتقل العلم عندهم من الحواس إلى المعرفة العقلية إلى البرهان.
وكانت نظرية الفيض هي سبيلهم لتوجيه كل هذا - بما يحمله من رصيد طبيعي ضخم - نحو المتجه الإلهي، فالباري «علة الموجودات ومبدعها ومبقيها، أول فيض فاض من الوجود ثم البقاء ثم التمام.»
19
وعلى الرغم من الطابع السردي السطحي لرسائلهم، كان لهم تعاملهم المبدع مع نظرية الفيض؛ إذ مزجوها بالفيثاغورية ليخرجوا بمضمون إسلامي قشيب، يدثرون به هذا الوجود ليدور وإياهم في الدائرة الثيولوجية، ولنقتبس منهم هذا النص الشامل:
قال اليوناني: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد (هل قال اليوناني هذا؟!) الذي كان قبل الهيولي ذات الصورة والأبعاد، كالواحد قبل الأعداد والأزواج والأفراد، والتعالي عن الأنداد والأضداد، والحمد لله الذي تفضل وتكرم وأفاض من جوده العقل الفعال، ذا العلوم والأسرار، وهو نور الأنوار وعنصر الأرواح، والحمد لله الذي أنتج من نوره العقل والبحث عن جوهر النفس الكلية الفلكية ذات الحركات، وعين الحياة والبركات.
والحمد لله الذي أظهر من قوة النفس عنصر الأكوان ذات الهيولي والكيان، والحمد لله خالق الأجسام ذوات المقادير والأبعاد والأماكن والأزمان، والحمد لله مركب الأفلاك والكواكب والسيارات، الموكل بدورانها النفوس والأرواح ذات الصور والأشباح، ذوي النطق والفكر والحركات الدورية، وجعلها مصابيح الدجى، ومشرق الأنوار في الآفاق والأقطار، والحمد لله مركب الأركان ذوات الكيان، وجعلها مسكنا للنبات والحيوان والإنس والجان. وأخرج النبات، وجعل ذلك مادة للأبدان وغذاء للحيوان وهو المخرج من قعار البحار وصم الجبال، الجواهر المعدنية الكثيفة ذوات المنافع.
20
هكذا ببساطة يكتمل تصور الوجود الطبيعي في إطار أو شكل نظرية الفيض اليونانية التي امتلأت بالمضمون الإسلامي، على أن نظرية الفيض اكتست معهم أيضا بأردية فيثاغورية، فهم يقولون «برأي فيثاغورس الحكيم»: «إن طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد، فمن عرف العدد وأحكامه، وطبيعته وأجناسه وأنواعه وخواصه، أن يعرف كمية أجناس الموجودات وأنواعها وما الحكمة في كمياتها على ما هي عليه الآن.»
21
فجعلوا العدد أساس فلسفتهم. ونسبة الباري إلى الكون كنسبة العدد واحد إلى الأرقام والعقل 2، والنفس 3، الهيولي 4، الطبيعة 5، الجسم 6، الأفلاك 7، الأركان 8، المولدات 9.
الفيض ليس في ثلاث درجات كما رأى أفلوطين، بل هو في تسع، ليس بسبب تاسوعاته، إنما لأن الرقم 9 آخر مرتبة الأرقام الآحاد، وكذلك المولدات آخر مرتبة وجود الكليات، ثم نجد المعادن في مرتبة العشرات والنبات كالمئين والحيوان كالآلاف فتكتمل دائرة الأرقام المعروفة آنذاك، وتكتمل دائرة الوجود الأنطولوجي المتجه نحو الثيولوجيا.
ويمكن ملاحظة هذا التسلسل لدرجات الفيض التسع في النص المقتبس، ونتوقف عند الرقم 3، النفس الكلية الفلكية، فهي الطريق الذي تسلكه الطبيعيات لتتجه، بل لتنصب توا في الإلهيات، مستعينين بتراثهم الزاخر في التنجيم، وها هنا مناط إبداعهم، وكان توجيه الطبيعيات إلى الإلهيات همهم الأول وشغلهم الشاغل؛ فكيف كان ذلك؟
يجعل التنجيم دوران الأفلاك محددا لكل شيء في عالم البشر وعالم الطبيعة على السواء، حتى إنه العلة الصورية التي تجعل من العلة الهيولانية (الزئبق والكبريت) جواهر المعادن. ودوران الفلك يدوم ما دامت النفس الكلية مربوطة معه، إذا فارقته توقف دوران الأفلاك وقامت القيامة.
22
الطبيعة أو الطبائع ليست إلا قوة النفس الكلية الفلكية ، وهي قوة روحانية فاضت من العقل فيضا سرورا متصلا، بتأييد أبدي ودائم من الباري، وهي قوة سارية في جميع الأفلاك التي دون فلك القمر. باق أن نعلم أن «الباعث للنفس الكلية إلى إدارة الفلك وتسيير الكواكب هو الاشتياق منها إلى إظهار تلك المحاسن والفضائل والملاذ والسرور التي في عالم الأرواح، التي تقصر ألسن الوصف عنها إلا مختصرا كما قال تعالى:
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ».
23
هذا من الناحية الأنطولوجية التي هي الجوهر والأساس والآية.
ومن الناحية الإبستمولوجية أيضا العلماء نفوس جزئية خادمة للنفس الكلية. الفلاسفة أطباء النفوس، غرضهم نجاة النفوس الغريقة في الهيولي وإخراجهم من هاوية الكون والفساد، وإيصالها الجنة عالم الأفلاك وسعة السماوات بتذكيرها ما قد نسيت من أمر معادها.
هكذا كان توجيه الطبيعيات نحو الإلهيات المهمة المنوطة بالفيض والنفس الكلية الفلكية، وهما صلب نظرية الوجود لتساهم معهما مجامع علم التنجيم. إن التوجيه اللاهوتي يكاد يكشف عن نفسه في كل سطر وأحيانا كثيرة يأتي بصورة ساذجة، كأن تكون الظواهر الفلكية بشارات أو نذر ليرتدع العصاة، فضلا عما يستنطقون به الدواب والطير والهوام، واسترسالهم في هذا وكأنهم يكتبون للأطفال، ولا يفوتهم أبدا لي عنق كل مبحث طبيعي في نهايته ليصب لا في المتجه الإلهي فحسب، بل في متجه وعظي إرشادي سطحي، حتى إن رسائلهم في الطبيعيات تكاد تذكرنا ببرامج العلم والإيمان في الإذاعة المرئية الآن.
ثم إنهم - كفلاسفة - بوجه عام يفسرون الطبيعيات في إطار العلل الأرسطية الأربع: الهيولي والصورة والفاعل والغاية. والفاعل هو العلة الأولى ونقطة البدء، أما العلة الغائية فهي السهم المنطلق توا إلى الإلهيات، فتدور الطبيعيات من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس في الدائرة المغلقة، التي لم يفتح الانتقال من الكلام إلى الحكمة طريقا للخروج منها ... فلا فرق. •••
ثم يأتينا الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا (370-428ه/980-1037م) بفلسفة طبيعية أنضج نسبيا في تسخيرها لنظرية الفيض، لم تبرأ من تهاويم التنجيم المهيمنة، لكن تخلو من تلك الملامح الطفولية، وتخلو أيضا من الإبداع أو إضافة ذات بال عما قاله المعلم الثاني الفارابي. ينقل ابن سينا عن الفارابي ترتيب الموجودات في فيضها عن الله نقلا حرفيا.
هاجم بضراوة طبيعيات المتكلمين، وقال: إن العالم - كما علمنا أرسطو - مكون من مادة وصورة لا من جواهر فردة، ومثلما رفض أرسطو ذرية ديمقريطس، رفض ابن سينا نظرية الجوهر الفرد ونقدها نقدا عسيرا،
24
خصوصا من زاوية التناهي واللاتناهي، وحاول تفنيد اللاتناهي في كل تطبيقاته.
25
وبالمثل نقد الكمون والطفرة عند النظام، وقد فصل الدكتور عاطف العراقي هذا النقد.
26
لقد سار ابن سينا سيرة الكندي والفارابي - وتقريبا كل حكماء الإسلام - في أطر القوالب الأرسطية، وكأنها هيكل الوجود والمعرفة على السواء. رأى ابن سينا العالم قديما ومخلوقا، العالم قديم بالزمان لكنه مخلوق بالذات؛
27
لأنه ممكن الوجود، وبالتالي يحتاج في وجوده إلى واجب الوجود ... إلى الله، وفي النهاية لم يكن أكثر ولا أقل من قرنائه في توجيه الطبيعيات متجها إلهيا؛ حتى إن فلسفته الطبيعية تكاد تكون موزعة بالعدل والقسطاس بين كتاباته في الطبيعيات وكتاباته في الإلهيات، تماما مثلما اختلطت مباحث الفيزيقا بالميتافيزيقا في كتابات أرسطو؛ فليست الفلسفة الإشراقية هي وحدها الملومة؛ لأنها هي التي نبتت من تراب الشرق، إذ يبدو أرسطو ملوما كعلة لتلك الجنوحات التي لا بد وأن يرفضها منظور فلسفة العلوم.
ولأن ابن سينا انتظم في سمت التفلسف، شيخا للحكماء ورئيسا للفلاسفة؛ أي كان فيلسوفا بالمعنى الأتم، فإن نظرية العلم عنده هي الكاشفة عما يبحث عنه في فلسفته. وقد قسم العلوم نفس التقسيم الأرسطي لها إلى عملية ونظرية؛ العلوم العملية هي التي نعمل بها، وتنقسم إلى ثلاثة: مدنية ومنزلية وخلقية، أو سياسية واقتصادية وسلوكية؛ أما العلوم النظرية فهي المتعلقة بأمور لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها، وهي الطبيعيات والرياضيات والإلهيات.
28
موضوع الطبيعيات أو الحكمة الطبيعية في الحركة والتغير؛ أي الأشياء الواقعة تحت الحواس - الكون الفيزيقي - وتماما كما قال أرسطو وتبعه الكندي والفارابي الأقسام الأصلية للحكمة الطبيعية ثمانية هي: (1)
المبادئ العامة كالمادة والصورة، وإثباتها للمحرك الأول. (2)
الأركان؛ أي السماوات المرادفة للعالم؛ لأنها تحوي الأشياء الطبيعية كلها، والعناصر الأربعة . (3)
الكون والفساد والتوليد والنشوء والبلى والاستحالة ولطيف الصنع الإلهي في ربط السماوات بالأرضيات. (4)
أحوال العناصر الأربعة قبل الامتزاج لما يعرض لها من أنواع الحركات والتخلخل والتكاثف، بتأثير السماوات فيها، فنتكلم بالعلامات والشهب والأمطار والرعد والرياح والزلازل والبحار. (5)
المعادن. (6)
النبات. (7)
الحيوان. (8)
النفس والقوى المدركة في الحيوانات خصوصا الإنسان، وتبيان أن النفس الإنسانية لا تموت بموت البدن، وأنها جوهر روحاني إلهي.
29
هكذا، في تلك الأقسام الأصلية للحكمة الطبيعية لم يلق ابن سينا أدنى صعوبة في توجيه التقسيم الأرسطي نحو المتجه الإلهي. إن القسم الأول يتعلق بالمحرك الأول، والثامن الأخير يتعلق بالجوهر الروحاني الإلهي، لتدور الطبيعيات في الدائرة الثيولوجية المغلقة.
أما الأقسام الفرعية للحكمة الطبيعية فلن تغير شيئا، لا من النظرة الأنطولوجية ولا من النظرة الإبستمولوجية، فهي الطب وأحكام النجوم والفراسة وعلم التعبير والاستدلال على الغيب، والطلسمات والنيرنجيات والسيمياء لتحويل المعادن إلى ذهب وفضة.
وحين ننتقل إلى الرياضيات نجد أقسامها الأصلية هي العدد والهندسة والفلك والموسيقى، لكل منها فروعه في الأقسام الفرعية للرياضيات. أما أقسام العلوم الإلهية، فإنها الإعلان الصريح والبيان الفصيح عن المتجه الإلهي للطبيعيات والدائرة الثيولوجية المغلقة.
فكما يجاهر ابن سينا، ليس العلم الإلهي إلا العلم الباحث عن أمر الوجود المطلق ولواحقه؛ لأن الله مبدأ الوجود ومبدأ المعلول على الإطلاق، وينتهي العلم الإلهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، فيكون في هذا العلم (= الإلهي) مبادئ سائر العلوم الجزئية (= الطبيعيات).
30
فنجد الأقسام الأصلية للعلم الإلهي كالآتي: (1)
المعاني العامة لجميع الموجودات من الهوية والوحدة والكثرة والوفاق والخلاف والتضاد والقوة والفعل والعلة والمعلول. (2)
النظر في الأصول والمبادئ مثل علم الطبيعيين والرياضيين وعلم المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة فيهما.
ويندهش الدارس هل هذان القسمان من الإلهيات أم من الطبيعيات؟ وهما على أية حال، يفضيان إلى القسمين الثالث والرابع اللذين يوضحان لماذا كان القسمان الأولان، ولماذا كانت الطبيعيات أصلا. القسمان التاليان هما: (3)
إثبات الحق الأول وتوحيده والدلالة على تفرده وربوبيته، وأنه واجب الوجود بذاته ... إلخ. (4)
إثبات الجواهر الأولى الروحانية التي هي أعز مبدعاته وأقرب مخلوقاته (الملائكة). ثم: (5)
تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية، وارتباط الأرضيات بالسماوات وبيان أن الكل مبدع لا فطور (هكذا: فطور) فيه، وأن مجراه على مقتضى الخير، وأن الشر ليس محضا، بل لحكمة.
31
هكذا يحكم القسم الخامس والأخير إغلاق الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية تماما، أما الأقسام الفرعية للعلوم الإلهية فهي من قبيل نزول الوحي ومعجزاته المخالفة للطبيعية ومآل الأتقياء الأبرار وكراماتهم، ثم علم المعادن ... إلخ.
إن الإلهيات الفرعية هي الجزئيات التي ابتعدت خطوة عن الطبيعة، مثلما كانت الطبيعيات الفرعية هي الجزئيات التي ابتعدت خطوة عن الإلهيات، لكنها لن تنفصل عن الأقسام الأصلية ليدور الكل - الأصلي والفرعي جميعا - في الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية المغلقة حول المركز/الوحي.
وقبل أن نغادر ابن سينا، والفلسفة المشرقية إجمالا، نلفت الأنظار إلى أننا عينا المتجه الإلهي لفلسفته فقط بتقرير من قلب منطلقاته الأرسطية، ولا ينقصنا المزيد والمدد من منطلقاته أو مراسيه الإشراقية والغنوصية، هذا لنؤكد ما أشرنا إليه أكثر من مرة من أنه لا داعي لاتباع السنن الغربية باعا بباع وذراعا بذراع، لنفرط في إدانة الفلسفة الإشراقية، وكل ما يخرج من التراث الغربي القديم الذي يتربع أرسطو على قمته. (2) من المشرق للمغرب ... ولا فرق
يبقى من أساطين الفلسفة الإسلامية وأركانها العمد أبو الوليد بن رشد (526-595ه/1126-1198م)، لا سيما وأن به تكتمل المعالجة السابقة لفلسفة المشرق بتتبعها في المغرب، وسوف يتقدم قاضي قرطبة المبجل وطبيبها الفقيه على قرنائه من منظور الطبيعيات والعلم بها الذي يستوجب العقلانية، فهو يبز الجميع في الإيمان بالعقل والزود عن سلطانه، بحيث يعد رافع لواء العقلانية في فلسفة العصور الوسطى بأسرها؛ الإسلامية والمسيحية على السواء.
وثمة شبه اتفاق على أن سوناتا الكلام وكونشيرتو الحكمة قد ارتفعا على يديه إلى سيمفونية بوليفونية، أوليست تتناغم فيها «الحقيقتان» الإلهية والفلسفية؟! وقد وضع قواعد تأويل المجاز في القرآن والفهم المقاصدي للشريعة من أجل إنجاز هارمونية هذا التناغم على أساس أن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له، إنها «وحدة الحق»، الذي ظهر مرتين؛ الأولى في كل ما قاله أرسطو والثانية مع القرآن.
