تأملات
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
ژانرها
نت ولا كان أخذها والعطاء
أيها الصديق:
لم يملك أصدقاؤك من دون الله لك فداء، إلا الدموع الحارة، لو رأيتهم - يا فتحي - أمس حول قبرك لرأيت ثم معنى الحزن العميق يتجسم في وجوه واجمة عليها غبرة وعيون شاخصة غارقة أحداقها في دموعها وألسن معقودة أرتج عليها من هول الموقف، وأي موقف أكبر هولا من موقف صديق ينزل صديقه بيده في قبر سحيق يودعه تحت الجنادل فيفارقه الفراق الأبدي الذي ليس فيه رجاء، أي موقف أقسى على النفوس من موقف الوداع لراحل لا أمل في رجوعه، دفنوك بأيديهم ودفنوا معك لذة الصداقة، تلك اللذة التي كان ينهل منها مجالسك ومحادثك ومماشيك، دفنوا ذلك الصفاء الذي كان يتجلى على مجالسك، ودعوك فودعوا معك أعز ما عندهم وهو الصداقة، ذلك لم يغن شيئا إلا ذكرى تبقى لك في قلوب أصحابك التي كانت مغرسا طيبا للوفاء، رحمة الله عليك فكم كنت المثل الصالح للصديق، والصديق قليل.
أيها العالم العامل:
لقد كنت في الربيع الماضي على المنابر والصحف، نكرم ذاتك ونتوج مؤلفاتك ونعلن فضلك، فما دار الحول حتى جئنا ننعي وفاءك وأنت في الحالين كبير، إن مظاهر الاعتراف بفضلك التي شهدتها بنظرك ليست بأكبر مظاهر الجلال التي قام بها من يبكونك لمقامك العلمي والعملي.
جاء القدر المحتوم فنكست الأعلام الخافقة على ربوع هليوبوليس وسرت في الناس جميعا روح أسف هادئة تظهر على وجوههم بسكون عميق، شأن الناس إذا نزلت بهم مصيبة عامة، كذلك كانت مصيبة مصر في نابغتها وفقيد العلم والارتقاء فيها حزن فاتر، لا يشبه حزن أصدقائه الجازعين، ولكنه أشمل منه أثرا وأعلى منه مقاما، لكل امرئ أصدقاء يبكونه، وليس كل عالم يعتبر موته مصيبة عامة.
جيء بجنازته إلى القاهرة من بيت أخيه الأسيف صاحب السعادة سعد باشا زغلول، شيعت بما يتفق مع مكانته العلمية وآثاره العملية ومشى فيها كل الرجال الرسميين ورجال الأمة وأهل العلم والأدب، فكان هذا الموكب من أكبر ما وجد في مصر، ولكن فتحي باشا له هذه الخصوصية، أن فضله أشهر من أن تدل عليه حفاوة الناس وآثاره أبين من أن يكون تشييع العلماء، والجنازة برهانا على أنه من العلم وبيئة العلماء.
كان فتحي باشا حديد الفهم يتوقد ذكاؤه نورا تضرب به بيننا الأمثال، بليغ العبارة حتى إنك لو كتبت عنه ما يقول في مجلسه عن أي موضوع من الموضوعات لكان ما كتبت درسا من دروس الإنشاء وقطعة من قطع البيان، فصيح اللسان يتكلم الساعات الطوال ارتجالا كلاما ممتعا لا يمل ولا يمل، نقادا لا تفوته فائتة ولا يخدع على نظره الصحيح، غزير المادة في علمه الخاص وفي العام، له ذوق صاف فلم يلهه الاشتغال بالعلم والتأليف عن تعرف الجمال فيما يقع عليه نظره من الأشياء، كأنه من أهل الفنون الجميلة كما كان على علمه من أكابر الأدباء، له عقل راجح، عاشرته زمانا غير قليل، فما علمت لسانه يسبق علمه، ولا علمه يسبق عقله.
وأما آثاره العلمية فلا حاجة بها لأن تذكر بعد أن توجت في مجلس حافل لم يبق في البلاد أحد من أهل العلم إلا شهده، وأما شأنه العملي فإنه كان في الحكومة واضع المشروعات والمدخر لحل المشكلات، وكان بمجموع مزاياه وفواضله أحق الناس بأن يسمى النابغة على التحقيق.
أيها النابغة:
صفحه نامشخص