كل كاتب يقنص الأفكار والألفاظ حيث يجدها، «سنلتقي» عنوان مقال ظهر لي أخيرا، اقتبستها لفظة كتبت على صورة أرسلها جورج عبد المسيح إلى الرفيق مشهور دندش، كذلك عنه أخذت «أكثر المنهزمين يهربون وهم قاعدون»، أما عنوان «أخ ... تفه ...» فقد اقتبسته عن الرئيس فضل الله أبو منصور، وكان ذلك بعد أن ترك الشيشكلي البلاد السورية. فضل الله أبو منصور من أبطال الانقلابات، ومن أبطال الجيش السوري، وقد فصله الشيشكلي عن الجيش. في أواخر أيام «أديب» شخص عصام المحايري إلى حمص، حيث كان غسان جديد آمر لوائها، وموقف غسان جديد هو الذي قرر انهيار عهد الشيشكلي، لا تنس أن تذكرني لأقص لك حكاية مؤتمر حمص، عسى «كل شيء» لا يفوتها أن تطلب مني مقالا موضوعه: «قوة الحزب وأخطاؤه». على كل حال توجه فضل الله أبو منصور بمفارز من لواء غسان جديد ورابط خارج دمشق، على أن يهاجمها إن لم يعتزل الشيشكلي الحكم. فضل الله أبو منصور ابن جبل حوران - جبل الدروز، كان في الخامسة عشرة من عمره، حين استهوته ألبسة الجيش الفرنسي وأسلحته وخيوله؛ فجاء إلى قائد الموقع الفرنسي، وقال له: أريد أن أتطوع في الجيش، أجابه القائد: ارجع إلى بيتك يا غلام وكل كثيرا من البرغل، ثم ارجع إلي بعد سنتين. كل ما في حوران حبيب إلى قلب فضل الله أبو منصور، إنه يتحدث عن سلطان الأطرش ككاهن يجيء على ذكر قديس. بعد حوادث الشيشكلي ومذبحة جبل الدروز والدور البطولي المشرف، الذي وقفه الحزب جاءني إلى بيروت في صباح باكر فضل الله أبو منصور، ناولته جريدة أسبوعية كانت بين يدي، فقرأ فيها البرقية المزورة، وقرأ فيها أننا جواسيس الشيشكلي. رمى فضل الله أبو منصور الجريدة من يده، وصاح: «أخ ... تفه» قيل لي، وفضل الله أبو منصور لا يزال في البلاد السورية، إنه قرأ مؤخرا الجريدة الأسبوعية، وصاح ثانية: «أخ ... تفه ...»
ولا يعرف أهمية الانضباط الحزبي والمعجزة التي حققتها الحركة القومية الاجتماعية، إلا الذي تعرف إلى بطولات فضل الله أبو منصور، وكيف اكتنزت الأجيال البطولة في دمه؛ فجاء الحزب فروضها، فإذا بابن حوران كأي قومي اجتماعي آخر يقبل الأمر ويطيعه.
هنا أتمهل بكثير من الخشوع لأتحدث عن زوجة الشهيد ورفيقته التي سجنوها.
سنة 1948 كنت في سجن مع سعد الدين الجارودي وكامل حمادة في مانيلا، ودخل ذلك السجن الرهيب مواطنون لنا منهم: فؤاد جريديني، وعبد الله معصب. حتى ذلك التاريخ كانت الدنيا تحسب أن البشر لم ينتجوا ضواري أشرس وأظلم وأحط من بعض اليابانيين، ولكن هؤلاء اليابانيين أنفسهم، وقد سجنوا سعد الدين الجارودي، وفؤاد جريديني، وعبد الله معصب، وسجنوني، كانوا يمنحوننا «شرف الفروسية»؛ إذ إنهم تعلموا في مدارسهم أن بلادنا اشتهرت بالفروسية، وبذلك الاحترام يوجه للنساء.
يا خجل ضواري اليابانيين ويا خجلنا أمام الدنيا؛ إذ سجل أنذال من شعبنا أحقر جريمة عرفها تاريخنا؛ إذ شدوا بشعر زوجة الشهيد أمام طفلات أنطون سعادة وشتموها!
تعددت اجتماعاتي بحضرة الأمينة الأولى؛ فهي رفيقة كل قومي اجتماعي، وهي أمه وهي أخته، كان كل همي حين أتحدث إليها أن أفجر تلك الدموع الحبيسة التي وقفت خلف عينيها. كنت أخال أنني أعده ظفرا أن أنجح بتفجير خزان الآلام فتنهمر بكاء، كنت أتمنى أن أذكرها بالزعيم وحوادثه وحياته رجاء أن تموع فتبكي، ولكنها لم تفعل، كلما أتمناه اليوم أن تضعف الأمينة الأولى، فتبكي ولو مرة واحدة ولكني أخالها لن تفعل.
ما معنى لفظة «الأمين» أو «الأمينة»؟ إنه لقب يعطي لأي قومي اجتماعي، بعد أن يمر عليه سنوات خمس في الحزب يظهر خلالها في الإنتاج، شيئا من التفوق، ليس للأمين أية مسئولية كانت إلا أن له الحق أن يساهم في انتخاب المجلس الأعلى، وفيما عدا ذلك، إن هو لم يتسلم مسئولية ما؛ فشأنه وشأن أي قومي اجتماعي آخر سواء، والأمينة الأولى بحكم أمومتها وشهادة الزعيم، ما اشتركت في المسئوليات ولا تسلمتها ولا طلبتها وهي بعيدة - في أكثر الأحيان - عن نشاط الحزب.
توهمت فور دخولي الحزب أنني في غابة مظلمة؛ ذلك لأن عيني بهرهما مزيف الشعاع في ذلك الصالون الذي كنت أعيش فيه، واليوم أرى الأشياء في العتمة كما هي؛ لأن عيني استعادتا النظرة الطبيعية الصحيحة للأشياء.
اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل ... تقطع من العنق
... وحين شاع أمر دخولي الحزب سرت إشاعة أنني أصبحت زعيمه «خليفة سعادة»؛ ذلك لأن الأكثرين يجهلون أن ما يضبط الحزب هو دستور، والذي يسيره هو شيء فوق الدستور، شيء غير مكتوب - إرادة القوميين الاجتماعيين - وهي لا تفرض عليهم، بل هي شيء يكتسب بالولاء والإنتاج الحزبي.
صفحه نامشخص