الحقيقة الأولى - أي الحكمة الأرسطية - هي للخاصة، حرفها الفلاسفة. الحقيقة الثانية - أي الوحي الديني والشريعة - هي للعامة، حرفها المتكلمون والفقهاء والصوفية. وبهجومه النقدي الضاري على المتكلمين والفلاسفة على السواء، وجهاده الباسل لإنقاذ الحق بالعود مباشرة إلى الأصول الأرسطية والقرآنية، كان تأسيس مشروعه القائم على الفصل بين الحقيقتين، بين الفلسفة والدين، ورفض قياس الغائب على الشاهد - الذي رأيناه أساس الكلام وعماده - لأن عالم الغيب مطلق بينما عالم الشهادة مقيد.
ومن يجادل في أنه بهذا اضطلع بدوره البطولي في قصة العقلانية وعلى المسرح العالمي بأسره؟
ولكن لماذا لا نجادل في هذا؟ لا سيما بعدما شاع أخيرا من أنه يمثل قطيعة معرفية لفلسفة المشرق، ليبدو وكأنه خرج عن توجهها الإلهي. يغالي عابد الجابري - خصوصا - في هذا، ليجعل المغرب بأسره قطعا عن المشرق، ويبدو ابن رشد بالذات وكأنه مارس في الفلسفة الإسلامية قطيعة معرفية بالمفهوم الأتم، المطروح في
الفصل الثاني . ولم يصعب على باحث مدقق إثبات أن هذا الزعم ليس له نصيب من الصحة، ولا يستند إلا على تعسفات من الجابري، وأن نقد ابن رشد لقياس الشاهد على الغائب والتزامه بمنهج برهاني، لا يعني قطعا معرفيا مع المشرق، لا في المنهج ولا في المذهب ولا على صعيد المفاهيم والإنتاج المعرفي، وأن ابن رشد في النهاية تعامل مع الشريعة من نفس الموقع الذي تعامل به فلاسفة المشرق معها، حتى أقر طريقتهم في اعتبار ما في الشريعة على أنه مثالات لما في الفلسفة، مكررا ظاهرة التقسيم المشرقي للناس إلى عامة وخاصة، والشريعة إلى ظاهر وباطن.
32
وفضلا عن القطع، يصر الجابري إصرارا غريبا على نفي وإهدار الأصول المشرقية للفلسفة المغربية مستندا على مناقضة فلسفة المشرق البيانية ثم العرفانية
33
لفلسفة المغرب البرهانية، هذا على أساس أن فلسفة المشرق نشأت امتدادا لعلم الكلام فظلت بيانية عرفانية، أما فلسفة المغرب فنشأت امتدادا للمنطق والرياضيات فكانت برهانية، أعلى درجة .
ولست أرى في هذا شوفونية كما رأى محمود أمين العالم وعلي حرب؛ لأن علم الكلام ليس وصمة والتبرؤ منه ليس زهوا، إلا إذا كان هذا تبتلا للنموذج الأوروبي. إن الكلام فلسفة خصبة زاخرة متميزة بحضارة ومميزة لها، وأطروحة الجابري لا تنطوي على شوفونية مغربية بقدر ما تنطوي على مغالطة صريحة؛ فعلم الكلام أصل فلسفة المشرق التي هي بدورها أصل - بل مادة - فلسفة المغرب؛ أي إن الكلام الأصل الأصيل والتربة الخصيبة للفلسفة الإسلامية بأسرها، وهذه الأخيرة - أي المغربية - امتداد عادي جدا وتطور طبيعي لفلسفة المشرق، وما كانت - بداهة - لتقوم البتة بدونها.
أما المنطق والرياضيات والمناقضات لعلم الكلام المشرقي مناقضة البرهان للبيان؛ فهما محض نبتة مشرقية. صحيح أن الأندلس؛ وخصوصا قرطبة موطن ابن رشد - بعد أن خبت جذوة الإبداع في المشرق - كادت أن تنفرد فيهما بالميدان إبان القرن السادس، قرن ابن رشد، وأن تنجب أكثر من نصف مناطقة القرن ورياضييه، ولكن هذا بعد أن جلبتهما عزيمة الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه الحكم المستنصر من بغداد ودمشق والقاهرة إلى قرطبة في صناديق - أجل في صناديق كما فصلت في بحث أو بحثين سابقين لي - وكانت بغداد لا سواها هي التي قدمت ذروة العطاء العربي في الرياضيات، وعن طريق قرطبة وسواها انتقل هذا العطاء إلى حركة العلم الحديث.
34
إننا لا نخوض في تناحر بين مشرق الفلسفة الإسلامية ومغربها، بل على العكس تماما، نصر على إلغاء مزاعمه. ولا شك أن ابن رشد «جزء من خطاب عقلاني واقعي نقدي تميز به الفكر العربي الإسلامي في المغرب والأندلس على عهد الموحدين.»
35
لكن لم يعن هذا نقصا لفلسفة المشرق، فما زال التوجه الإلهي يحكم الفلسفة الإسلامية حيثما حلت في أرجاء العصر الوسيط، وسيظل الوحي مركزها حيثما ارتحلت في أي عصر وفي أي مكان. وليس يمثل ابن رشد قطيعة معرفية بالمعنى الكامل الذي - رأيناه - يستوجب الجدة والإبداع، وليس مجرد التطوير والتنقيح ... بله العود.
فقد «رفض ابن رشد ما أنجزه فلاسفة الإسلام؛ لأنه مجرد تحريف للفلسفة الحقة: الأرسطية الخالصة، فخلطوها تارة بالأفلاطونية وتارة بالشريعة في عملية تأويل وجمع مفتعلين؛ أي رفض ابن رشد القراءة الإسلامية للفلسفة الأرسطية، فقرر إنشاء خطاب خارج الخطاب الفلسفي الإسلامي المعهود.»
36
وعلى مذبح المعلم الأول لم يتردد ابن رشد في نحر كل غث وسمين رعته فلسفة المشرق، إن كان يحمل أدنى شرك بالأرسطية. فلاسفة المشرق كرسوا أرسطو لهم كيفما شاءوا، أما ابن رشد فقد تكرس له، هم استخدموه وهو خدمه؛ إنه الشارح الأكبر للفلسفة الأرسطية، خصوصا بعد أن فصلها عن الحقيقة الدينية.
في الطبيعيات كان هجوم ابن رشد المضري على الفيض؛ لأن أرسطو لم يقل به، ورفض طبيعيات المتكلمين والفلاسفة على السواء. الأولى - الكلامية - رفضها لأنها جدلية وليست برهانية أرسطية؛ والثانية - الحكمة الطبيعية - وإن كانت أرسطية، فقد رفضها لأنها ليست خالصة في هذا بما يكفي.
ثم شيد خطابه العقلاني، حتى كان محور النقد عنده كون الحجة تقصر عن «رتبة اليقين والبرهان».
37
أو أنها ليست بمفيدة نوعا من أنواع اليقين؛ أي جدلية خطابية،
38
وهذا مبرر كاف لرفضها، فهو لا يقبل بديلا عن البرهان. بدأ بنظرية في المعرفة تقوم على الارتفاع من المحسوسات إلى المعقولات، يقر بالأولى ويثق في الثانية - تماما كأرسطو - أما الوجود فزمانه أرسطي خالص أبدي أزلي، والعالم الطبيعي هكذا قديم أزلي أبدي، لكنه مخلوق أو مفعول أو مصنوع، ولا يستغني عن صانعه مثلما يستغني البيت عن البناء بعد اكتماله، بينما الفاعل الإلهي أشرف وأدخل في باب الفاعلية؛ لأنه يوجد ذلك المفعول ويحفظه باستمرار.
39
هكذا العالم في خلق مستمر - نفس المعول الكلامي لتدميره - لكنه بلا بداية ولا نهاية ولا يجوز عليه العدم؛ إذ «لا نستطيع أن نتصور الإله الكامل معطلا عن فعله، وهو إيجاد العالم.»
40
ويذكرنا هذا بقول هيجل إن الله بدون العالم لا يعود هو الله.
41
الله هو الفاعل المطلق، أما الفاعل المقيد فهو العلل، ومنها إلى المعلولات أو المفعولات، أو العالم الذي يخضع للضرورة والحتمية.
العلية شاملة صارمة، ولا بد وأن تتوقف سلسلة العلل عند علة أولى هي المحرك الأول الأرسطي أو رب الإسلام. هكذا لا يكون الله فاعلا بالطبع، بل عن طريق العلل؛ لأنه أشرف الموجودات وموهبها الوجود، فكيف يكون فاعلا مثلها ؟! الفعل الإلهي ليس مباشرا، بل يسري عن طريق العلل الطبيعية التي أودعها الله قوة التغيير، إنه سريان العلة، فهي قوة طبيعية في الأجسام. فكان ابن رشد من أصحاب الطبائع، أقر بفعل الطبع والطبيعة مستقلا عن الله، وكما هو معروف شن هجومه الضاري على الأشاعرة والغزالي لرفضهم العلية والطبائع والضرورة، فالأشياء عند ابن رشد - كما عند أرسطو - لها خصائصها الذاتية والملازمة لوجودها، والتي تفعل طبقا لها.
هذا حسن، لكن لا يحتاج الأمر لخوض أكثر لتبيان أن العقلانية عنده مطابقة للأرسطية؛ فقد كان متحمسا للعقلانية بقدر ما كان مهووسا بالأرسطية، كان إصراره المبدئي على أن أرسطو الفيلسوف المطلق ولا ينطق إلا بالحق المبين. وحكمته أقصى حد يصل إليه العقل، وبالتالي هدف العاقلين الخلوص للأرسطية ومحاربة كل المتغيرات المتوالية ... بهذا التصور للأرسطية التي تنفصل عنه بسبعمائتين من السنين يقدم لنا ابن رشد أنضج وأبلغ تعبير من غياب التاريخ ومفهوم التقدم من تراثنا وحلول القهقرى والعود إلى الوراء محله.
لقد فصل ابن رشد بين الحقيقة الإلهية والحقيقة الفلسفية، لينفرد بالأخيرة ويجعلها في واقع الأمر تشكيلا للفلسفة الأرسطية، فكان أقرب فلاسفة الإسلام لمعايير الآخر الغربي، فهل لهذا نصر على أنه أعلى من سواه؟
لقد أدنت سابقا - ودائما - الرفض الآلي لإيجابيات الحضارة الغربية، وليس أرسطو منها. فبوصفه المعلم «الأول» يؤكد تفريد الحضارة الغربية ومصادرها اليونانية، فتبدو وكأنها تملك في صلب ذاتها حيثيات بدئها المكتمل، وفيما عدا هذا لا قيمة كبيرة لأرسطو الآن. وكما أشار د. زكي نجيب محمود، الوقت الذي ينفق مع أرسطو ومنطقه ضائع سدى. وإذا كنا ننشد آفاق المستقبل ومشارف القرن الحادي والعشرين، فلا مندوحة عن الاستفادة من أروع وأنبل منجزات الحضارة الغربية: ظاهرة العلم الحديث.
ولما كانت التفاصيل معروفة، وخضت فيها في أكثر من بحث سابق لي، فتكفينا الآن الإشارة إلى أن نشأة وتخلق ونماء العلم الحديث كان على وجه الدقة هو تخلق ونشأة ونماء التحرر من الأرسطية، التي عرقلت العلم الطبيعي ألف عام أو يزيد، ولولاها لتسارعت خطاه؛ فقد كانت الأرسطية تجريدا وتمثيلا لروح الحضارة الإغريقية التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل، مثلها أرسطو بمنطقه القياسي العقيم، بعد أن أدت دورها التاريخي واستنفدت مقتضياتها وآذنت شمسها بالغروب؛ لذلك لم تساهم الأرسطية كثيرا في تقدم البشرية. وبالنسبة للعلم الطبيعي كانت عقبة كئود، دفعت برتراند رسل لتأكيد أن الله لم يبتل البشرية بالفقر ولا بالجهل ولا بالمرض، بل ابتلاها بأرسطو.
شربك أرسطو العالم الطبيعي بمنظومة جهنمية من التفانين الميتافيزيقية؛ كفريق العلل الرباعي المضاد والمتربص لمفهوم العلية العلمي، وعالم ما فوق فلك القمر وما تحته والمحركات والوسائط ... إلخ. وبقدرة قادر هيمنت على العقول، وأولها عقل ابن رشد الذي تشبث بكل تفاصيلها، حتى إن عقلانيته الشهيرة والرائعة لم تنقذه من عقيدة التنجيم ما دامت قد ترددت أصداؤها في الأرسطية. الأجرام السماوية عند ابن رشد حية شريفة متنفسة، ليس لها من قوى النفس إلا العقل والشوق إلى الحركة في المكان، لا تكون ولا تفسد ولا تتغير، بل هي سبب التغير. والحوادث في عالم الطبيعية والإنسان مادتها مباينة لمادة الأجسام المتحركة؛ فهي ليست من العناصر الأربعة، بل عنصرا خامسا هو الأثير.
42
ونعود إلى موضوعنا: المتجه الإلهي، لنجد الأرسطية مع ابن رشد تماما مثلما مع ابن سينا أيسر السبل لتوجيه الطبيعيات في المتجه الإلهي. وبصرف النظر تماما عن حكمة الإشراق السينوية نجد أن فلسفة أرسطو الطبيعية أو الفيزيقية كلها موجهة في اتجاه ميتافيزيقاه، التي يقف على قمتها المحرك الأول. وما أيسر أن نستبدل به الله الواحد الأحد الفرد الصمد، لتتجه إليه الفلسفة الطبيعية!
لكن ابن رشد أحرز خطوة تقدمية، حين انشغل بالمشكلة التي رأينا الثقافة الإسلامية - حيث مركزية الوحي - تفرضها؛ أي العلاقة بين الله والعالم الطبيعي. وقعت فلسفة أرسطو في مأزق عدم وجود صلة أنطولوجية بين المحرك الأول والعالم، أما محرك/إله ابن رشد فقد أصبح إسلاميا، واختلف عن محرك أرسطو بما يردم هذه الهوة بينه وبين العالم. فالله ينتج الوجود. إنما بصورة مختلفة عن تصور المتكلمين. فقد أنتجه كما تنتج العلة معلولها، وبقدر ما يتضمن المعلول وجود العلة، يتضمن العالم وجود الله. لذلك تجاوز ابن رشد أيضا ثنائية الفيض الفارابية والسينوية وجعل الله أشبه بعقل العالم الساري فيه والممسك به. وكما تسري أحكام الرئيس في المدينة تسري إرادة الله في العالم. وبغير الألوهية لا تصور فلسفيا للعالم، وقد اعتبر الدهريين النقيض الحقيقي للفلاسفة.
وهو في «فصل المقال» يعرف الفلسفة أو الحكمة بأنها النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، والعكس أيضا صحيح. معرفة الصانع لا تكون إلا بالنظر في الكائنات التي خلقها، وكانت أدلة وجود الله عنده: العناية والاختراع والحركة، كلها منصبة على - أو مستقاه من - العالم الطبيعي الذي يعني عنده كل شيء سوى الله والأجرام السماوية.
هكذا تتبدى أمامنا الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية المغلقة، وإن كانت عقلانية ابن رشد لا تجعلها مغلقة بمثل ذلك الإحكام الذي رأيناه فيما سبق ... ولكن هل يمثل هذا قطعا معرفيا؟ وطبيعياته ظلت في كل حال سائرة نحو المتجه الإلهي؟! •••
وأخيرا - وربما أولا - يبقى أولئك المعروفون باسم الفلاسفة الطبيعيين الذين يتحملون عبء ما نسميه الآن تاريخ العلوم عند العرب. وكأننا نصادر على إبقائهم خارج مجال الفلسفة/الحكمة، فضلا عن أن المتكلمين عدوهم زنادقة ملحدين. ولئن كانت أفكارهم الفلسفية غير مترابطة وغير نسقية ولا ترقى للمستويات المعروضة آنفا، وهم أنفسهم نادرا ما واتتهم الجرأة على أن يعتبروا أنفسهم فلاسفة، فإن المسائل الفلسفية فرضت نفسها عليهم، بحيث إن إسهامهم الفلسفي جزء تكميلي لتاريخ الفلسفة،
43
فضلا عن تمركز دورهم في تشكيل الطبيعيات الإسلامية.
في وقت مبكر، منذ القرن الثاني، وقع رائدهم التجريبي الشهير جابر بن حيان في إسار إيمانه الطاغي بحيوية الطبيعة وكل شيء فيها، بل رآها عاقلة مريدة. والكواكب قوى حية علوية تمارس تأثيرها. الفرق بينها وبين الله هو دخول المادة فيها، ولعل إفراط جابر في حيوية الطبيعة والتنجيم - وهو الذي يتصدر باكورة الاهتمام الإسلامي التواق بالطبيعة - هو الذي أدى إلى ثبوتهما المزعج في الطبيعيات الإسلامية.
