هذا تعليق امرأة فاضلة عرفت بصداقتها لنا، وعرفت أنها تنتمي إلى أكرم شعب عرفه التاريخ، وهي بقولها هذا تعني أن الهبات للأشخاص هي عادة شرقية تشبه الرذيلة، وقد تهدم خلق الواهب والموهوب، وأنه في العصر الذي يجب فيه علينا أن نبني دولة، ونكشف عن قوى أمة يجب أن يأتي البذل لهذه الدولة، وفي سبيل هذه الأمة لا بخشيشا يرمى في كف متسول، لكانت هذه الزيارة أكثر نفعا، لو أن ما بذله سمو الأمير جاء قرضا لدولة أو إعانات لمؤسسات عامة؛ ولكان أجدى لنا ولكم أن يبذل هذا المال لا للمداحين والمستجدين، بل ثمنا لقاذفة أو لبعثة عسكرية أو لتشييد مستشفى خيري.
أما إذا تعدينا المال والهبات، فإني لأذكر أن في بيروت اليوم سياسيين ثلاثة، كنت أتصل باثنين منهم تلغرافيا وتلفونيا في كل ليلة من مانيلا (الفلبين)، حيث كنت مقيما، وكان هؤلاء الثلاثة في نيويورك أعضاء لوفدين من وفود الدول العربية، وإني أذكر بحرقة وبألم ما سمعته من أحدهم ذات ليلة على التلفون، وفي إبان معركة التصويت، على تقسيم فلسطين أن الكارثة تحجبها كلمة تصدر عن المملكة العربية السعودية، تلك الكلمة التي لم تنطق بها مملكتكم يا سيدي سنة 1947. وإنه ليؤلمني أن أقرأ اليوم عدد 20 مايو من جريدة «الهرلد تربيون» أنباء مقابلة فوستر دالز مع سمو الأمير فيصل وزير خارجيتكم؛ فأجد أنهما تحدثا في الرياض عن العلاقة الودية التي تربط مملكتكم بأميركا، فأستمع وزير خارجيتكم إلى دالز يقول:
إنه سيسعى إلى تحسين العلاقة الأميركية والدول العربية، وأنهما بحثا ببعثات أميركية تأتي إلى السعودية، وأنهما تحدثا عن مشكلة البريمي مع بريطانيا، وأنهما جاءا على ذكر آبار الزيت وآبار الماء.
يؤلمني يا سيدي، أن لا تنطق السعودية اليوم بالكلمة، التي كان يجب عليها أن تنطق بها عام 1947، وأنه من الظلم أن نتجنى على المسئولين في المملكة السعودية؛ فنقول: إن الذنب ذنبهم وحدهم. الذنب ذنبك يا سيدي، وذنبي أنا وجريمتك وجريمتي وجريمة هؤلاء المتعاظمين، المحيطين بالمسئولين في بلادك، تستثيرهم نفسية الفراشين والحجاب والخصيان و«الكورتزان»؛ فلا يسعفون الأمراء وسواهم على تفهم الأمور، وهؤلاء لم تترسخ فيهم بعد عقلية الدولة، وما تحرروا من فضائل البداوة التي ما عرفت الدولة، وعرفت القبيلة.
هل اغتنمنا من وجود سمو الأمير بيننا فرصة لإيضاح المسئولية الكبرى، ولاستثارته لتجنيد قواه الهائلة من مالية واستراتيجية؟ أم إننا اقتصرنا في حفلاتنا وضيافتنا على التملق والترفيه؟ قد يكون من الظلم أن نصدر حكما باكرا، ومن العدل والروية أن ننتظر الأسابيع المقبلة لنتثبت من أن هذه الزيارة عوضت عن موقف السعودية عام 1947، أو أنها أيقظت ضميرها.
أما من الناحية الاقتصادية، فمن الواضح أن إنفاق مليون ونصف ليرة أو مليوني ليرة، وهو المبلغ الذي أنفقه سموه هنا، لا تضر بلبنان، ولكنه كان أنفع للبنان أن يصدر تشريع في جدة يبيح أسواقها للفاكهة اللبنانية، ويمنع عن السعودية الفاكهة الإيطالية التي تكاد تحتكر أسواقكم.
أما في ما يتعلق بشركات النفط وعلاقاتكم معها معروفة، فهل اغتنم أحدهم أو اغتنم سموه هذه الزيارة ليتفهم أن الذين سرقوا حكومتهم، لا يأنفون من سرقة حكومتكم، وأن الذين تحاكمهم محاكم العدل في بلادهم يستحقون أن تحاكمهم محاكم العدل في بلادكم؟ وهل تقصى في بيروت خلال هذه الزيارة، لماذا عقد مجلس الأمن الأميركي جلستين في عهد ترومن، وفي عهد أيزنهاور، وتقدم إلى النيابة العامة في وشنطن سائلا أن تمنع التحقيق الجنائي عن شركات النفط صونا لأسماء أميركية وغير أميركية، تشتغل في دوائر الاستخبارات؟ وهل تساءل سموه، وهو يهز الأيدي ويتقبل الترحاب في بيروت من مواطنين لنا وغير مواطنين، وممن يتمتعون بثقة سموه، وينعمون بعطفه وعطف أسرته عن الحلف الشرير، الذي يؤلف بين أفراد هذه العصابة؟ وهل تقصى سموه وتقصيتم - بحكم مهمتكم كمندوب لمقاطعة إسرائيل - وبيروت قاعدة الجاسوسية والتهريب لإسرائيل - في أي وخم ازدهرت بواسق بعض الأشجار في هذه الغابة، وفي أعماق أي ظلمة غابت هذه الجذور، ومن يدفع ومن يقبض ليرش على هذه القاذورات أغلى العطور؟!
هل اخترقت الأصوات الصادقة هذا الكوردون الذي سور سموه؛ فسمع أن ليس له في دمشق وبغداد وعمان إلا كل صديق وكل حليف، أم إن مسمعه لم يصغ إلا إلى تجار الوشاية ومستغلي التفرقة؟
أية انطباعات أحدثتها زيارة صاحب السمو؟ استمع إلى الجواب من تل أبيب تعلنه إذاعتها - أنهم أقاموا معرضا للأسلحة بعضها الرشاش، الذي أطلقوا عليه اسم «هوزي»، وأنت يا سيدي تريد أن تصدر كتابا ملؤه مديح وثناء أكثره مشترى بمال.
هلا قرأت أسرار سقوط فرنسا المفاجئ في الحرب الأخيرة، وهي الدولة التي لعبت أدوارا رئيسية في تاريخ الدنيا؟ رجوتك أن تطالعها لتتعرف إلى من سبب سقوطها، حتى لو اطرحنا المثالية جانبا؛ لوجدنا في الخطر الذي ينقض عليك وعلي وعلى سموه ما يجعل هذه الصراحة واجبا بسيطا، ويسم التمويه بطابع الخيانة.
صفحه نامشخص