كتاب طبقات الفقهاء ﵃ تأليف الإمام العالم الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروز أبادي ﵀، رواية أبي الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب عنه، رواية الإنان العلامة تاج الدين ابي اليمن زيد ابن الحسن بن زيد الكندي عنه.
ترجمة المؤلف ولد إبراهيم بن علي بن يوسف (١) الذي أصبح - من بعد - يكنى أبا إسحاق ويلقب جمال الدين سنة ٣٩٣ (٢) هـ. في بلدة فيروز آباد (بكسر الفاء أو فتحها)، وهي مدينة جور الواقعة على بعد ١١٥ كم إلى الجنوب من شيراز، وبها نشأ وفيها بدأ تحصيله العلمي، وكان من أول شيوخه الذين علق عنهم فيها أبو عبد الله محمد بن عمر الشيرازي؛ وبعد أن نال من العلم ما يمكن أن يتيحه له بلده، اغترب عنه استكمالًا للطلب فدخل شيراز سنة ٤١٠ وعمره في حدود السابعة عشرة، كما دخل الغندجان، ودرس فيهما وفي غيرهما على شيوخ الفقه حينئذ، ومنهم أبو أحمد عبد الرحمن بن الحسين الغندجاني، علق عنه بشيراز والغندجان؛ ويقول السبكي أنه درس في شيراز علي أبي عبد الله البيضاوي (- ٤٢٤) وأبي أحمد عبد الوهاب بن محمد بن رامين البغدادي (- ٤٣٠) وهذان من أساتذته البغداديين أيضًا، فلعله أخذ عنهما في _________ (١) اقتصرت في هذه المقدمة على ترتيب الأخبار التي وردت في المصادر عن الشيرازي دون تحليل، أما المصادر المعتمدة فإني أذكرها في ختام هذه المقدمة. (٢) في اللباب أنه ولد سنة ٣٧٣ وهذا ضرب من التصحيف الذي يقع كثيرًا بين لفظتي «تسع» و«سبع»؛ وقيل إن مولده سنة ٣٩٥. وقال الحميدي: «سألته عن مولده فذكر دلائل دلت على سنة ست وتسعين» .

1 / 1

مرحلتين؛ كذلك دري علي أبي عبد الله الجلاب خطيب شيراز وفقيهها النظار، واتصل بأبي الفرج الفامي الشيرازي أحد رجال المذهب الداودي الظاهري، وكان يناظره وهو في تلك السن المبكرة، إذ يقول في الطبقات " وكنت أناظره بشيراز وأنا صبي "، وهذا يدل على أنه أحرز التمرس بفن الجدل وهو في تلك السن. وبعد هذه المرحلة التي قضاها طالبًا للعلم في بلاد فارس توجه إلى العراق، فدخل البصرة ودرس على فقهائها ومنهم الحوزي؛ ثم قصد بغداد فدخلها سنة ٤١٥ وهو في الثانية والعشرين من عمره، متابعًا طلب العلم، فوجد في بغداد بيئة علمية غير التي عرفها في سائر المدن والقرى التي أتيح له دخولها، ووصل نفسه بكبار الفقهاء من القائمين بمذهب الشافعي، ومن هؤلاء الشيرجي الفرضي الحاسب وابن رامين وأبو عبد الله البيضاوي ومنصور بن عمر الكرخي، ولكن أكبر أساتذته في هذا الدور هو أبو الطيب الطبري (- ٤٥٠) الذي يقول هو في وصفه: " ولم أر في من رأيت أكمل اجتهادًا، واشد تحقيقًا، وأجود نظرًا منه "، ويليه في المنزلة بين سائر شيوخه أستاذه أبو حاتم محمود بن الحسن الطبري المعروف بالقزويني، قال: " ولم أنتفع بأحد في الرحلة كما انتفعت به وبالقاضي أبي الطيب الطبري ". وعلي أبي حاتم قرأ أبو إسحاق الأصول، كما درس الفقه على آخرين منهم الزجاجي وأبو عبد الله محمد بن عمر الشيرازي وغيرهما، وسمع الحديث علي أبي بكر البرقاني وأبي علي ابن شاذان، وحضر بعض حلقات الدروس لغير الشافعية، فهو يقول في القاضي أبي علي الهاشمي الحنبلي: " حضرت حلقته وانتفعت به كثيرا ". وقد نال أبو إسحاق إعجاب أستاذه أبي الطيب الطبري وثقته بعد وقت غير طويل، فأخذ الأستاذ يأذن له بتدريس أصحابه في مسجده حين رتبه معيدًا، وأخذ الشيرازي نفسه بخطة صارمة فقد قال متحدثًا عن نفسه في تلك الفترة: " كنت أعيد كل قياس ألف مرة، فإذا فرغت منه أخذت