أما في القرن الرابع الهجري حين بدأ هؤلاء الطبيعيون في التمييز كفئة أو كدائرة في الدوائر التي ارتسمت حول الوحي، في هذا القرن آمن بحيوية الطبيعة والتنجيم الطبيب العالم أبو بكر الرازي، وكان إيمانه بالغ الحماس؛ لقبه المتكلمون بالملحد الكبير الخارج عن الروح الإسلامية، والحق أنه «تبنى موقف الحرانيين تبنيا كاملا.»
44
وهم مدرسة ظهرت في حران انتهت إلى تجسيم الله ودخلت في إطار الصابئة، وتحمل أقوى تأكيد بحياة الأجرام السماوية وتصرفها في شئون الطبيعة والحياة والبشر، وتغلغلت في التراث الإسلامي. تأثر بها الكندي وإخوان الصفا - كما بدا فيما سبق - وابن سينا، وينسب إليها عابد الجابري ما حملته الفلسفة المشرقية من عناصر هرمسية وغنوصية أدت إلى انتقال البيان إلى العرفان.
ويكاد يكون الرازي أكمل تمثيل تلك الفلسفة الحرانية؛ أنكر مثلهم المعجزات والنبوة؛ لأن الناس سواسية في إمكان الاتصال بالعالم العلوي عن طريق تطهير النفس ومفارقة المحسوسات، وقال بقدمائهم الخمسة: الهيولي والصورة أو النفس، والزمان والمكان والحركة، كلها لامتناهية وكل لامتناه قديم، والخلق من العدم مستحيل. الخلق حدث من اشتياق النفس إلى الهيولي. إن الرازي يسخر نظرية الفيض ذات الأصول المثالية، لكن التطور النسبي لمنجزات العلوم الطبيعية في عصره عموما، وعلى يديه خصوصا، مكنه من توجيه نظرية الفيض توجيها ماديا أكثر.
بصفة عامة ابتعد هؤلاء العلماء عن طريق المتكلمين، وتلمسوا طريق الفلاسفة. تولوا عن فيثاغورث والفيض وساروا مع الأرسطية، وعلى الرغم من أن اهتمامهم كان بالوقائع المادية، وما ينجم عنها من آثار، وعنايتهم فقط بدراسة الطبيعة وظواهرها المادية، فإنهم جميعا «جاوزوا الطبيعة والعقل والنفس في أبحاثهم، وارتقوا إلى ذات الله، فجعلوه العلة الأولى أو الصانع الحكيم الذي تتجلى حكمته ويتمثل إحسانه في مخلوقاته.»
45
نفس التوجه الإلهي ونفس الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية.
فيستهل البيروني - مثلا - مبحثا هندسيا خالصا بأنك إذا تحققت من ماهية الهندسة تعرف نسبة الأجناس والكمية، ومقدار المزروع والمكيل والموزون، وما بين مركز العالم وأقصى المحسوس منه ... «ثم ترتقي بواسطة التدرب بها من المعالم الطبيعية إلى المعالم الإلهية.»
46
أيضا لا فرق. •••
هكذا تحيط الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية بالطبيعيات الإسلامية من كل صوب وحدب، لتنصب في المتجه الإلهي حتى انصبت جهود الطبيعيين أنفسهم فيه. لم يعق هذا حملهم للواء التجريبية طوال العصور الوسطى؛ لأن بحوثهم العلمية - كما أشرت في
الفصل الثاني - اتصلت بالوقائع الجزئية دون القوانين الكلية، فضلا عن الأنساق العلمية.
مع هذا تجمل الإشارة إلى أن المتجه الإلهي وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا، فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر، فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة إلى آخر المدى.
وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينية أيضا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي، وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية؛ قد تحرمه من استقلاله، أما وجوده الموضوعي فكلا؛ لأن العالم الطبيعي فعل متعين للقدرة الإلهية. إن المصطلحات اليونانية تقوم فقط بدور ظاهري.
وكانت الفلسفة الإسلامية تيارا مستقلا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين المادية/المثالية، وتجاوزهما إلى مركب جدلي أشمل. لم يكن محض انتقاء بينهما أو توفيق لهما مع الشريعة، بل كان خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي عرفت كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي وتوجهها اللاهوتي الذي فرضته ظروف العصر. (3) الطبيعيات في نظرية الوجود
اتضح لنا الآن كيف أن انتقال الطبيعيات إلى دائرة يفترض أنها أعلى - أي من الكلام إلى الحكمة - لم يغير من الأمر شيئا، وظلت الطبيعيات متجهة نحو الإلهيات أو مقدمة إلهية، وليس هذا كل - ولا حتى أهم - ما يكشف عنه هذا الفصل. ولكي ندرك عمق الحكم: لا فرق - مما يستوجب قطعا معرفيا عن كل التراث القديم - ينبغي أن نلاحظ قبلا كيف أن الطبيعيات في الحكمة تكافئ نظرية الوجود في الكلام ... إنها الأنطولوجيا.
رأينا كيف انقسمت الحكمة إلى عقليات: منطق ورياضة، ثم طبيعيات محسوسة ثم إلهيات وشريعة، وكأننا بإزاء تقسيم الفلسفة الذي لم يستقر إلا في القرن التاسع عشر إلى إبستمولوجيا وأنطولوجيا وأكسيولوجيا، لا سيما مع ما تعنيه الإلهيات الإسلامية من نسق قيمي مهيب، وما تحمله الشريعة من جهاز أخلاقي جبار. على أن أخطر ما في الأمر هو إخراج الطبيعيات تماما من الإبستمولوجيا وانفصالها عن العقليات والمنطق. لقد تقوقعت تماما في قلب نظرية الوجود المتجهة إلى الإلهيات.
ولا فرق. فهذا هو نفس الوضع في الكلام، انقسم أيضا إلى نظرية العلم ونظرية الوجود ثم إلهيات، وإن لم يتبلور هذا إلا في مرحلة متأخرة، في مقابل الحكمة التي عرفت التقسيم منذ مرحلة الافتتاح الأولى التي دشنها الكندي. وأيضا أخرج المتكلمون الطبيعيات تماما من المشكلة المعرفية؛ أي من نظرية العلم التي تكافئ المنطق في الحكمة، ووضعوها في قلب مشكلة أو نظرية الوجود والسؤال عن الموجود والمعلوم. والواقع أن المباحث الطبيعية في الكلام - وبالتحديد مبحثا الجواهر والأعراض - صلب نظرية الوجود.
شهد علم الكلام مصنفين هامين مخصصين لمبحث الجواهر والأعراض؛ وهما «التذكرة لابن متويه» من القدماء، و«التحقيق التام للظواهري» من المحدثين. والحق أن «التذكرة» نموذج للبحث المنهجي المستقصي لموضوعه، والمحيط بأطرافه برؤية واضحة وأفكار مرتبة وعبارة مستقيمة، فيكشف عن نضج واقتدار يفوق ما يتكشف في كثير من نصوص الحكمة. ولأنه أكمل عرض للطبيعيات الكلامية، فإنه يحوي أوجز صياغة لنظرية الوجود. يقول ابن متويه:
اعلم أن المعلومات أجمع لا تخرج عن قسمة تتردد بين النفي والإثبات، فإما أن تكون لها صفة الوجود وهو المعبر عنه بالموجود، أو أن لا تكون لها صفة الوجود، وهو المعبر عنه بالمعدوم. والذي له صفة الوجود فإما أن تكون حاصلة له عن أول، أو لا عن أول، وهذه القسمة كالأولى، فالذي لا أول لوجوده ليس إلا القديم وحده عز وجل، والكلام فيه وفي صفاته ينفرد عن الكلام في غيره من المعلومات، فلا نجمع بينه وبينها في الذكر إعظاما له تعالى، والذي لوجوده أول وهو المعبر عنه بالمحدث، وهو ينقسم إلى ما يتحيز عند الوجود، وإلى ما لا يتحيز عند وجوده، فالأول وهو الجوهر والثاني هو العرض.
47
فتلك هي النظرة الكلامية الشاملة لمجمل الوجود، التي تحتوي حتى على العدم، أو بالمصطلحات الفلسفية الحديثة : للوجود ككل أو الوجود بما هو كذلك. إنه وجود قديم أزلي أبدي أحدث وجودا هو العالم، العلامة البينة عليه والتي انحلت إلى جواهر وأعراض إمعانا في أدائها لهذا البيان. «ولا موجود بعد الله إلا الجواهر الجسمية وما يقوم بها من أعراض»
48 (= الطبيعيات)، ويمكن التمثيل لهذه النظرة الأنطولوجية بالشكل الآتي:
هذا الوضع للطبيعيات/الجواهر والأعراض في قلب نظرية الوجود هو الذي أدى - وكان لا بد وأن يؤدي - إلى جعلها طبيعيات إلهية أو متجهة نحو الإلهيات، ولا مندوحة عن هذا؛ لأننا حضارة مركزها الوحي/النص. والواقع أنه لم يحدث أصلا فصل بين نظرية الوجود وبين الإلهيات في مقدمات علم الكلام إلا في المصنفات المتأخرة بعد مرحلة النضج.
لذا فكثير ما يستحيل التفرقة بين الطبيعيات وبين الإلهيات بمصطلحات الكلام: التوحيد. وتحت عنوان التوحيد يناقش المعتزلة حدوث العالم قبل نفي الصفات.
49
وها هو ديوان الأصول للنيسابوري المعتزلي يحمل عنوان «التوحيد»، في حين أن أربعة أخماسه حول الطبيعيات - الجواهر والأعراض والجسم المحدث - أخيرا يتلوها باب: القول في نفي الصفات.
50
ومثله معظم مصنفات علم الكلام القديم. ولا غرو، فالتوحيد والعالم، أو الإلهيات والطبيعيات، هما معا «الوجود»، ويظل الجواهر والأعراض - كما أوضحنا - هما صلب نظرية الوجود والقطاع الأكبر منها. •••
لقد كان علم الكلام يحمل إمكانيات خصبة وواعدة، أكثر من الحكمة التي انشغلت بتكييف وتعديل وتطويع للفلسفة اليونانية. فقد بدأ الكلام بنظرية في العلم «تطورت من الحديث عن مضادات العلم من ظن وشك وتقليد، ومصادر العلم من محسوسات وأوليات ومتواترات، إلى أن أصبحت نظرية متكاملة في العلم ابتداء من القرن السادس حتى التاسع.»
51
وفي المؤلفات المبكرة تظهر نظرية العلم على أنها هي المقدمات النظرية دونا عن نظرية الوجود المقابلة، أو بالأحرى التالية لها، «ثم اتحدت نظرية العلم ونظرية الوجود معا فيما بعد، فيما يعرف بأحكام العقل الثلاثة: الواجب والممكن والمستحيل.»
52
نظرية العلم ونظرية الوجود، أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا، كلتاهما سائرة نحو المتجه الإلهي إثباتا للعقيدة، وصلبها وجود الله الواحد الأحد الموجد من العدم، وفي إثبات هذا كما أوضحنا لعب دليل الحدوث دورا رئاسيا.
وقد كان دليل الحدوث منشأ البحث في الطبيعيات، وظل دائما هيكلها، وأي دليل من حيث هو دليل يلامس الإبستمولوجيا؛ فكان دليل الحدوث يلامس الكفتين: الوجود والمعرفة، ويمثل حلقة الوصل بينهما. وبكل ثقله كمبتدأ بل وكموضوع لمبحث الوجود: ساهم في نزع الطبيعيات تماما من نظرية العلم وإلقائها في قلب نظرية الوجود.
ترك المتكلمون الإبستمولوجيا للمشتغلين بالمنطق من أهل الحكمة، وراحت نظرية العلم في الاختفاء من الكلام، ليكون البدء بنظرية الوجود بحثا في دليل الحدود، وكأن موضوع المعرفة سابق على الذات العارفة وأهم منها. لقد تراجع العلم وفازت أخيرا نظرية الوجود.
لقد حمل التراث الإسلامي - خصوصا أصله الأصيل علم أصول الفقه الذي اشتغل به كل المعتزلة تقريبا - كنزا مذخورا لنظرية المعرفة من مناهج بحث وأساليب استدلال وأشكال قياس، فضلا عن الطرق التجريبية. لكن ظلت الطبيعيات بتقوقعها في نظرية الوجود بمنأى عن كل هذا، وانصبت في المتجه الإلهي الذي حال بينها وبين أن تكون مجالا للفعالية الإنسانية، وبالتالي التغير والصيرورة والنماء والتطور، فانتهى بنا المآل إلى ما نحن عليه من استيراد كامل للطبيعيات وتقاناتها.
كان إقصاء الطبيعة عن نظرية العلم، والذي ساهم فيه المعتزلة والأشاعرة على السواء، هو السبب والعلة والأصل؛ أما المعلول والنتيجة والأثر فهو أن أصبحت الطبيعيات إلهية، تدور في الدائرة المغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس؛ لأن الوجود إثبات لله، والمعرفة إثبات للإنسان.
علم الكلام وضع الطبيعة في نظرية الوجود؛ لأنه لا يريد إلا إثبات الله، وعلم الكلام الجديد سوف يضع الطبيعة في نظرية المعرفة؛ لأنه يريد إثبات وجود الإنسان المسلم في خضم الحياة المعاصرة.
إن الوجود صنيعة الله، والعلم صنيعة الإنسان، الوجود قديم والعلم حادث، الوجود ثابت والعلم متغير، الوجود باق والعلم نام، والوجود حتم والعلم حرية، الوجود مفعول فيه والعلم فاعلية، الوجود كينونة والعلم صيرورة.
وإخراج الطبيعيات من العلم، من مجال الإنسان ووضعها في مجال الألوهية ، هو السبب في انفلاتها من يدي المسلم المعاصر ... المعاصر لعصر أحرز فيه الآخر الغربي سيطرة على الطبيعة تجاوزت كل آفاق الرؤى والأساطير. وغني عن الذكر ما نجم عن انفلات الطبيعة من ضعف وهزائم وتنازل، وتخلف واستنزاف للموارد الطبيعية في استيراد عقيم وتبعية وفقر ودينونة لجلب رغيف الخبز، ثم الاستسلام تلو الاستسلام.
إن السيطرة على الطبيعة قرينة بوضعها في قلب وعلى رأس المشكلة الإبستمولوجية ... نظرية المعرفة. لم يكتف الآخر الغربي بهذا فوضعها في نظرية المنطق ومناهج البحث، التي هي أصلا مدخل لنظرية المعرفة، فكان له ما كان. وفي مجال العلم - المجال الإنساني الخالص - ثمة معامل مشترك، ما هو إنساني عام، وهو أكثر أولية ومبدئية وعمومية من الأيديولوجية؛ إنها آليات العقل العلمي، وحين ننظر إلى حيث انتهى الآخر الغربي، إلى حيث يجب أن نبدأ نحن منه، نجد في مجال العلم أيضا الحوار والاشتباك بين الحضارات، ونجد التحدي الحقيقي والإنجاز الذي يأتي بأقوى إثبات للذات الحضارية، أصدق تحقيق للأيديولوجيا. ثمة تنافس وصراع، الانتصار فيه ... أو حتى مجرد القدرة على اقتحام حلبته، هي عند الله وعند الناس خير وأبقى.
أما الوجود فهو مجال التمايز بين الحضارات، مجال الأصالة والخصوصية. لكل حضارة عالمها وأنطولوجيتها، حذف الآخر الغربي الألوهية من جل توترات سؤاله الحديث عن الوجود. وخصوصية حضارتنا في تميز أنطولوجيتها بآفاق الألوهية، منذ هبوط الوحي فيها. إن خصوصيتها الحضارية الثمينة حقا في أنطولوجيا ذات أبعاد إلهية، إنها نظرة أنطولوجية إسلامية، من الصعب أن نتنازل نحن عنها - نحن ضمير الجماعة بأيديولوجيتها المتميزة - لتظل الألوهية معلم حضارتنا ووهجها الذي يشع أبعادا دفيئة، افتقادها في حضارة الآخر الغربي أصبح يستصرخ أديم الأرض. ثم تأتي العلاقة بين الوجود والمعرفة لتجعل ذلك التميز الحضاري الأنطولوجي ينعكس بشكل ما في نظرية المعرفة. •••
الطبيعيات الكلامية إلهية أنطولوجية، ونحن نريد أن نجعلها إنسانية إبستمولوجية؛ لأن إبستمولوجية الطبيعيات الآن على وجه التحديد والتعيين الشديد هي الحلبة الكبرى للفعالية الإنسانية، والتغير المتوالي والتقدم المطرد.
ولن يجدينا في هذا ترقيع ولا تنقيح ولا استبدال مصطلحات بأخرى ، ما دامت الطبيعة كائنة في قلب نظرية الوجود، لن ينفعنا أي استئناف كان لطريق الأقدمين.
لا بد من قطيعة معرفية لطريقهم وشق طريق جديد كل الجدة، توضع فيه الطبيعيات في قلب المشكلة المعرفية ... في سويداء نظرية العلم.
ولكن ... كيف؟ تلك هي المهمة المنوطة بعلم الكلام الجديد، إن أريد له أن ييمم الأبصار شطر المستقبل.
الفصل الخامس
الكلام الجديد في الطبيعيات
(1) استيعاب طبيعيات الماضي وتجاوزها إلى المستقبل
تبدى الآن بمزيد من الوضوح كيف أن الطبيعيات في علم الكلام القديم ليست البتة شيئا إضافيا زائدا، أو مجرد ضميمة في اللطائف، كما هو معتمد في التأريخات الشائعة! بل إن الطبيعيات هي العالم. وتواصلا مع هذا، استيعابا وتجاوزا له، لن يكون بدعا أن تصبح أكثر محورية في علم الكلام الجديد السائر نحو المستقبل.
واتضح أيضا كيف يمكن الاتفاق على أن علم الكلام لا يبدأ بالذات والصفات بقدر ما يبدأ بنظرية العلم، ثم نظرية الوجود. ويمكن أن يناظر هذا انتقال المعتزلة من أصل التوحيد إلى أصل العدل؛ أي الذات ← الصفات = التوحيد ← العدل = نظرية المعرفة ← نظرية الوجود.
وبشيء من التعيين والتوجيه القصدي نحو أطروحتنا، الطبيعيات في الكلام، وعلى سبيل التمهيد لوضعيتها المستقبلية التي ننشدها في نظرية المعرفة، هل يمكن أن يناظر هذا انتقالا من عموم مسئولية الإنسان عن أدوات العلم والمعرفة:
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا
إلى مسئولية عن الشكل الجديد لتآزر هذه الأدوات - الحواس والعقل - وتكاملها في أقوى وأنضج صورة؛ أي في المنهج العلمي التجريبي، المنهج الفرضي الاستنباطي، بفاعليته المشهودة في تغيير وتطوير عالم الإنسان ووجوده المتعين.
وكما رأينا، كلما تطور علم الكلام كان يقل اعتماده على النص، ويزداد اعتماده على العقل، حتى كان تمامه في الحكمة حيث المعقول البرهاني. وشهد علم الكلام في بعض مراحله اتساعا في تحليلات المعرفة والوجود، هذه التحليلات امتدت وانتشرت حتى اختفى علم الكلام، وسادت الفلسفة في النهاية. كل هذه الفعالية العقلية كان من الممكن أن تسفر عن اكتشاف بين للطبيعة.
وقد أفصح هذا الاكتشاف عن نفسه في شكل اهتمام المتكلمين الفائق بالجوهر وأعراضه؛ ليكون مبحث الجواهر هو بعد الطبيعة، بقدر ما كان مبحث الأعراض هو بعد الإنسان، ولئن انقسمت الأعراض بدورها عند المتكلمين إلى نوعين، الأول يختص بالحياة وما يتبعها من إدراكات كالعلم والقدرة والسمع والبصر، والثاني يختص بالأكوان والمحسوسات؛ أي ظواهر الطبيعة الجامدة، فإنه حتى في هذه القسمة يظهر الإنسان ككائن حي مدرك، ويظهر العالم الطبيعي كموضوع مدرك له. هكذا نظفر ببعدي الإنسان والطبيعة: قطبي الطبيعيات المرومين، لا سيما من حيث هي إبستمولوجية، بل ويمكن أن نظفر بوجود الإنسان في الطبيعة: إن الإنسان والطبيعة هما القطبان الأساسيان للموقف العلمي.
هذه العوامل التي كانت كفيلة بتأسيس الموقف العلمي، لم تكن فقاعات على السطح، وقد أظهر عرضنا السابق كيف انصبت نظرية الوجود على الطبيعة، كأن التوحيد افتراض نظري تفسر على أساسه الظواهر الطبيعية، أو رؤية موجهة للذهن نحو الطبيعة؛ فلا إثبات لله ولا تفكير فيه إلا بعد التفكير في الطبيعة وعالمها. «وكأن الدين لا يتأسس إلا في العلم الطبيعي، وفي هذا اتفاق الكلام مع الحكمة، وأيضا مع أصول الفقه والتصوف.»
1
من هنا تداخلت أو بالأحرى تكاملت الطبيعيات والإلهيات، فأمكننا الآن التقاط بذور واعدة من تراثنا، لنحاول أن نستنبتها يقطينا أو لينة، تنمو وتعلو، لتشق تلك الدائرة المغلقة التي كانت من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس.
فلولا سقوط هذه العناصر الواعدة لما غاب البعد الطبيعي للإنسان من الوجدان المسلم. مطلوب الآن إحياؤها، على أن يتحول البعد الطبيعي إلى فعالية، إلى صيرورة متنامية باستمرار ... إلى نضال معرفي وجهاد إبستمولوجي، يتكرس له ويتفانى فيه ويستشهد من أجله أولو العزائم والشكائم حقا، العلماء في معاملهم ... في معترك كفاحهم الضاري والنبيل. •••
إن الضرورة الملحة الآن إحياء وإنماء ذلك البعد الطبيعي. ويمكن الاستفادة بشيء من التواصل مع المعتزلة وابن رشد وسائر الطبائعيين من أجل تجذير البعد الطبيعي في ثقافتنا، إعادة الإنسان المسلم إلى الطبيعة تمهيدا لاستملاكها؛ هكذا يحقق مستقبل علم الكلام تجاوزا مثمرا لماضيه الذي حمل صورة الطبيعيات المتجهة إلى الثيولوجيا المسخرة لتأكيد وجود الله الغني عن العالمين، لا الإنسان الذي يحيا فيها ويصارعها ويعاني جموحاتها، حتى تمخضت الطبيعة مع الأشاعرة عن جرف هار تحت قدميه، بلا قانونية ولا مشروعية ولا مصداقية للعلم بها.
بهذا الاستيعاب والتجاوز يتم تعديل وضع الطبيعيات، لتغدو من أجل الإنسان الذي يظهر من خلالها مثبتا دوره في الكون، ووجود الطبيعة في عالم الإنسان وله وبه ومن أجله. هكذا يتأسس الموقف السليم لممارسة فهمها وإدراك قوانينها والسيطرة عليها؛ أي إنه الوضع المبدئي لما يمكن تسميته بالموقف العلمي. وبقدر ما يتأسس هذا بقدر ما تتحقق رسالة الوحي الإسلامي كخاتمة الأديان، من حيث هو وحي طبيعي لا كهنوتي. إن التوحيد يصبح كما كان وكما ينبغي أن يكون: رؤية موجهة للذهن نحو الطبيعة، وتتحول الطبيعة من موضوع حسي وجداني إلى موضوع عقلي علمي، ويتحقق مشروع الكلام الذي وضعه لنفسه وهو يبحث في نظريتي العلم والوجود، ليصنع نهضة حضارة ويؤكد سؤدد أمة، وهو المشروع الذي توقف منذ القرن الثامن.
وإذا سار علم الكلام في هذا الاتجاه لن تعود الروح العلمية غربية غريبة، مجلوبة من الخارج منفصلة عن إطارنا الحضاري الذي يعد الوحي مركزه، وعلينا أن نجد فيه بواعث الموقف الطبيعي وموجهات السلوك العلمي، كالتجريب ونبذ التقليد والدعوة إلى إعمال العقل والتأمل في الطبيعة والسير في الأرض واكتشاف مناكبها ... ودعوة القرآن الدائمة إلى النظر في تصريف الرياح وتعاقب الليل والنهار والسحب والسماء ذات النجوم والكواكب السابحة في فضاء لامتناه.
وكما أشار المجدد الديني الأكبر محمد إقبال، «كان أفلاطون وفيا لتعاليم أستاذه سقراط؛ فقدح في الإدراك الحسي؛ لأن الحس في رأيه يفيد الظن ولا يفيد اليقين. وما أبعد هذا عن تعاليم القرآن الذي يعد السمع والبصر أجل نعم لله على عباده.»
2
وإنه لأمر عظيم حقا أن يوقظ القرآن تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات بوصفه قليل الغناء. ولا شك أن أول ما يستهدفه القرآن الكريم من هذه الملاحظة التأملية التجريبية للطبيعة هو أنها تبعث في نفس الإنسان الشعور بالله الذي تعد هذه الطبيعة علامة «العالم» عليه، ولكن ما ينبغي الالتفات إليه أيضا، كما يشير محمد إقبال، هو «الاتجاه التجريبي العام للقرآن»؛
3
مما كون في اتباعه شعورا بتقدير الواقع، جعل منهم حملة لواء المنهج العلمي التجريبي في عصر سؤددهم.
بخلاف تلك الموجهات، نجد أقواها في التنزيه الذي بلغ غايته مع المعتزلة؛ إذ يرى حسن حنفي في لفتة ثاقبة أن التنزيه أقوى بواعث أو موجهات الوحي للعلوم العقلية الخالصة؛ أي الرياضيات والطبيعيات؛ لأن التنزيه يعني أن الله ليس موضوعا للرؤية أو العلم، إنما العلم الإسلامي الشامل موضوعه كلام الله؛ أي الوحي كقصد نحو العالم وكنظام له.
4
العلم بذات الله مستحيل، الممكن معرفة آثاره الطبيعية والاجتماعية، المطلوب ليس البحث عن رؤية الله، بل عن رؤية الطبيعة والعالم.
فلئن كان التشبيه الأشعري هو الذي ساد في تصورنا لله حتى قارب التشخيص، فإن التنزيه الاعتزالي - كما يشير حنفي - هو القادر على تحويل تصورنا لله إلى مبدأ عقلاني شامل، الانتقال من التشبيه إلى التنزيه هو انتقال من الله المشخص إلى الله المبدأ العقلي الشامل، الذي تتوحد أمامه قوى الإنسان الفكرية والقولية والعلمية والوجدانية. وما رآه خصوم التنزيه من «تعطيل» هو في الواقع إيجابية لصالح العلم؛ لأنه يعطي العالم استقلالا، واستقلال ظواهر الطبيعة ضرورة تمليها الروح العلمية.
5
إن الله واجب الوجود، قمة نظرية الوجود، وبالتنزيه يصح مثالا معرفيا، هو المثل الأعلى وغاية الإنسان وموجود كتعال وتجاوز ومفارقة.
التنزيه هو التعالي، هو التقدم المستمر ورفض الصيغ الجاهزة، رفض تحويل الذات إلى موضوع، رفض القطعية والمذهبية والتوقف.
6
كلها مثل الروح العلمية المعاصرة نجدها مكنونة في ذخائر التنزيه ... أثمن ما في تراثنا وكلامنا ... فهو - أي التنزيه - بناء شعوري أكثر منه عقيدة، يمكن أن يدفع للبحث المستمر عن الحقيقة القصوى وتقدم العلم. كل هذا المبلغ في تشييد الموقف العلمي الطبيعي يمكن أن يبلغه علم الكلام بالتنزيه، ليحمل مستقبله كيانا يتجه نحو معرفة بلا حدود، هو الإنسان العالم، الحامل الحقيقي لرسالة الوحي.
بهذه الفعالية المستقاة من موجهات الحي إلى الطبيعة ومن التنزيه يكون الفكر الديني تأصيلا للفكر العلمي، ويكون الفكر العلمي نماء وتطويرا للفكر الديني، ويكون الكلام بإسقاطه الفكر العلمي والبعد الطبيعي كلية ودورانه في الدائرة الأنطولوجية الثيولوجية المغلقة قد ألغى مراحل من التقدم تم إحرازها. إن المهمة المنشودة من التوجه المستقبلي لعلم الكلام هي إعادة الطبيعة إلى الإنسان وتأسيس موقفه الطبيعي العقلاني. (2) الطبيعيات من الأيديولوجيات إلى الإبستمولوجيا، وبالعكس
إننا بكل هذا في سيرورة الوحي، الذي انبثق عنه علم كلام يمكن أن يشق طريقا مستقبليا ويتحول إلى أيديولوجيا لحضارة محدثة وناهضة. وعلم الكلام الجديد بهذا يساهم من جانبه في تحقيق مهمة العصر التي لخصها أستاذ الجيل زكي نجيب محمود في «أن نبحث عن طريقة يلتحم بها «علم» العصر مع شريعة ديننا، فيكون لنا من الحياة الثقافية ما نريد.»
7
وسيظل هذا البقاء في سيرورة الوحي قائما، ليكون عنصر التواصل أكثر حضورا من عنصر القطع، فيما اتفقنا على أنه تميز حضارتنا أو أيديولوجيتنا.
ولا بد الآن من استئناف الطريق إلى الخطوة الأبعد والأكثر حسما، إلى الموقف الإبستمولوجي العلمي، حيث تسخير استطاعات المنطق الاختباري والمنهج التجريبي.
فهذا العصر الذي نحياه على مشارف القرن الحادي والعشرين لهو عصر السباق المحموم في السيطرة على الطبيعة وترويضها وتطويعها وصيانتها بيئيا، وتساهم النقاط المحرزة في هذا السباق، لا في انقسام الدول إلى مراكز وأطراف فسحب، بل أيضا إلى دائنة ومدينة، تابعة ومتبوعة، قاهرة ومقهورة، تجلب رغيف الخبز بالديون التي هي هم بالليل وذل بالنهار، أو تستجلب الجيوش الأجنبية دفاعا عن حماها المقدس.
الآن الصراع الحقيقي الذي يواجه المسلم ولا يرضى الله أبدا التقاعس عن البلاء فيه، ليس مع العقائد الشعوبية أو سواها من تحديات واجهت القدامى، بل هو الصراع مع جحافل الطبيعة الضنينة قهرا للجهل والفقر والعجز والعي والمرض والوباء والفيضان والجفاف والتصحر ونضوب الثروات وندرة الموارد ...
في مواجهة هذه الجحافل الضارية، وفي ذلك الصراع والسباق، ينتصب مارد المنهج «العلمي» لينتج أينع صور الألفة مع الطبيعة، من حيث يثمر نسق العلم ذا الإشباع الذي لا يضاهى للعقل البشري ونزوعه لفهم الطبيعة وتفسيرها واستكناه أسرارها، ناهيك عن أنه يفتح ضمنا الطريق الوحيد للسيطرة عليها وترويض شراستها بواسطة التقانة (التكنولوجيا) نجيبة العلم الشرعية الأثيرة وربيبته المدللة، ويا لها من واسطة امتلكت فعالية لم يحلم الإنسان بمعشارها يوما ما! وما كان هذا ليكون إلا لأن نسق «العلم» قد تعملق.
في كل هذا يتجلى العلم الطبيعي - كمقابل لكل صنوف الأيديولوجيات، ولأنه ليس بأيديولوجيا البتة - يتجلى بوصفه المشروع الوحيد الذي ينجزه الإنسان بنجاح. مهما قيل إن الإسلام دين التقدم والمدنية ... لكن المسلمين هم المتخلفون، أو أن المسيحية دين المحبة والغفران ... لكن الأوربيين قراصنة استعماريون، أو أن الليبرالية للحرية والفردية والكرامة وحقوق الإنسان ... لكن الأمريكيين رعاة بقر مهجنون إمبرياليون، أو أن الشيوعية هي اليوتوبيا الموعودة للكادحين ... لكن أعضاء الحزب الشيوعي السوفييتي حفنة لصوص، أو أن القومية العربية أشد واقعية من الدم الذي يسري في الشرايين ... لكن الحكام العرب كانوا خونة وعملاء ... ومهما قيل وقيل لا يجرؤ أحد البتة على أن يقول: المنهج «العلمي» فعالية جبارة وآلية رائعة ... لكن العلماء كسالى خائبون! ولا حتى مناقشة إخفاقات العلم والمشاكل التي عجز عن حلها. المنهج العلمي بلا ريب هكذا: فعالية جبارة وآلية رائعة، لكن لأنه جعل العلماء يضطلعون بمشروعهم اضطلاعا لا يدانيه الملام ولا العتاب، لا من بين أيديهم ولا من خلفهم ... وهل يدانيهم سوى الإعجاب والانبهار؟ لذلك التطابق بين الواقع والمثال، بل لذلك الواقع العلمي الذي يحطم المثال تلو المثال، باحثا دوما عن مثال أعلى، عن تقدم أبعد ... لذلك النجاح الذي لم يعرف الإنسان له مثيلا. •••
مصطلح «علم» هنا يختلف من أي ورود سابق للفظة العلم، فالمقصود مصطلح
Science
المصوغ في عشرينيات القرن التاسع عشر، والذي لم نضع له مقابلا في لغتنا العربية، لا من حيث هو أشرف ولا أحط من «علومنا» النقلية أو العقلية، ولكن من حيث أن مصطلح «علم» لدينا عريق جدا واسع وفضفاض، فهو كل إدراك لعلائم الأشياء وسيمائها، كل جهد نظامي ونشاط عقلي، فضلا عن تشبعه بشحنات تبجيلية وعاطفية، أما مصطلح
Science
فقد وضع أولا من أجل العلوم الطبيعية (الفيزيوكيماوية) بمناهجها التجريبية الصارمة ولغتها الرياضية المحكمة، ثم امتد ليشمل علوما أخرى، حيوية ثم إنسانية، استطاعت أن تحذو حذوها.