1 / 2

قياسًا آخر وهكذا؛ وكنت أعيد كل درس ألف مرة فإذا كان في المسألة بيت يستشهد به حفظت القصيدة " وما ذلك إلا طلبًا للتثبيت واليقين؛ وكان قد مر عليه ببغداد حوالي خمسة عشر عامًا حين سأله أستاذه أبو الطيب الطبري أن ينفرد في أحد المساجد، ففعل ذلك وأخذ يدرس في مسجد بباب المراتب. وما لبث أن اشتهر أمره وانتشر صيته في البلدان ووصل إليه الطلبة من كل مكان وأخذت الفتاوى تحمل إليه من جميع الجهات. وأصبح في حياة شيخه أبي الطيب من اكبر فقهاء الشافعية في عصره، شهرة بالفقه وأصوله ومسائل الخلاف وقوة العارضة في الجدل، وأصبح شيخه يعتمد عليه في شئون المناظرة ويقدمه لذلك. وكانت العادة ببغداد إذا أصيب أحد بوفاة أن يجلس للعزاء في مسجد الحي ليتقبل التعزية ويمضي على ذلك أيامًا لا يتخللها سوى قراءة القرآن أو المناظرة بين الشيوخ؛ فلما توفيت زوجة الشيخ أبي الطيب حضر للعزاء فيمن حضر القاضي أبو عبد الله الصيمري شيخ الحنفية فرغب الناس إليهما في المناظرة في مسألة فقهية فلما اعتذر الصيمري عن ذلك قال الناس: من كان له تلميذ مثل أبي عبد الله الدامغاني لا يحوج إلى الكلام وها هو حاضر من أراد أن يكلمه فليفعل. فقال القاضي أبو الطيب: وهذا أبو إسحاق من تلامذتي ينوب عني. وفي سنة ٤٤٧ توفي قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن جعفر بن ماكولا الشافعي، فاتجهت أنظار الخليفة وكان يومئذ هو القائم بأمر الله إلى أبي إسحاق الشيرازي، وأراده على أن بتولى قضاء القضاة فأبى فحاول إكراهه على ذلك فامتنع أيضًا، فوكل به من يلازمه حتى يحمله على القبول، فكتب إله أبو إسحاق: " ألم يكفك أن هلكت حتى تهلكني معك " فتأثر الخليفة لهذا وقال: " هكذا فليكن العلماء؛ إنما أردنا أن يقال انه كان في عصرنا من وكل به وأكره على القضاء فامتنع وقد أعفيناه "؛ ومثل هذه الحكاية روى عن غير أبي إسحاق مع غير القائم بأمر الله.