فهو مصطلح صيغ للدلالة على نشاط نام حديثا في نسقية صاعدة واعدة، تجعله مختلفا عن كل ما سبقه، هذا النشاط التخصصي جدا - حتى إنه هو الذي علمنا معنى التخصص - له موضوع محدد جدا ومعايير ومثاليات خاصة ترسم له حدودا حاسمة، كان من الأجدى تعيينه بأي مصطلح آخر، ليكن «س» أو «ص» أو «ل»، ونترك مصطلح «علم» لرحابة آفاقه في حضارتنا أو أيديولوجيتنا، ككل شامل
Science
وما سواه.
ولأنه لم يحدث مثل هذا التحديد المصطلحي في مجمل حضارتنا (في جامعة القاهرة العريقة: كلية العلوم وكلية دار العلوم) يتسم مصطلح العلم لدينا بالميوعة التي تنعكس في ميوعة وضع «العلم» في أيديولوجيتنا، لدرجة تستدعي الملام.
وليس المناط في الملام ولا في العتاب، فنحن بإزاء نسق «العلم» الطبيعي الذي يتعملق في متوالية. لقد تعاظم شأن مشروعه، وتعقدت آلياته التخصصية ومناهجه البحثية، وترسمت شرائعه ونواميسه، التي لا تقبل إلا التكرس والتبتل من كل من أراد المساهمة بنصيب في النماء والتقدم المتواصل، ولم يعد من الممكن بحال اعتبار العلم
Science
مسألة فرعية، لتستوعبها الأيديولوجية ببساطة؛ فإن لم تتأهب الأيديولوجيا بقضها وقضيضها لوضعية العالم الطبيعي بالذات، فإنها في هذا العصر تحكم على نفسها بالفناء وتستدعي نوعا من الانتحار الجماعي البطيء في عصر أصبح شعاره - كما قيل بحق: «البقاء للأعلم.»
8
وإن لم تتعايش الأيديولوجيا بجذور وأصول وعمق وهم حقيقي مع التقدم العلمي المتسارع واكتفت باستيراد واستهلاك منتجاته في دوامة لا تحمل إلا الهلاك لموارد الدخل القومي، فلن يعني هذا في النهاية إلا التخلف عن العالمين والسقوط من ركب التقدم، ومعدلات التنمية المنخفضة، لنتسول رغيف الخبز ودواء المرضى ووسيلة الاتصال ... من الدول أو من الأيديولوجيا التي لا تعرف قصورا في النظرة العلمية، وترعرع في أفيائها المنهج الحديث، أو بالأحرى ترعرع تقدمها في أفياء المنهج العلمي. •••
إننا الآن بصدد قضية محورية هي تحديد علاقة الأيديولوجيا بالعلم، وناهيك عن تحقيق العلاقة المثمرة بينها وبين العلم الحديث والمنهج العلمي، وهي ليست قضية بسيطة أو تقبل طرحا مباشرا، فلئن كان ضروريا أن تتأهب الأيديولوجيا دوما للواقع العلمي المتسارع، فإن الأيديولوجيا ذاتها ليست علما ولن تكون، ولعل الانهيار المدوي للأيديولوجيا الماركسية بعد أن أسرفت في التمسح بالمسوح العلمية خير شاهد.
أما ونحن نتحدث عن العلم كما يتمثل في نموذج العلم الطبيعي، فإن هذا يبلور إلى أي حد تقف النظرة العلمية موقف الضد الصريح للنظرة الأيديولوجية، من حيث أن هذه الأخيرة هي التي تؤدي إلى التباين الشديد في الآراء، وتجعل نفس الموضوع يراه الناس بطرق مختلفة جدا،
9
بينما النظرة العلمية تقف في موضوعها على المعامل المشترك بين الذوات أجمعين، وتطرحه بصورة يتفق عليها جميع راصديه، وإلا لما كان طرحا علميا أصلا، فضلا عن أن الأيديولوجيا، كما أوضح
الفصل الأول ، تتضافر مع اليوتوبيا وتصور ما ينبغي أن يكون. والحالة الذهنية تكون يوتوبية أو طوباوية حين تتعارض مع الأمر الواقع الذي تحدث فيه.
10
بينما العلم ينصب فقط على الواقع، وليس له الحق إطلاقا في تجاوزه.
وإن كان العلم بالطبع يخرج بنتائج وفعاليات تفيد، بل هي ضرورة في تحقيق ما ينبغي أن يكون من طوباويات الأيديولوجيات.
كل طوبي في عالمنا النامي أو المتخلف الفقير، كل أيديولوجيا تنويرية له، تكون طوبى ونهوض بقدر ما تلتحم بالحلم العلمي التقاني.
التقانة (التكنولوجيا) بلا جدال نتيجة العلم البحت، وترتبط به ارتباط الثمرة بجذع الشجرة، لكن اللافت حقا أن العقود الأخيرة شهدت تمايزا وشيئا من الانفصال بين نشاط البحث العلمي وبين نشاط التطوير التقاني، وبينما يظل العلم البحت فوق كل خصوصيات أيديولوجية، يمكن أن تترك هذه الخصوصيات بصماتها على أنشطة التطوير التقاني، ولا رؤية - أو رؤيا - مستقبلية دون المساهمة في الاثنين معا؛ العلم والتقانة، ومن منا لا يحلم بغد نساهم فيه بنصيبنا في البحث العلمي، لتنساب نواتجه التقانية في ربوعنا، عاملة على تحقيق أهدافنا.
وحينما يأتينا هذا الغد العلمي السعيد، مثلما أتى للصين أو الهند أو حتى للبرازيل، ونرى قلاعنا التقانية (التكنولوجية) تدور رحاها ليلا ونهارا من أجل تحقيق أهدافنا الأيديولوجية، يمكن أن يحدث العكس، وتترك خصوصياتنا بصماتها على أهداف التقانة، أو مسار تطويرها. «فالقوتان الحاكمتان للنشاط التكنولوجي اليوم هما الربح الفردي والنشاط العسكري، وكلاهما مشكوك في صلاحيته لتحديد هذا المسار.»
11
فهل يمكن في مستقبلنا المأمول أن تحكم أيديولوجيتنا التطور التقاني بناء على قيم التوحيد وعمران الأرض واستخلاف الإنسان.
يبدو أن هذا الحديث سابق لأوانه، ففي دراسة عن «هدر الإمكانية» كان هدف تحقيق «تحرير تقني» عربي بحلول عام 2000 أدنى نسبة لاحتمالات التحقيق من بين ثلاثة عشر هدفا مختلفا.
12
أليس يدعونا هذا إلى تكثيف الجهد للحاق بمسيرة الطبيعيات المعاصرة، علومها وتقاناتها على السواء، التي أصبحت ذات مردود وعائد يجعلها أهم مصادر الدخل القومي للدول الغنية المتقدمة، التي تعاني مشكلة الفائض في ميزان المدفوعات، مثل اليابان وألمانيا وكندا؟! •••
إن خدمة العلم الطبيعي للمشروع الأيديولوجي كما تتمثل في نتائجه وتطبيقاته - أي التقانة - تتمثل أيضا وقبلا في أصله ومنطلقه، هيكله وعماده - أي المنهج العلمي.
المنهج «العلمي»
Scientific
هو البعد الغائب المفتقد حقا في أيديولوجيتنا ... في ثقافتنا وطرائق تفكيرنا وعوائد سلوكنا وسمات شخصيتنا القومية، بل وحتى سمات شريحة الإنتلجنسيا فينا.
واحتياجنا لعلم كلام جديد هو عينه احتياجنا لأيديولوجيا ثورية تهيئ لخلق إنسان عربي مسلم جديد. أهم مهامها توطين المنهج العلمي في حس الجماعة بأن تزرعه في ثقافتنا وتجذره في تربتنا، لنتمرس على مواجهة الواقع الصلب العنيد الذي يتأبى علينا ونفشل في تطويعه، فنستورد دائما حلولا لمشاكله، في استنزاف للموارد وتعويق للنماء والتقدم، والمطلوب الخروج بالمنهج العلمي إلى الآفاق الأيديولوجية، فلا يقتصر على المنظور الترانسندانتالي المتعالي للثقافة كموضوع للحوار بين صفوة المثقفين أو أبحاث بعض المتخصصين، بل تشريب المواطن بآفاق المنهج ليغذو أسلوبنا في الإنشاء وفي الإدارة، في التخطيط والتنمية، في الإنتاج وفي الاستهلاك، في مواجهة وقائع الحياة اليومية.
فليس منهاج العلوم الطبيعية - أي المنهج الفرضي الاستنباطي - إلا تجسيدا لطريقة التفكير المثمرة السديدة، للعقل حين ينطلق بمجمل طاقته لوضع الفروض العلمية، لكنها دونا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بمعطيات الواقع، ما تنبئ به التجربة، لتتعدل الفروض أو تقبل أو ترفض وفقا له، فالتجربة اختبار للفرض، ناقد قاس لا يعرف الرحمة في تعيينه لمواضع الخطأ والقصور، قاض حاتم ذو حكم موجب النفاذ، إنها المسئولية العسيرة أمام الواقع والوقائع التي لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة للتفكير الملتزم بالواقع وبالانتقال من المشكلة إلى محاولة حلها، لتعقيل السير نحو الهدف، للوسيلة التي امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعه الأولي المعاش - الطبيعة - وسبيل الظفر في خضم هذا العالم الواقعي ومشكلاته، وهو لهذا يعد أكثر من ضروري، يفيد أيديولوجيتنا إلى أقصى الحدود ... أو إلى أقصى آفاق المستقبل.
لا تجديد مغنيا للتراث، لا بحث فعالا عن مستقبل لعلم الكلام، لا تنوير ولا تثوير في أيديولوجيتنا، إن لم يعمل هذا على إزالة العوائق التي تحول دون تسرب المنهج العلمي إلى ثقافتنا وشخصيتنا القومية. أهم هذه العوائق وأخطرها وأساسها الذي يتمخض عن بقيتها هو النظرة التغريبية للعلم ومنهجه، فصياغته جاءت كنتاج للحضارة الغربية، وبالتالي يتم اكتسابه على حساب أصالتنا وخصوصيتنا الأيديولوجية، هذا في حين أن المنهج العلمي التجريبي أجل صيغ وتبلور في الغرب، لتمثل نشأته في حضارتهم قطيعة ونقلة محورية، لكن فقط بالنظر إلى طبيعة الحقبة الأوروبية السابقة، الحقبة الوسيطة التي رأت الانشغال بالمادة عارا وشنارا، وليس الأمر هكذا في الحضارة الإسلامية التي كانت حاملة للواء التجريب والمنهج العلمي آنذاك.
وإذا كان الغرب قد استغل نقلته المحورية صوب التجريب أعمق وأروع استغلال، فليس يعني هذا أنهم خالقوه أو محتكروه، ويخبرنا تاريخ العلم بدور العرب في خلق فصول من قصته، ودوره في خلق فصول من قصتهم.
وتتقدم فلسفة العلم لتعلمنا كيف أن المنهج العلمي التجريبي مجرد تطوير وبلورة لفعالية مفطورة في صلب العقل البشري من حيث هو عقل، ومن حق وواجب البشر أجمعين - ليس الغرب فحسب - تسخيره واستغلاله في كل جزئية من جزئيات الواقع.
إن المنهج العلمي يحوي قيما منشودة في أيديولوجيتنا من قبيل التخطيط والتفكير الملتزم والإبداع، والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء إلى محك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين، والأهم البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات في كل محاولة، والمجال المفتوح دوما للمحاولة أو النظرية الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى، وبالتالي الاحتمالية والنسبوية، فلا شيء مطلق أو يقيني، وليس ثمة حقيقة نهائية تتخذ مبررا لكبح انطلاق العقول وفرض الوصاية على البشر.
13 •••
إذن؛ أيديولوجيتنا يمكنها، بل يجب عليها، الاستفادة من العلم الطبيعي المعاصر، ليس فقط صلب مساره الناشر للضوء الكثيف، بل أيضا من طرفيه الأقصيين: المنهج والتقانة.
ولا سبيل إلى الاستفادة ما لم ندرك الإبستمولوجيا العلمية في حد ذاتها كفاعلية عقلية شقت طريقها المظفر، مستقلة تماما عن الأيديولوجيا والطوباوية وما سواهما، هذا الاستقلال لهو أخص خصائصها؛ حتى إن معيارها - معيار القابلية للاختبار التجريبي أو التكذيب، الذي يفرق في الحديث عن العالم بين ما هو علمي وما هو لا علمي - يرسم حدودا صارمة حول القضايا العلمية التي تحمل مضمونا إخباريا وقدرة تفسيرية وطاقة تنبؤية فقط عن وقائع العالم التجريبي، وهي حدود يستحيل أن يتخطاها ما لم يحمل مثل هذه الوظيفة المحددة للعلم الطبيعي؛ أي لا تتخطاها مثلا قضايا الدين والميتافيزيقا والفلسفة والفن والمشاريع الأيديولوجية والأخلاق المعيارية ... بعضها أهم وأعلى وأكثر فعالية من العلم
14
لكنها ليست علما
Science ، فهي غير قابلة للاختبار التجريبي أو التكذيب، وليس مطلوبا منها أن تقبله؛ لأنها تقوم بوظائف أخرى، وليس بوظيفة العلم التي تتجسد عينيا في السيطرة على الظاهرة الطبيعية، ومعيار التكذيب شهادة الصلاحية للقيام بهذه الوظيفة، إنه معيار العلوم الطبيعية، وفي نفس الوقت الخاصة المنطقية المميزة إياها، من حيث إنه الإطار الضام لمجمل منطقها أو الأصل الذي ترتد إليه، أو يمكن أن نشتق منه كل قضاياها المنهجية، كما أثبتت فلسفة كارل بوبر. ولأن فلسفته محض تطبيق لهذا، عد شيخ فلاسفة العلم الطبيعي في القرن العشرين، إلى كل هذا الحد تفرض الإبستمولوجيا العلمية الطبيعية استقلالها.
أما إذا كانت أيديولوجيا الحضارة الغربية قد اتخذت منها بشكل ما أحد مراكزها، فذلك موضوع آخر، إنه اختيارهم الذي لا يلزمنا بشيء، وليس من الضروري أن نتمركز مثلهم حولها، لكن من الضروري جدا جدا أن نعطيها كامل حقها، معترفين باستقلاليتها، التي تستلزم فريقا بل جيشا من الباحثين يتكرس لها في حد ذاتها.
في موضع سابق كان التوقف عند الأيديولوجيا لتأخذ حقها، حين تكرس لهذا الجزء الثاني من الفصل الأول، والآن دور الإبستمولوجيا العلمية وإعطائها حقها.
ومهما اختلفنا أو اتفقنا في سعة، بل هلامية تصور الأيديولوجيا، فقد اتفقنا في علم الكلام بالذات؛ فلا جدال في أنه هو مناط أيديولوجيا، بوصفها حضارة تدور حول مركز الوحي، ولأن علم الكلام الجديد أو أيديولوجيتنا المستقبلية لا بد أن تعطي الإبستمولوجيا العلمية حقها، كان من الضروري استئناف الطريق لكي يمتد «الموقف الطبيعي» للمسلم إلى اضطلاع بفعالية حية متنامية باستمرار. هذه الفعالية ... التنامي ... الصيرورة ... الحركة الديناميكية المستمرة للعلم الطبيعي، هي على وجه التعيين والتحديد روح العصر التي يتوجب على طبيعيات علم الكلام الجديد استقطابها، تمثلها وتمثيلها، والتي من أجلها لا بد وأن تصبح الطبيعيات مشكلة إبستمولوجية أولا وأخيرا. •••
فقد قيل إن العلم الطبيعي «شيء حي».
15
بمعنى أنه بناء صميم طبيعته الصيرورة، هو نسق متتالي التوالد والتنامي والتغير، مما يعني أن منطقه منطق نظام ديناميكي، فمعياره أو خاصيته المنطقية - أي القابلية للتكذيب - تعني أن العلم يحمل في صلب طبيعة إمكانية التصويب إمكانية تعيين مواطن الكذب أو الخطأ وتصحيحها، الاقتراب من الأصوب والأفضل، إمكانية التقدم المستمر دائما استمرارية البحث العلمي، هذه الإمكانية متوشجة في صميم البنية المنطقية للنظرية العلمية، حتى إن منطق العلم التجريبي منطق تصحيح ذاتي.
لذلك ينتهي باشلار إلى أن العلم يتنكر دائما لما ينجزه من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه، حتى يبلغ هذا ذروته في القطيعة المعرفية وبدء دورة جديدة؛ فالعلم لا يخرج من الجهل؛ لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق.
16
هذا التصحيح الذاتي المستمر هو الذي يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية، ومحض توالي بحوثهم المنهجية، يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقا أوسع، معنى هذا أنه مهما أحرزت العلوم الطبيعية من تقدم، فسوف يظل إحرازها هذا يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة، بعبارة أخرى كل إجابة يطرحها العلم يطرح معها تساؤلات جديدة أبعد مراما.
وكما يقول كلود ليفي شتراوس: «سوف تكون هناك دائما فجوة بين الإجابة التي يكون العلم قادرا على إعطائها لنا وبين السؤال الجديد الذي سوف تثيره هذه الإجابة.»
17
من هذه الفجوة الدائمة، تنبع الجذوة الدائمة التي تجعل العالم حياة دائمة.
فلا يتوقف أبدا تقدم مسيرة العلم الطبيعي الظافرة، منذ أن انبثق مع بدايات العصر الحديث في صورة نسقية، مستقلة عن سائر مكونات الأيديولوجيا، وتحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانيات تناميها، وفاعلية عوامل تقدمها المطرد في طريقها ذي المعالم الواضحة. والنسقية تعني إحكام المشروع العلمي، فيتركز في شتى ممارساته على أصوليات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تحدد للمشروع العلمي تخوما واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية، فيجعلها تمثل متصلا صاعدا، يواصل تقدمه باستمرار، ويلقي في الجوانح الثقة المدعمة بأن غده أفضل من يومه، كما كان يومه أفضل من أمسه، فتمثل كل ممارسة من ممارسات العلم الطبيعي إضافة لرصيده، أو بالأحرى لرصيد الإنسانية، لكن إضافة رأسية.
18
أجل! يمثل العلم الطبيعي متصلا صاعدا، دونا عن شتى مناحي الإبداع الإنساني كالفن والأدب والفكر والفلسفة والأنظمة التي تحمل سيماء الأيديولوجيا التي نشأت في إطارها فتنمو جميعها في صورة تراكم كمي واتساع أفقي، لا يلغي القديم فيه الجديد ولا يتجاوزه ولا يفوقه، بل يقف بجواره. وأن تمثل الإنجازات المتوالية متصلا صاعدا يقترب دوما من الصواب، متجاوزا مثالب الوضع السابق أو مواطن كذبه، وباحثا عن مثالب أخرى في وضعه الجديد ليتجاوزها ويقترب من الأصوب، فذلك هو التعبير المنطقي عما يعرف بمقولة التقدم العلمي ، التي هي عينها صلب طبيعة العلم. من هنا ... ومن كل صوب وحدب شاع القول إن العلم هو التقدم .
إن التقدمية، وليس العقلانية، هي صلب طبيعة العلم؛ فهذه الأخيرة - أي العقلانية العلمية - تعرضت لتغيرات عاصفة، وظل مفهومها يتبدل مع الانقلابات الثورية وأشكال القطع المعرفي التي شهدها العلم الطبيعي المعاصر، حتى كادت تلك العقلانية العلمية أن تفقد مدلولها المألوف، وينصرف هم جمع من فلاسفة العلم الطبيعي الآن - خصوصا بول فييرابند - في محاولة تحديد المفهوم الجديد المعاصر للعقلانية العلمية.
وعبر مناقشات مقنعة وتحليلات دقيقة ينتهي لاري لوضان إلى ضرورة أن نخطو خطوة ثورية انقلابية، ونجعل العقلانية متعلقة بإمكانية التقدم، بل ومتطفلة عليها، والاختيار العقلاني هو الاختيار التقدمي،
19
فهذا ما تمليه طبيعة العلم الطبيعي.
ومهما تصاعد كفاحنا من أجل خصوصيتنا الأيديولوجية، في مواجهة الآخر الغربي، فلا مناص من اعتبار العلوم الطبيعية المعاصرة هي وحدها الآن مقياس التقدم العلمي ... ذلك لأن هذه الطبيعة التقدمية الدائمة تجعل مقياس العلم يوجد حيث أعلى درجة من تقدمه، أو بالأحرى من إمكانيات تقدمه المتوالي ... وهذه الدرجة في الغرب. العلم الطبيعي في شرق آسيا استمرار لتقدمية العلم الذي قدر له أن ينشأ في الغرب، ولئن تفوقت شرق آسيا على الحضارة الغربية في بعض أشكال التقانة والأبحاث التي تهدف إلى تطوير التقاني، فإنها حتى هذه اللحظة لم تتفوق عليها في العلم البحت، وإن كان من المتوقع أن يحدث هذا في المستقبل القريب. وسواء حدث أو لم يحدث، فإن العلم الطبيعي دائم التقدم، في الشرق أو الغرب، في الشمال أو في الجنوب، نسق واحد ووحيد.
مرة أخرى وأخيرة نقول إنه لا علاقة له بالخصوصيات الأيديولوجية التي يمكن أن تتمثل في برامج تطوير التقانة، الأمن القومي، أولوية الاهتمام بين التخصصات العلمية المختلفة ... لكن لن تختلف طبيعة الضوء الموجبة/الجسيمة باختلاف الأيديولوجيات. لن تضيف فرنسا للموجات أو تدافع اليابان عن الفوتونات، لن تضيف أيديولوجية الصين إحدى الجسيمات للذرة، ولن تحذف عقائد الهند إحدى الترددات الإشعاعية.
تلك التقدمية المتفجرة من بين جنبات العلم الطبيعي الحديث ، حيثما كان وأينما كان، هي التي تجعله «شيئا حيا»، وليس البتة نظرية أنطولوجية متكاملة، بل فعالية إنسانية متنامية دوما، وجهاد إبستمولوجي متواصل. كانت همزة الوصل بين الطبيعة والأنطولوجيا تكمن في الفلسفة الطبيعية. وهذه الأخيرة انتهت تماما منذ أن صيغ مصطلح
Science
للدلالة على ذلك النشاط المعرفي الحديث.
لقد تفجرت كل هاتيك التقدمية حين أصبحت الطبيعيات مشكلة إبستمولوجية. وبدلا من الفلسفة الطبيعية، ظهرت أخيرا فلسفة العلم الطبيعي التي هي أولا وأخيرا من فلسفات الإبستمولوجيا، لكنها تقوم في الأيديولوجيا بدور لا تستطيعه الفلسفة الطبيعية البائدة، وكما قيل بحق: «إن فلسفة العلم هي في الآن ذاته فلسفة التحرير، ومن لا يحرر طاقاته بذاته، ولا ينفعل بواقعه، ويتفاعل مع عالمه الحي، فكيف يمكنه أن يكون أكثر من هارب حضارة وحالم ثقافة»
20
حضارة، ثقافة ... أو أيديولوجيا. (3) مستقبل الكلام في الطبيعيات المعرفية
إبستمولوجية الطبيعيات، أو الطبيعيات المعرفية، هي أثمن إيجابيات الحضارة الغربية، الإيجابية المستفادة حقا منها بكل المعايير المثالية والواقعية والأيديولوجية.
وكما انتهينا في الفصل السابق، أسرف تراثنا الفلسفي - الكلام والحكمة على السواء - في جعل الطبيعيات أنطولوجية، حتى بات القطع المعرفي ضروريا لكي نجعلها إبستمولوجية، وتلحق بمسيرة العصر.
فهل يستطيع علم الكلام لكي يشق طريقه نحو المستقبل أن يجعل الطبيعيات مشكلة معرفية، بحيث تكون إبستمولوجية الطبيعيات نابعة من تراثنا وليست مجلوبة من الغرب؟
الاجتهاد دائما مشروع، والمحاولة ممكنة، وما دمنا في سيرورة حضارتنا بمركزها الوحي/النص فثمة دائما خط استمرارية وتواصلية، ولم تكن الطبيعيات الكلامية أنطولوجية إلا لأن الأنطولوجيا شاهد على الغائب، على العقائد الإلهية، وبالمثل جعل الحكماء - كما رأينا - الطبيعيات متجهة نحو الإلهيات في دائرة مغلقة؛ وفي كل حال كانت الطبيعيات في نظرية الوجود، كوسيلة معرفية للخوض في قضايا إلهية/عقلية.
والآن، متى بدأ الإعلان الغربي الصريح بتحويل الطبيعيات إلى قضية أو إشكالية إبستمولوجية؟ كما هو معروف، بدأ هذا حين أطلق جاليليو (1564-1642) صيحته الشهيرة «كتاب الطبيعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات».
فحين كان العلم الطبيعي الحديث يشق أولى خطواته الغضة في القرنين السادس عشر والسابع عشر لم يكن يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم، وتفاصيل الصراع الدامي بينه وبين السلطة المعرفية التي كانت لا تزال في يد رجال الكنيسة معروفة جيدا، وقد استمد رجال الدين سلطانهم المعرفي، فقط لأنهم أقدر البشر طرا على قراءة وفهم الكتاب المقدس.
ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية، والاستقلال بنشاطهم عن الكنيسة، أصروا على أنهم - هم الآخرون - أقدر البشر طرا على قراءة كتاب آخر لا يقل عن الأناجيل عظمة ودلالة على قدرة الرب وبديع صنعه؛ إنه كتاب الطبيعة المجيد. فأصبح تعبير جاليليو: قراءة كتاب الطبيعة «شائعا آنذاك للدلالة على نشاط العلماء»
21
بقدر ما هو دال على الخروج من العصور الوسطى ودورانها في الكتب المغلقة، إلى العصور الحديثة وانطلاقا في عالم الطبيعة المفتوح، والقطع المعرفي مع المنهج القروسطي الأرسطي العقيم، إلى المنهج التجريبي المثمر الولود.
ومما يحمل دلالة ذات مغزى لموضوعنا أن «قراءة كتاب الطبيعة المجيد» لم تكن محض لافتة ظاهرية مصطنعة لمواجهة رجال الدين، بل استندت على إيمان كان لا يزال قويا، إن نجاح العلم الطبيعي بلغ آنذاك ذروته في إنجلترا التي اكتمل فيها نسق الفيزياء الكلاسيكية على يد إسحاق نيوتن ومواطنيه، حتى يلقب مؤرخو العلم القرن السابع عشر «بعصر انفجار العبقرية الإنجليزية».
22
وليس غريبا أن نجاح حركة الإصلاح الديني واكتمال تحقق البروتستانتية كان أيضا في إنجلترا، وعوامل نجاح الحركتين - الفيزياء الكلاسيكية والإصلاح الديني البروتستانتي - مشترك في الثورة على رجال الدين والسلطة الدينية، وليس على الدين نفسه، بل من أجل الدين، وكما أشار بارومر، اعتقد بيكون مع جهابذة الجمعية الملكية - التي تضم أساطين العلوم الطبيعية - أنهم يدرسون توراة الطبيعة، وأن للعلم روافد دينية جياشة تكشف قدرة الله التي تتجسم في خلائقه. غير أن هذا الاعتقاد لهم يحل دون قيام بيكون بحماية العلم من تداخل اللاهوت.
23
وبهذا نفهم كيف أن جون راي - هو من طليعة الفيزيوكيميائيين في تلك المرحلة - قد أخرج في نهاياتها (عام 1691) كتابا عنوانه: «حكمة الرب كما تتجلى في أفعال الخلق»
Wisdom of God as Manifested in the Works of Creation ، ودع عنك الآن رجل الدين الإنجليزي وليم بالي (1743-1805) الذي أصدر في مرحلة لاحقة - عام 1802 - كتابه «اللاهوت الطبيعي» معتمدا على تحليل العقل كوسيلة لإثبات قضايا الإيمان، وأن الطبيعة خير موصل لله؛ فهذا تيار لاهوتي.
أما في قلب التيار العلمي وحتى نهايات القرن السابع عشر، فقد ظلت العقيدة الدينية الحارة للعلماء - كما يقول باومر - تساهم في دفع حركة العلم حتى نهايات القرن السابع عشر، خصوصا وأن هذه المرحلة المبكرة من تاريخ العلم الحديث سادتها فكرة القانون المفروض على الطبيعة من لدن الرب، ولم يبدأ العلم في الجور على الإيمان الديني لعلماء الطبيعة إلا في القرن التالي، ولم يزعزعه إلا في القرن التاسع عشر، لعل هذا بدوره قد تزعزع هو نفسه مع ثورة العلم المعاصر في القرن العشرين.
فكيف فاتنا الركب إلى كل هذا الحد المزري والموجع؟! وقد كان الأحرى بنا نحن اختصار مراحل من تاريخ العلم الطبيعي انشغل فيها العلم بفض نزاعه مع سلطة الكنيسة والدين؛ فالحضارة الإسلامية لا تعرف أبدا ذلك الصراع الغربي بينهما الذي استعر أواره في القرن السادس عشر.
وكان العلم الطبيعي في الشرق الإسلامي يسري في إطار حضارة مركزها الوحي، بهديه وتحت رعاية السلطة؛ فالإسلام دين للدنيا والآخرة، للشهادة والغيب، للطبيعة والإنسان، لم تر قيمة الإنسانية ما رأته القيم الكاثوليكية الغربية في الطبيعة: مجرد مصدر لكل إثم ودنس وخطيئة، لم يكن البحث في الطبيعة ضد البحث في الدين.
ليس قراءة كتاب الطبيعة في مواجهة قراءة القرآن، لم يكن رجال العلم فريقا ينازع فريق رجال الدين، بل كان الفقهاء أصوليين وعلماء يضعون نظرية للعلم تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا؛ لأن العلم الديني القديم كان شاملا لعلم الطبيعة والإنسان، بينما نجد علوم الطبيعة والإنسان في الغرب شاملة للعلم الديني، رأينا الطبيعة عند أسلافنا هي العالم، العلامة الدالة، وليست فقط الطبيعيات المادة المنفصلة عن القيمة كما هو الحال في الغرب، نشأت العلوم الطبيعية في تراثنا من ثنايا التصور القيمي للعالم.
علم التوحيد؛ أي علم الكلام يضم في نفس الوقت الإلهيات والطبيعيات، بداية بالطبيعيات. قبل جاليليو وراي وقرنائهما بمئات السنين رأينا أبا الهذيل العلاف والنظام وابن الهيثم والبيروني وابن سينا وابن رشد ... وسائر الأسماء التي سطعت نجوما لامعة ، بل هادية في فضاء الفصلين السابقين، وهي تستدل على وجود الله، وتقرأ حكمته وبديع صنعه في عقلنة الطبيعة واستكناه أغوارها.
كنا الأسبق في الانتقال الجدلي من قراءة الكتاب المقدس إلى قراءة كتاب الطبيعة المجيد، في تعقيل الطبيعة وتطبيع العقل، تعقيلا وتطبيعا للوحي، وللاستدلال على وجود الله ... زدناه عمقا حين انشغلنا بالتقابل بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، لكن ما جدوى الأسبقية التاريخية؟ والعلم الغربي قد جعلهما - أي العقل والطبيعة - صنوين، بينهما يكشف العربي والمسلم المعاصر عن عجز موئس وتخلف مشين في مجرد مواجهة الطبيعة ... ما جدواها؟ يمكن أن نبلها ونشرب ماءها إن هي لم تنم نموها المشروع لينشأ فكر طبيعي في وعينا الثقافي، وبعد طبيعي علمي في أيديولوجيتنا. •••
أجل! تجاوز العلم الطبيعي الحديث تلك المرحلة، ولم يعد الآن - إطلاقا - مجرد قراءة لكتاب الطبيعة.