1 / 3

وبعد وفاة الشيخ أبي الطيب الطبري (٤٥٠) يكاد أبو إسحاق يصبح العلم المتفرد بين فقهاء مذهبه، لا ينازعه في هذا منازع حتى أن الوزير نظام الملك لما بنى المدرسة النظامية ببغداد لم يقع اختياره لتولي التدريس فيها إلا على الشيخ أبي إسحاق، بل أنه جعلها برسمه بعد أن وافق الشيخ نفسه على ذلك. وفي العاشر من ذي القعدة سنة ٤٥٩ جمع العميد أبو سعد القاشي الناس من مختلف الطبقات لا فتتاح المدرسة (١) . والقاء أول درس فيها، وطال انتظار الناس تشوقًا لحضور أبي إسحاق فلم يحضر، وطلب فلم يوجد، وعندئذ عهد العميد أبو سعد إلى أبي نصر بن الصباغ بالتدريس فيها. وقيل أن أبا إسحاق إنما عدل عن الحضور بع موافقته لأن شابًا لقيه في الطريق فقال له: يا سيدنا، تريد تدريس في المدرسة؟ قال نعم. قال: وكيف تدرس في مكان مغصوب؟ وعندئذ غير الشيخ نيته ولم يحضر. ولما تولى ابن الصباغ التدريس في النظامية وبلغ الخبر نظام الملك غضب وأقام القيامة على العميد أبي سعد، وأبى أن يقبل بأحد سوى الشيرازي؛ وظهر أبو إسحاق بمسجد باب المراتب يلقي دروسه على عادته، فاجتمع إليه الناس داعين له لأنه رفض التدريس، وكان قد بلغهم انه قال: " إني لم أطب نفسًا بالجلوس في هذه المدرسة لما بلغني أن أبا القاشي غصب أكثر آلاتها ونقض قطعة من البلد لأجلها ". غير أن تلامذة أبي إسحاق اغتموا لما فعله شيخهم، وفتروا عن حضور دروسه، وراسلوه يعلمونه انه إن لم يتول التدريس بالمدرسة فانهم سينفضون من حوله ويلحقون بابن الصباغ، فأرضاهم بالاستجابة تطيبًا لقلوبهم؛ وصرف ابن الصباغ عن التدريس بعد أن قضى في ذلك عشرين يومًا، وجلس أبو إسحاق في النظامية في مستهل شهر ذي الحجة سنة ٤٥٩ وبقي فيها مدرسًا إلى حين وفاته أي حوالي سبعة عشر عامًا؛ _________ (١) بدء بعمارة النظامية في ذي الحجة سنة ٤٥٧.

1 / 4

وكان إذا حضر وقت الصلاة خرج منها وصلى في بعض المساجد القريبة تحرجًا من الصلاة في موضع لحقته شبهة الغصب. وكان الاضطلاع بأمر النظامية يعني تغيرًا في نوع المسؤولية التي حملها أبو إسحاق، فهو من بعض النواحي لم يعد مسئولًا عن تصرفاته وحدها في المدرسة، وإنما للمنصب جعله يغدو " ممتثلًا " للشافعية ببغداد ولهذا نراه يظهر لأول مرة في " مهمة رسمية " عند وفاة القائم سنة ٤٦٧ وبيعة المقتدي بأمر الله؛ ويخبرنا أن المقتدي كان كبير الاجلال للشيخ أبي إسحاق وأن الشيخ كان سببًا لجعله خليفة، ولكنه لا يوضح كيف كان ذلك؛ وأيًا كان الأمر فان هذا القول - إن صح - يدل على أن أبا إسحاق أصبح بحكم منصبه قريبًا من رجال الدولة إذا حدث ما يستدعي حضوره وهو موقف لن يعقبه من المتاعب. وما لبثت المتاعب أن أقبلت، فبيئته بغداد يغلب عليها مذهب أحمد بن حنبل، والمدرسة النظامية معقل للشافعية، ولهذا كان في مقدور المدرسين والوعاظ الشافعيين أن يتخذوها منبرًا لبث آرائهم في أتباع المذهب الحنبلي، وحضر إلى المدرسة أبو نصر القسيري (وهو ابن أبي القاسم صاحب الرسالة) سنة ٤٦٩، كان في طريقه إلى مكة (١) فتكلم على مذهب الأشعري ونصره، وتعرض للحنابلة بالذم ونسبهم إلى التجسيم، فاستاء الحنابلة من ذلك وكان زعيمهم يومئذ الشريف أبو جعفر بن أبي موسى؛ وحاول أبو إسحاق أن يهدئ الحال بين الفريقين، فسأل الشريف أبا جعفر أن يعمل على تلافي الفتنة، ولكن ابن القشيري أخرج الأمر من حيز النظامية إلى الشارع، فقد ذهب إلى أحد المساجد وأخذ يبذل مالًا لليهود علهم أن يسلموا فكان عوام بغداد _________ (١) هكذا يقول ابن الأثير، ولكن المصادر الحنبلية تقول إن نظام الملك هو الذي أرسل ابن القشيري إلى النظامية.

1 / 5