العلم المعاصر هو ابتداع فروض جريئة تحكم وقائع الطبيعة وتستطيع إخضاعها استطاعة تسير في تقدم غير متناه، لكن كانت تلك المرحلة الكلاسيكية جذعا متينا، انبثقت منه الأفنان المعاصرة الريانة، لتنمو وتعلو وتشق أجواز الفضاء، حقيقة ومجازا.
ورأينا هذا الجذع تمتد له في تربة كلامنا جذور أعمق، حتى جعل أسلافنا من الطبيعيات دائرة مغلقة من الإلهيات؛ إنه التوحيد الذي يضم الله والقيمة والعالم والإنسان في كل موحد وموحد، ها هنا عنصر خصوصيتنا الأيديولوجية والتواصل الذي يستحق الدفاع عن استمراريته، شريطة أن يتقدم الإنسان المسلم بمساهمة في الطبيعيات من حيث هي إشكالية معرفية.
وتلك الجذور العميقة أو الأصول لا تكفي طبعا لجعل الطبيعيات إبستمولوجية، فهي لم تحل بينهم وبين وضعها في نظرية الوجود؛ المطلوب الآن استئنافها بقطع معرفي يضعها في نظرية المعرفة، هذا القطع لن يلغي التواصل. أولم نر الأقدمين يجعلون الطبيعيات اللطائف، دقيق الكلام الذي هو مجال العقل وحده، مقابل جليل الكلام؛ أي العقائد التي يفزع فيها إلى كتاب الله؟ [انظر الفصل الثالث: الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس - الطبيعيات ... هي العالم الحادث] لا نريد أكثر من هذا، أن تكون الطبيعيات مجال العقل العلمي وحده.
وإذ يستطيع علم الكلام الجديد أن يفعل هذا، فإنه يقوم بدوره فيما يختص بوضع الطبيعيات في عصر تعملق العلم الطبيعي، ويكون علم الكلام بهذا قد أدى واجبه وجعل الوحي رسالة يضطلع بها الإنسان. ويشد الكلام أزر العلم الإنساني، لا العلم الإلهي الغني، فينفسح المجال على مصراعيه للاجتهاد الإنساني، ما دمنا نتحدث في نظرية العلم الذي هو من صنع الإنسان، وليس في نظرية الوجود الذي هو من صنع الله.
وكما أوضحنا، العلم صيرورة متنامية، والوجود كينونة باقية، العلم صنيعة الإنسان دائما، والوجود صنيعة الله أصلا، انشغل الكلام القديم بالعلم الإلهي؛ لأنه لا محدود، بينما العلم الإنساني محدود. وحين تنفسح الحلبة للعلم الإنساني بمجمل طاقاته نتخلص من هذا التحقير للذات والتسفيه لإمكانيات العقل الإنساني، وينطلق العلم الإنساني بلا حدود؛ لأن التقدم العلمي بصميم خصائصه المنطقية تقدم لا محدود.
24
المطلوب الآن أن تكون الطبيعيات الإبستمولوجية متوشجة في بنية علم الكلام الجديد بوصفه أيديولوجية حضارة تواصلية، لكنها معاصرة، وناهضة متجهة نحو المستقبل. فكيف يتم هذا بكلمة واحدة، يتم بإبستمولوجية العلم الطبيعي وكيف تتولد عن أيديولوجية الدين.
مرة أخرى نجد خط التواصل في اهتمام المتكلمين المسبق بنظرية العلم، هذه قاعدة منهجية جيدة، بصرف النظر عن موضوع تطبيقها، فقد رأينا اهتمامهم بنظرية العلم، وسبقها على نظرية الوجود، مما يعني أن الوجود موضوع العلم هو المعلوم، وليس البتة مستقلا عن العلم. إن نظرية العلم هي الأساس، ولن يصعب زرع الطبيعيات في تربتها الخصيبة (ولا ندري هل تفيد ميوعة مصطلح العلم هنا أم تضر؟!) •••
نظرية العلم أو السؤال كيف أعلم أو أعرف؟ لم تظهر في المؤلفات المبكرة التي كانت مجرد عرض لقواعد الإيمان ومبادئ العقيدة، ثم كان ظهورها تطورا طبيعيا للإيمان، وتحويله إلى مستوى النظر بفعل الحوار مع الحضارات المناهضة، فتعامل علم الكلام مع هذه الحضارات بأسلوبها واستعمل مناهجها. في هذا السياق تولدت نظرية العلم وتنامت وتكاملت، فكان أن تأسست تأسيسا حضاريا/أيديولوجيا.
لكن بعد أن تأسست أصبحت مقدمة ضرورية لعلم الكلام، سواء من حيث هو تاريخ فرق أو من حيث هو بناء لنسق العقائد. بعض المصنفات التي تجمع بين التأريخ والبناء، كالفصل لابن حزم تبدأ بنظرية العلم وتنتهي بها، ويكون العلم تطبيقا لهذه النظرية.
وبطبيعة علم الكلام ظهرت نظرية العلم في بداياتها منبثقة عن الإلهيات ومرتبطة بها، إذ بدأت - كما أوضح حسن حنفي
25 - بالبحث في التقابل بين العلم الإلهي والعلم الإنساني، وشيئا فشيئا تأخذ شكلها الإنساني المستقل في المؤلفات المتأخرة كنظرية في المبادئ والأحكام، ثم تكتمل نظرية العلم، فتظهر مضاداته كالشك والوهم والتقليد والإلهام، فالعلم لا يتأسس إلا بعد تطوير الوعي وتطهيره من معوقات العلم، بتعبير فلسفة العلم الطبيعي، بعد التصحيح الذاتي للأخطاء في البناء المعرفي السابق.
وبعد رفض مضادات العلم وضع القدماء له مقياسا أو معيارا معروفا هو «مطابقة الاعتقاد للواقع»، لا يختلف كثيرا عن منطق الاختبار التجريبي. العلم البسيط هو المطابقة للواقع، والعلم المركب هو العلم بهذه المطابقة؛ أي العلم بالعلم،
26
أو نظرية المنهج وفلسفة العلم التي قيل في تعريفها إنها العلم بالعلم. العلم طبعا أوسع من المطابقة مع الواقع فحسب، هو أيضا مطابقة مع العقل ليكون متسقا قائما على الأدلة، ومع النفس ليكون تصورا أو تمثلا أو اعتقادا، ثم مع الواقع كي يمتنع أن يكون وهما أو خيالا،
27
بهذا يحمي العلم نفسه من الصورية الخالصة التي تتناقض مع المضمون الإخباري للعلوم الطبيعية، أو من التجريبية الفجة التي راح زمانها ومن الوجدانية والانفعالية التي يستحيل أن تضطلع بالعلم الطبيعي؛ فيكون العلم بفضل ما أسماه الأقدمون مطابقة، كيانا صوريا وماديا، عقلانيا وتجريبيا.
العلم هو كل اعتقاد جازم مطابق لسبب، فيتميز عن الشك والظن؛ لأنهما ليسا جازمين، وعن الجهل؛ لأنه غير مطابق، وعن التقليد؛ لأنه اعتقاد جازم مطابق، لكن لغير سبب.
28
وإن قيل إن العلم الطبيعي لم يعد اعتقادا جازما، بل معرفة مفتوحة للتطوير والتعديل والتقدم؛ فإن هذا لم يغب بشكل ما عن بال القدماء الذين لم يروا العلم معارف بقدر ما هو بناء نظري. وقد عرف بعضهم العلم بأنه حصول الشيء في العقل. وإذا كان هذا التعريف صوريا، يقوم على عالم المعقولات ويغفل دور التجربة الأساسي في العلوم الطبيعية، فإن المطابقة مع الواقع جعلت العلم الضروري عند القدماء هو القائم على الحس والمشاهدة، وتعني أصلا حاسة البصر، ثم امتدت حتى شملت الحواس الخمس، ولم يكن اليقين الحسي يقل عن اليقين العقلي
29
خصوصا في المنطق الحسي الطبيعي عند الأصوليين.
ثم يظهر النظر - أولى الواجبات - القائم على الدليل الصحيح باعتباره شرط العلم، وفي وجوب النظر كطريق للعلم نجد الزاوية الركينة لانطلاقة الطبيعيات الإبستمولوجية كحق وواجب على المسلم المعاصر، فأولا: «النظر واجب إجماعا»،
30
النظر حسن في ذاته، وعدم النظر قبح في ذاته؛ لأن العلم حسن والجهل قبيح، والنظر يصبح أكثر وجوبا بعد انتهاء آخر مرحلة من مراحل الوحي، باعتبار الإسلام خاتمة الرسالات السماوية، وتتفاوت درجة وجوب النظر بين الإجمال والتفصيل طبقا للحاجة وللاستعدادات.
النظر الإجمالي واجب على الجميع؛ لأنه التصور العام للعالم. أما النظر التفصيلي فيتفاوت من فرد إلى فرد طبقا لدرجة التفقه والقدرة على النظر. من زاوية الطبيعيات، النظر التفصيلي هو النظر التخصصي، كلما ازداد الوعي اتسعت مساحة النظر التفصيلي، وزاد المتخصصون في العلوم الطبيعية، المطلوب أن يتحول وجوب النظر إلى تكليف شرعي.
إن التكليف بالنظر تكليف بالعلم؛ لأن إيجاب النظر إيجاب للعلم، وكمال النظر بتوليد العلم، وكلاهما مقدور للإنسان.
31
رأى الأشاعرة أن ارتباط النظر بالعلم مجرد عادة؛ لأن العلم كسبي إلهي، وليس بفعل النظر، لكن قال المعتزلة: إن النظر يؤدي إلى العلم عن طريق التوليد، التوليد موجب للعلم إيجاب العلة لمعلولها، لكن الصلة بينهما ليست آلية، بل يتولد العلم عن النظر إذا توافرت شروط التوليد، ويمكن أن نجدها في منطق الكشف العلمي الحديث من ضرورة الإلمام بموقف المشكلة المطروحة للبحث ... وعناصرها والجهود السابقة، ثم طرح فرض علمي لحلها وفحصه منطقيا وتجريبيا ... إلخ.
وأخيرا شهدت نظرية العلم محاولات لتحديد العلم باعتباره نظرية شاملة للنظر والعمل، وكأن العلم يتأسس في العقل ويقوم على الواقع (العقل والواقع = الفرض والملاحظة). ثم تظهر مادة العلم الضروري بمعنى الفطري، مثل المسلمات العقلية وبداهات العقول؛ فتظهر نظرية العلم باعتبارها نظرية في العقل. العقل وسيلة العلم وآلته، والعلم نتيجته وثمرته. وتظهر الحدسيات والحسيات كجزء من المعرفة الضرورية والتواتر كنموذج لها مشروط بالبداهة.
32
هذا العلم الضروري أو الفطري أساس معروف، أسماه الإبستمولوجيون المحدثون الحس المشترك
Common Sense
وعنوا به، وغاص كارل بوبر في أعماقه؛ حيث اهتم بما أسماه النزوعات الفطرية أو الاستعدادات السيكولوجية التي قد تكون على درجة عالية من الاختلاف والتعقيد يولد الكائن الحي مزودا بها، ليواجه بها الواقع التجريبي، فتتعدل وتتغير مع تطور الكائن الحي.
33
اهتمام المتكلمين بالعلم الفطري أو الضروري يعني أن مبدأ العلم مساوق لوجود الإنسان ومطابق لفطرته، ورأوا مادته في المسلمات العقلية والبداهات وأوائل العقول وشهادات الوجدان وتواتر الأخبار ومجرى العادات ... كلها تستلزم إنسانا حيا ذا حس وتجربة وحدس وعقل وتواتر.
العقل ليس هو العقل الصوري فقط، بل هو الجامع للحس والوجدان والفكر والعادة والخيال،
34
وكلها مطلوبة في نظرية المنهج التجريبي المعاصرة، من أجل قدح زناد العقل العلمي ليطرح فرضا جريئا خصيبا ... فالعلم مشروط بحياة العقل، والوجدان أحد مظاهره. الأصول الأولية أو العلم الفطري، مقدمة لا تنفي، بل تثبت ضرورة الانطلاق منها إلى العلم الكسبي بالنظر والاستدلالات والمشاهدة والتجربة والعادة.
في كل هذا نستوعب تراث الأقدمين ونتجاوزه، حيث كان العلم في زمانهم مزدهرا نسبيا، لكن بوصفه دائرة من الدوائر التي ترسمت حول الوحي. وتعيين أوليات الإبستمولوجيا الطبيعية في نظرية المعرفة - صدر المقدمات - يمكن أن يجعل العلم الطبيعي في عصرنا محورا وليس مجرد دائرة.
على العموم أصبحت نظرية العلم في آخر صورها نظرية في المنطق. وهذا ما ظهر بوضوح في الفلسفة التي أصبح المنطق فيها بديلا عن نظرية العلم وسابقا على الطبيعيات والإلهيات، فهو آلة العلوم كلها تكريسا لبقاء الطبيعيات في نظرية الوجود، وهذا ما حاولنا قطعه فيما سبق.
لقد بدأت نظرية العلم بذلك في الاختفاء من المؤلفات المتأخرة وعصر الشروح، وأصبح الواجب الشرعي بديلا عن الواجب النظري، فاختفى النظر وبقيت الشعائر. وبدلا من إحكام النظر انشغلوا بعد العقائد، هل يؤمن المؤمن بخمسين أم بعشرين عقيدة!
35
لقد تقلص الفكر الموضوعي وتبخرت الطبيعيات، حتى كان الاغتراب التام عن الطبيعة، والانتقام منها بنفيها أو هدمها.
لعل الإمام الشيعي المعصوم أو الزعيم ... المعلم، أمير الجماعة ... كلها بدائل لنظرية العلم أكدت اختفاءها، الذي تفاقم في بعض الحركات السلفية التي برزت أخيرا، لتبلور خطورة تراجع نظرية العلم، وخطورة تجمد حركية التجديد وتقوقع الموروث على ذاته، حتى يستطاع إلباس الدين ثوب الإرهاب وترويع الآمنين! ولله في خلقه شئون!
وفي كل هذا، ماذا عسى أن يفيد علم الكلام الجديد؟ وكيف له أن يتجه إلى المستقبل، إن لم ينفض كل غبار لتراجع الطبيعيات ونظرية العلم وصيرورة التجديد، ويرم بكل ثقله على تلك العناصر التي تم تعيينها - في نظرية المعرفة - ثم تطويرها، ليتشبع وعي المسلم المعاصر بأصوليات المنهج العلمي كأسلوب لمواجهة العالم المعلوم، وليس فقط العالم العلامة، وبأن النظر في العقائد ... علم الكلام أو علم التوحيد ... يفضي إلى الاضطلاع بإشكاليات الطبيعيات المعرفية، كحق وكواجب وكشرف وكحياة ... ومن قبل ومن بعد كتحقيق لرسالة الوحي.
بهذه الخلفية الأيديولوجية يمكن أن ينهض الإنسان العربي المسلم ليلحق بعجلة التاريخ، ويجد لنفسه مكانا في بانوراما المستقبل. •••
لو استطاع علم الكلام أن يفعل هذا لكان حقا أيديولوجيا مستقبلية تثبت وجود الإنسان المسلم.
في عصر الفيزياء التيوتونية الكلاسيكية ساد المنهج الاستقرائي، الذي يبدأ من الملاحظة ثم يعممها في فرض واختبار هذا الفرض ... ولا حاجة إلى الإنسان المبدع الخلاق، حتى أكد بيكون أن البحث العلمي متاح لذوي العقول المتوسطة. انهار المنهج الاستقرائي، وانهارت مثل الفيزياء الكلاسيكية الآلية الحتمية، بثورة النسبية والكمومية (الكوانتم) في مطالع القرن العشرين، واتضح أن المنهج التجريبي هو المنهج الفرضي الاستنباطي.
فلن يبدأ البحث العلمي إلا بفرض يبدعه ذكاء العالم، يهبط منه إلى وقائع التجريب ليختبره، وتبعا لنتيجة الاختبار يقبله أو يعدله، أو يرفضه ثم يتلوه فرض آخر أنجح ... وهكذا في متوالية التقدم، فليس العلم الطبيعي اكتشافا لحقائق،
36
بل محض سلسلة من فروض ناجحة .
وكما يقول فيرنر هيزنبرج - أبو مبدأ اللاتعين الخطير: إن أي نظرية من نظريات العلم الفيزيائي ليست سوى حلقة من السلسلة اللامتناهية لحلقات الحوار بين الإنسان والطبيعة.
ولم يعد من الممكن أن نتحدث ببساطة عن الطبيعة بحد ذاتها، علوم الطبيعة إذن تفترض سلفا وجود الإنسان.
37
وإذا كان عالم نيوتن آلة ميكانيكية، تسير في مسارها المحتوم وفقا لقوانينها المطردة بفعل عللها الداخلية، في مكان وزمان مطلقين، بإزاء أي مراقب في أي وضع كان، لتختفي فعالية الذات الإنسانية، بل دورها ووجودها، تحقيقا لموضوعية زائفة وموهومة؛ فإن عالم النسبية ليس هكذا البتة، ولا بد من خلق أو على الأقل تحديد منظور وسرعة المراقبة، ولا تتأتى الملاحظة أصلا في عالم الكمومية (الكوانتم) بغير فرض يبدعه العقل ويستنبط منه وقائع الملاحظة.
هكذا أدرك العلم الطبيعي المعاصر أنه نشاط إنساني بحت، وأصبحت فصول المسرحية العلمية تنبثق من قلب الواقع الإنساني بحدوده المعرفية، من خلال الإنسان، لا من خلال مسار الآلة الكونية العظمى، فأصبح العلماء - كما أشار نيلز بور - ليسوا فقط المراقبين أو المشاهدين، بل هم أيضا الممثلون والمخرجون والمؤلفون لملحمة العلم الطبيعي. فحق قول جوزيف مارجوليس: «إن العلوم الفيزيائية محض مغامرة إنسانية.»
38
ولأن صلب هذه المغامرات وطرفيها الأقصيين المنهج والتقانة ضرورة الآن لكل أيديولوجيا نهضوية مستقبلية، كانت أولى واجبات علم الكلام المتجه نحو المستقبل أن يفسح لنا الحلبة، ويلقي في روعنا أو في نسيجنا العقائدي، العزائم والجسارة لخوض أمثال هذه المغامرات. (4) مسك الختام
كان هذا استيعابا وتجاوزا لعلم الكلام القديم، رفضا جدليا لإسرافه في تدمير الطبيعة متوهما أنه يفعل هذا لحساب الله، ولا جناح عليهم، فقد أملت مرحلتهم التاريخية ضرورة إثبات العقائد الإلهية بأي سعر كان.
في مرحلتنا المعاصرة ينطلق علم الكلام الجديد من العقيدة المثبتة، كمقدمة تفضي إلى تأكيد وجود الإنسان المسلم، أولا وقبل كل شيء في العالم الطبيعي الذي يحيا فيه، واستلزم هذا قطعا معرفيا لطبيعيات الأقدمين، كآلية للعقل العلمي الطبيعي (الفيزيوكيماوي) وكتطور مشروع للصيرورة الجدلية.
إثبات وجود الإنسان العربي المسلم في حضارة اليوم والغد ، واستخلافه في الأرض في النماء والعمران ... هو الهدف المحوري الذي تتآزر من أجله الجهود.
ولما كان العبء في تحقيق هذا على كاهل الكلام بوصفه مناط الأيديولوجيا الإسلامية، كان كل هذا يعني أن الألوهية أفق ضروري لكي يثبت الإنسان المسلم وجوده الحضاري المتميز - لكن المعاصر والمستقبلي - بتأكيد الموقف الطبيعي العلمي.
ومشروعنا هذا لشق طريق مستقبلي للطبيعيات في علم الكلام يبلغ الآن مسك ختامه وسدرة المنتهى؛ حيث يحلق حول ربى الألوهية، وهي بطبيعة الحال محور علم الكلام في الماضي وفي المستقبل على السواء، فطالما اعتبر الفقهاء والمتكلمون أسماء الله الحسنى مثلا عليا كي نتبارى في التحلي بها، مما يفتح أمام الوعي المسلم أفقا لانهائيا، تقدما غير متناه، مشروعا لا يقبل الإنجاز النهائي أبدا.
وهل من حلبة لتحقيق مثل هذا التقدم، للتباري في التحلي بالمثل العليا التي تتمثل في الأسماء الحسنى، أكثر شرعية ومشروعية وأصولية من حلبة العلوم الطبيعية.
فكما تناثر في سياق الحديث السالف: العلم علم، والله العليم ... العلم حياة والله الحي ... العلم ذروة من ذرى تطور الحكمة، والله الحكيم ... العلم خبرة، والله الخبير ... العلم فارس الحلبة في عالم الشهادة، والله الشهيد ... العلم تبديد لظلمات الجهل، والله النور ... العلم قدرة، والله القادر المقتدر القدير ... العلم هيمنة على الطبيعة، والله المهيمن ... العلم جبروت، والله الجبار ... العلم إبداع وخلق لنظريات تفسيرية، والله البديع الخالق البارئ المصور ... ولاختبار تلك النظريات أسرف العلم في الأجهزة المعملية التي تراقب ما لا يبصر، وترصد ما لا يسمع، وتحصي ما لا يعد، والله السميع البصير الرقيب الحسيب المحصي ...
ثم يتمخض العلم عن تقاناته، وهي ضرورية لتحقيق الأمن الغذائي، والله المقيت الرزاق المنعم ... ولإبراء المرضى، والله الشافي ... إنها رحمة بالمجذومين والمصروعين والمعتوهين، والله الرحمن الرحيم ... كل التقانات السلمية خلاص ومغفرة وتوبة من القحط والجوع والضعف والمرض والعجز والألم والسأم، والله العفو الرءوف المحسن الغفور الغفار التواب ... وبالمثل تخلق تقانات العلم قوة عسكرية، والله القوي ... قادرة على الردع وتأمين الحدود للعيش في سلم، والله السلام ... على الفتك بالأعداء، والله المنتقم ... ليس فقط السلاح النووي؛ إذ يخلق العلم في يد أربابه أشكالا جمة، كالإعلام، الإنتاج بالجملة، تخليق المواد الأولية ... إلخ ، للانتقام والسحق وإلحاق الأذى والضرر بالخصوم؛ حفاظا على المصلحة والعزة القومية والتفوق الأيديولوجي ... ويا ويل الخصم الأيديولوجي إن كان مجردا من العلم، عاجزا عن دفع الضر والأذى بمثله أو أقوى منه، ليس أمامه إلا الذل والهوان والتبعية، والله العزيز الغني المغني القاهر، الضار النافع المعز المذل الخافض الرافع القابض الباسط ... المؤخر ... المقدم.
حلق العلم الطبيعي في ربى التحلي بأسماء الله الحسنى كمثل عليا، وقد حث الفقهاء على التباري في هذا ... ولكن العلم هو الذي أحرز في المباراة هاتيك الذرى السوامق التي لم يدانها أي متبار سواه. هذا لأن العلم الطبيعي رؤية إنسانية موحدة للطبيعة، تطرح الموضوع بالطريقة التي يتفق عليها جميع راصديه ... إنه التوحيد الحقيقي، المفضي توا إلى التوحيد الشامل صلب عقيدة الإسلام.
فكيف بالله يتوانى الإنسان المسلم عن رفع هذه الراية المعاصرة الخفاقة للتوحيد/العلم ... علم التوحيد ... علم الكلام المنطلق نحو المستقبل.
ثبت المراجع
المراجع التراثية (1)
ابن حزم الأندلسي: الأصول والفروع، جزءان، تحقيق د. عاطف العراقي، د. سهير أبو وافية ود. إبراهيم هلال، النهضة العربية، القاهرة، 1978. (2)
ابن سينا الشيخ الرئيس أبو علي: الإشارات والتنبيهات، مع شرح نصير الدين الطوسي، القسم الثاني: الطبيعيات، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، 1957. (3)
ابن سينا الشيخ الرئيس أبو علي: النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية (مختصر الشفاء)، طبقة محيي الدين الكردي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1331ه. (4)
ابن سينا الشيخ الرئيس أبو علي: رسائل في الحكمة والطبيعيات، مطبعة الجوائب، قسطنطينية، 1298ه. (5)
ابن رشد (أبو الوليد): تهافت التهافت، تحقيق سليمان دنيا، جزءان، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1981. (6)
ابن متويه (الحسن): التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، تحقيق سامي نصر لطف، د. فيصل عون، دار الثقافة، القاهرة، 1975. (7)
ابن الهيثم (الحسن): ثمرة الحكمة، تحقيق، د. محمد عبد الهادي أبو ريدة (بدون ناشر). القاهرة، 1991. (8)
أبو الريحان البيروني: استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، تحقيق د. أحمد سعيد الدمرداش، الدار المصرية للتأليف والترجمة ، القاهرة، 1965. (9)
الجويني (إمام الحرمين عبد الملك): لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، تحقيق فوقية حسين محمود، المؤسسة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1965. (10)
النيسابوري (أبو رشيد سعيد بن محمد): في التوحيد، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1969. (11)
رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، أربعة أجزاء، دار صادر ببيروت، 1957. (12)
رسائل العدل والتوحيد، تحقيق د. محمد عمارة، جزءان، دار الهلال، القاهرة، 1971. (13)
رسائل الكندي الفلسفية: تحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، الجزء الأول، دار الفكر العربي، القاهرة، 1950.
كتب عربية مؤلفة (1)
د. أحمد فؤاد الأهواني: الفلسفة الإسلامية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1985. (2)
د. أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها، دار المعارف، القاهرة، 1988. (3)
أمين الخولي: المجددون في الإسلام، سلسلة الأعمال الكاملة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1992. (4)
د. أنور عبد الملك: تغيير العالم، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1985. (5)
جورج طرابيشي: المثقفون العرب والتراث: تحليل نفسي لعصاب جماعي، رياض الريس للنشر، لندن 1991. (6)
د. حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة: خمسة مجلدات، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988. (7)
د. حسن حنفي: التراث والتجديد، الأنجلو المصرية، القاهرة، ط3، 1987. (8)
د. حسن حنفي: دراسات إسلامية، الأنجلو المصرية، القاهرة، 1981. (9)
حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية، جزءان، دار الفارابي، بيروت، ط6، 1988. (10)
حميد إبراهيم علي: لاهوت التحرير: الدين والثورة في العالم الثالث، دار النيل، الإسكندرية، ط2، 1993. (11)
د. زكي نجيب محمود: حصاد السنين، دار الشروق، القاهرة، 1992. (12)
د. طيب تيزيني: من التراث إلى الثورة، دار ابن خلدون، بيروت، ط1، 1976. (13)
د. عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، دار التنوير، بيروت، ط1، 1983. (14)
د. عزيز العظمة: التراث بين السلطان والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1990. (15)
علي حرب: الحقيقة والتأويل، دار التنوير، بيروت، 1985. (16)
علي حرب: نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1993. (17)
د. علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1966. (18)
علي أومليل: التراث والتجاوز، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1990. (19)
د. فيصل بدير عون، فكرة الطبيعة في الفلسفة الإسلامية، مكتبة الحرية الحديثة، القاهرة، 1980. (20)
محمد إقبال: تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط2، 1968. (21)
د. محمد جابر الأنصاري: تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1922. (22)
محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، دار الطليعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1984. (23)
محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1990. (24)
محمد عابد الجابري: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط6، 1993. (25)
د. محمد عاطف العراقي: الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا، دار المعارف، القاهرة، 1971. (26)
د. محمد عاطف العراقي: النزعة العقلانية في فلسفة ابن رشد، دار المعارف، القاهرة، 1979. (27)
د. محمد عاطف العراقي: تجديد في المذاهب الكلامية والفلسفية، دار المعارف، القاهرة، 1973. (28)
محمد فرحات عمر: طبيعة القانون العلمي، الدار القومية، القاهرة، 1966. (29)
د. نبيل علي: العرب وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، 1994. (30)
د. يمنى طريف الخولي: العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1987. (31)
د. يمنى طريف الخولي: فلسفة كارل بوبر: منطق العلم ... منهج العلم، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1989. (32)
د. يمنى طريف الخولي: مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها، دار الثقافة، القاهرة، 1990.
دراسات (1)
د. أسامة الخولي: التثقيف العلمي في الوطن العربي: واقع الحاضر وتطلعات المستقبل، محاضرة في منشورات معهد الكويت للأبحاث العلمية، أبريل 1984. (2)
ساسين عساف: مأزق الأيديولوجيا: عناصره وانعكاساته في الفكر العربي، آليات التجاوز، مجلة الفكر العربي، بيروت، ع68، 1992، ص32-36. (3)
يحيى محمد: الجابري والقطيعة المزعومة بين الفكر المغربي والفكر المشرقي، مجلة الفكر العربي، ع76، 1994، ص22-59. (4)
د. يمنى طريف الخولي: المنهج العلمي: كيف يفيد المشروع الحضاري، مجلة القاهرة، ع12، نوفمبر 1992، ص26-31. (5)
د. يمنى طريف الخولي: أدلار الباثي ومدارس قرطبة في الرياضيات: انتقال الرياضيات من بغداد إلى العلم الحديث، أعمال المؤتمر الدولي الثالث للحضارة الأندلسية، مركز النشر لجامعة القاهرة، 1992، ص247-256.
مترجمات (1)
جاستون باشلار: الفكر العلمي الجديد، ترجمة عادل العوا، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد، دمشق، 1969. (2)
جاستون باشلار: تكوين العقل العلمي، ترجمة د. خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، 1982. (3)
جاستون باشلار: العقلانية التطبيقية، ترجمة بسام الهاشم، دائرة الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1987. (4)
ج. ج. كراوذر : صلة العلم بالمجتمع، ترجمة حسن خطاب، النهضة المصرية، القاهرة، د. ت. (5)
ج. دي بور: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1938. (6)
جان بول سارتر: الوجود والعدم: دراسة في الأنطولوجيا الظاهراتية، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، بيروت، 1966. (7)
ريمون رؤية: نقد الأيديولوجيات المعاصرة، ترجمة د. عادل العوا، عويدات، بيروت، 1978. (8)
فرانكلين. ل. باومر: الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، الجزء الأول، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1988. (9)
فيرنر هيزنبرج: الطبيعة في الفيزياء، ترجمة د. أدهم السمان، دار طلاس، دمشق، 1986. (10)
كارل مانهايم: الأيديولوجيا واليوتوبيا، مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، ترجمة د. محمد رجا الدريني، المكتبات الكويتية، 1980. (11)
كلود ليفي شتراوس: الأسطورة والمعنى، ترجمة د. شاكر عبد الحميد، دائرة الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1986. (12)
نيقولا ريشر: تطور المنطق العربي، ترجمة ودراسة وتعليق د. محمد مهران، دار المعارف، القاهرة، 1985. (13)
بول ريكور: الخيال الاجتماعي ومسألة الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة منصف عبد الحق، بحث منشور في المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، ع7، أكتوبر 1988.
مراجع أجنبية (1)
Althusser. Louis, Politic And History, trans by Ben Brewster, London, 1972 . (2)
Collingwood R. G, The Idea of Nature, Clarendon Press, Oxford, 1945 . (3)
Crowther J. G, A short History of Science, Methuen Educational. L. T. d, London, 1969 .
وقد قمنا بمشاركة د. بدوي عبد الفتاح بترجمة هذا الكتاب تحت عنوان: «قصة العلم»، صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1998. وطبعة أخرى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999. (4)
Feyerabend P. K, Against Method: Outline of Anarchistic Theory of Knowledge, Redwod Burn, London, 1984 . (5)
Hill. D. W, The Impact And value of Science, Hutchinson, london . (6)
Huntington S., The Clash of Civilizations, in: Foreign Affairs, 71, 3. Summer, 1993. pp 23-49 . (7)
Laudan Larry, Progress And Its Problems: Toward a Theory of Sientific
. (8)
Margolis J., Science Without Unity: Reconciling The Human And Natural Sciences, Basil Blachwell, Oxford, 1987 . (9)
. (10)
Russell, Bertrand, The Scientific Outlook, George Allan & Unuin, London, 1934 .
معاجم
أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1905.
المقري الفيوي، المصباح المنير، المطبعة الأميرية، القاهرة 1922.
أمين الخولي (معد)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، ج4، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1968.
مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، القاهرة، 1979.
صفحه نامشخص